من خلال هذه الحلقات العلمية القيمة، سنجول مع الدكتور التهامي الراجي الهاشمي في حدائق القراءات القرآنية المتواترة، حيث، سيمهد للقارئ بفضل خبرته الطويلة في هذا الميدان العلمي الذي يصح أن نقول إنه حجة فيه الطريق إلى اكتشاف كنوز هذه القراءات، تاريخا، وحفظا، وأداء، وقواعد، وأسرارا. آخر ما تحدثنا عنه في الحلقة السابقة هو قراءة قتادة، رحمه الله للآية 95 من سورة الأنبياء؛ رأينا أنه أداها بأداءيْن. الأول هكذا: وحَرِمَ على قَرْيَةِ أهْلَكناها أنهم لا يرجِعُونَ» بفتح الحاء والميم بينهما راء مكسورة. الثانية: «وحَرَمَ عَلَى قَرْيَةٍ أهْلَكْنَاها أنّهُم لاَ يرْجِعون» بفتح الحاء والراء والميم. وقلنا في هذه اللفظة قراءات أخرى، أجملناها فيما يلي: «وحرمٌ على قرية أهلكناها أنهم لايرجعون» بفتح الحاء وسكون الراء مخففة وتنوين الميم وهو من «حرم»على لغة بني تميم، وقلنا إن في هذه اللفظة قراءة أخرى غير متواترة هي «حرمٌ» بفتح الحاء وكسر الراء وتنوين الميم قرأ بها عكرمة بخلاف عنه. وفيها قراءتان متواترتان هما: 1 «حرم» بكسر الحاء وسكون الراء وعلى الميم تنوين الضم؛ 2 - «حرام» بفتح الحاء وراء ممدودة بفتح وتنوين الضم على النون؛ ذكرنا من قرأ بكل واحدة منهما من السبعة، وأواصل اليوم بعون الله و قوته البحث في الموضوع، فأقول: وقرأ الإمام قتادة، رحمه الله، الآية 14 من سورة المؤمنون كما يلي: «ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين»؛ لقد قرأ فعلا: «عظما» واحدا «فكسونا العظام» جماعة نقول: إنه بمعنى آخر قرأ بإفراد الأول وجمع الثاني ، شاركه في قراءته هذه كل من السلمي والأعرج والأعمش وابن محيصن. أما الإمام مجاهد وأبو رجاء إبراهيم بن أبي بكر فقرأوا هذه الأية كمايلي: «ثم خَلَقْنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظم لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين »؛ نعم، قرأوا: «عظاما» جماعة وقرأوا: «فكسونا العظم» واحدا؛ إنهم جمعوا الأول وأفردوا الثاني. هذا أسلوب معروف عند العرب ومتبع من الجم الغفير منهم؛ والأسلوب هو: الإفراد يراد به الجنس ووضع الواحد موضع الجمع. يكون هذا اعندهم لزوال اللبس، لأن الإنسان ذو عظام كثيرة. اعتقد أن أحسن من شرح لنا هذا شرحا علميا دقيقا ومقنعا هو اللغوي الكبير أبو الفتح عثمان بن جني؛ قال في الجزء الثاني من محتسبه، صفحة 87: «أما من وحد فإنه ذهب الى لفظ إفراد الإنسان والنطفة والعلقة، ومن جمع فإنه أراد أن هذا أمر عام في جميع الناس، وقد شاع عنهم وقوع المفرد في موضع الجماعة نحو قول الشاعر: كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص (الخميص): الجائع، وأراد بوصف الزمن به أن أهله جياع؛ فالوصف للزمن والمعنى لأهله. كانوا يتلصصون ويتعاورون في زمن قحط، فقال لهم ذلك. وقول طفيل: لاتنكروا القتل وقد سبينا في حلقكم عظم وقد شجينا إلا من قدم الإفراد ثم عقب بالجمع أشبه لفظا؛ لأنه جاور بالواحد لفظ الواحد الذي هو «إنسان» و «سلالة» و «نطفة» و «علقة» و «مضغة»، ثم عقب بالجماعة، لأنها هي الغرض، ومن قدم الجماعة بادر إليها إذ كانت هي المقصود، ثم عاد فعامل اللفظ المفرد بمثله والأول أحرى على قوانينهم ألا تراك تقول من قام وقعدوا إخوتك فيحسن لانصرافه عن اللفظ الى المعنى. وإذا قلت: من قاموا وقعد إخوتك ضعف لأنك قد انتحيت بالجمع على المعنى وانصرفت عن اللفظ. فمعاودة اللفظ بعد الانصراف عنه تراجع وانتكاب. وقرأ الإمام قتادة، رحمه الله، الآية 60 من نفس السورة، سورة المؤمنون كما يلي: « والذين يأتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون»، قرأ الفعلين : «يأتون ما أتوا» بالقصر ويكون معناه: يعملون العمل وهم يخافونه ويخافون لقاء الله ومقام الله. أما أبو حاتم فيرى أن معنى: «يأتون ما أتوا» هو: يعطون الشيء فيشفقون ألا يقبل منهم وحكى عن إسماعيل بن خلف قال: دخلت مع عبيد الله بن عمير الليثي على عائشة، رضي الله عنها، فرحبت به، فقال لها: جئتك لأسألك عن آية في القرآن الكريم. قالت أي آية هي؟ فقال: «الذين يأتون ما أتوا» أو «أو يوتون ما آتوا» أو «أويوتون ما آتوا»؟ فقالت: أيتهما أحب إليك ؟ قال فقلت: لأن تكون «يأتَوْنَ مَا أتَوْا» أحب إلي من الدنيا وما فيها، فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يَأتَوْنَ مَا أتَوْا ولكن الهجاء حُرف». شارك قتادة في هذه القراءة كل من عائشة و عبد الله بن عباس رضي الله عنهما والأعمش. ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بها كذلك؛ وهي منه عليه الصلاة والسلام قراءة تفسير.. وأدَّى الإمام قتادة، رحمه الله، الآية 71 من نفس السورة، سورة المؤمنون بثلاث قراءات. لقد قرأها ، رحمه الله هكذا: «ولو اتَّبع الحقَّ أهْواءَهُمْ لَفَيسَدَتِ السَّمَاواتُ والأرضُ ومَنْ فِيهنَّ بل أتيْنَاهُم نُذكِّرُهُمْ فهُمْ عنْ ذِكْرهِمْ مُعرِضُونَ» أعقب قوله تعالى «أَتَيْنَاهُم» بمضارع مسند للمتكلم ومعه غيره، هكذا «نُذكِّرُهُمْ». وقرأها أيضا كما يلي: «ولَوِ اتّبَعَ الحقُّ أهْواءَهُمْ لَفَسدَتِ السَّماواتُ والأرضُ ومَنْ فيهِنَّ بل أتيْتَهُم بِذِكرهم فهُمْ عن ذِكرِهِمْ مُعرِضُونَ»، لقد أدى هنا اللفظة التي هي في المتواتر «أتَيْنَاهُم» أي: المتكلم ومعه غيره ب : «أتَيْتَهم» مسندة للمخاطب المفرد. وقرأها ثالثاً: «ولَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أهْواءهُمْ لَفَسدَتِ السَّمَاوَاتُ والأرضُ ومَنْ فِيهنَّ بل أتيْتهُم بِذِكرهمْ فَهُم عن ذكرهم مُعرِضُونَ» فأدى اللفظة التي هي في المتواتر «أتَيْنَاهُم»، أي ماضٍ مسند إلى المتكلم ومعه غيره؛ أقول: أداها هو: «أتَيتُهُمْ» متكلم وحده. بهذا كله قرأ الإمام قتادة، والأمر، في آخر المطاف يعود إلى نفس الشيء، ذلك أنه أتاهم بذكْرهِم فإنه قد قد ذكرهم به؛ فالمعنى إذاً واحد. كما قرأ الإمام قتادة، رحمه الله، الآية 7 من سورة النور كما يلي: «والخَامِسَة أنْ لَعْنَةُ اللّهِ عَليْهِ إنْ كَان مِنَ الْكَاذِبينَ» رفع قوله تعالى: «لَعْنَةُ» وخفف الحرف «أنَّ» الذي قرأه: «أَنْ». كما قرأ أيضاً، رحمه الله، الآية 9 من نفس السورة، سورة النور كما يلي: «والخَامِسَة أنْ غضبُ اللّهِ عليها إن كانَ منَ الصَّادقين» لقد رفع، رحمه الله قوله تعالى: «غَضبُ» وخفف الحرف «أنَّ» الذي قرأه: «أنْ» كما فعل في الآية السابعة التي أشرنا إليها أعلاه. وقرأ يعقوب: «أنْ لعْنَةُ اللهِ» رفع «لَعْنَة» وخفف النون، وقرأ: «وأنْ غضَبُ اللَّهِ». فمن خفف رفع فإنها عنده مخففة من الثقيلة وفيها إضمار محذوف للتخفيف، أي: أنه لعنة الله عليه وأنه غضبُ الله عليها؛ فلما خففت أضمر اسمها وحذف ولم يكن من إضماره بد لأن المفتوحة إذا خففت لم تصر بالتخفيف حرف ابتداء، إنما تلك «إن» المكسورة وعليه قول الشاعر: فِي فتيةٍ كسيوفِ الهندْ قدْ علِمُوا أنْ هَالِكٌ كلُّ مَنْ يَحْفَى ويَنتعِلُ أي: أنه هالك كل من يحفى وينتعل. وسبب ذلك أنَّ اتصال المكسورة باسمها وخبرها اتصال بالمعمول فيه، واتصال المفتوحة باسمها وخبرها اتصالان: أحدهما اتصال العامل بالمعمول، والآخر اتصال الصلة بالموصول. فنحن نرى أن ما بعد المفتوحة صلة لها. فلما قوي مع الفتح اتصال «أن» بما بعدها لم يكن لها بد من اسم مقدر محذوف تعمل فيه، ولما ضعف اتصال المكسورة بما بعدها جاز إذا خفف أن تفارق العمل وتخلص حرف ابتداء. ولا يجوز أن تكون (أن) هنا بمنزلة أي للعبارة كالتي في قوله تعالى في الآية 6 من سورة ص؛ قال سبحانه وتعالى فيها: «وانْطَلقَ المَلأ مِنْهُم أن امشوا»، معناه أي: امْشُوا . كما أنَّ (أن) لا تأتي إلا بعد كلام تام، وقوله: «وانطلق الملأ» كلام تام، وليست (الخامسة) وحدها كلاماً تاماً فتكون (أن) بمعنى أي، ولا تكون (أن) هنا زائدة كالتي في قوله: ويَوماً تُوافينا بوجهٍ مُقسَّمٍ كأنْ ظبْيَةٍ تعْطو إليَّ وَارق السّلم (تعطو) معناه: تتناول، وظبي عطو: يتطاول إلى الشجر ليتناول منه. والسلم: شجر واحدته سلمة. يشبهها بظبية مخصبة تتناول أطراف الشجر مرتعية. ومعناه: والخامسة أن الحال كذلك، يدل على ذلك قراءة العامة: أنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ» وأن «غَضَبَ اللَّهِ».