يبدو المشهد السياسي المغربي مشهدا غير واضح المعالم حيث تسوده الضبابية بشكل شبه كلي؛لم تبرز معه فعالية مكوناته الأساسية؛رغم تداول شعار مبدأ التعددية الحزبية؛كمبدأ ديموقراطي رائج، لكونه مبدأ يركز على الشكل وليس على الجوهر؛ومن قبيل المبادئ المتعذر إنزالها على أرض الواقع،حيث تبين أن مثل هذه التعددية الشكلية لم تأت بإضافة نوعية أو بقيمة مضافة؛بل تبين أن ثمة نوعين من الفاعلين السياسيين،نوع في صف الإدارة وأخواتها ونوع من صلب الحركة الوطنية،تعمل الدولة على تدجينه بشكل تدريجي. إن ضبابية المشهد السياسي بقدر ما نفرت العلماء من رجال الفكر والمثقفين كنخبة واعية بمسير ومصير المغرب في حاله ومستقبله،بقدر ما يسرت استقطاب أصحاب المصالح من الأعيان ورجال المال والأعمال،الذين لهثوا وراء الحصانة البرلمانية والاستكانة إلى مناطق الظل والاستفادة من سياسة الريع والربح السريع والإثراء بلا سبب،حيث أبانت هذه الفئة الأخيرة عن ولائها الاقتصادي للدولة والإفادة والاستفادة من الأزمة التي تمر بها البلاد؛مما تعهدت معه الدولة في تعاقد سياسوي على الدفع بالأعيان إلى منابر المسئولية الحكومية ومراكز القرار،وهو ما أثر بدوره بشكل سلبي على غالب الأحزاب الديموقراطية؛التي بدأت بدورها تستقطب العديد من الأعيان من رجال المال والأعمال لكسب أكبر عدد من المقاعد الانتخابية؛حتى وإن تناقضت مصالح هذه الفئة مع إيديولوجيتها؛كحزب الاتحاد الاشتراكي الذي شرع ابتداء من الانتخابات الجماعية والتشريعية لسنة 1997 1998 في منح التزكية لفئة البورجوازية الغريبة عن الجسم الاشتراكي وخصمها التاريخي. إن بقدر ما الدولة هي في أمس الحاجة إلى رجال المال والأعمال؛لتدمجهم في مراكز المسئولية دعما لمشاريع الدولة وأوراشها لما لهم من تأثير ونفوذ وهو ما نصطلح عليهم بالتكنوقراط،بقدر ما الأحزاب السياسية هي أيضا بدورها اضطرت إلى جلب هؤلاء إلى صفوفها،لما تقدمه من قيمة مضافة لهذه الهيئات السياسية،سواء في فترة الانتخابات أو في الظروف العادية لمسيرة هذه الأحزاب،بحيث دفعت بهم في مقدمة لوائحها الانتخابية؛وهو ما همش ليس مثقفي الأحزاب السياسية فقط بل جميع مناضليها الحزبيين؛مما رهن العمل السياسي لقانون السوق،كأننا في بورصة القيم المالية وليس بورصة القيم الفكرية والثقافية. لقد آن الأوان لتراجع الأحزاب السياسية مواقفها من عملية تهميش المثقفين،حيث أن المواطنين والناخبين ملوا فعلا من عملية تمييع العمل السياسي،برؤية كبار الأعيان على رأس جماعاتهم المحلية ومجالسهم الإقليمية والجهوية وعلى كراسي الحكومة والبرلمان،وذلك نظرا لضعف وطنية هذه الفئة مقارنة مع إيمانها القوي بأولوية مصالحها الشخصية،حيث إسوة بتجارب الثورة الفرنسية وعهد النهضة العربية تكون المراهنة على النخب المثقفة لتقود مسيرة الإصلاحات المجتمعية الوطنية وليس على غيرهم؛فالدولة لن تقوى على مجابهة العديد من الصعوبات والتحديات بفئة الأعيان عديمي الحس الوطني والدراية السياسية؛حيث ليس بمقدورهم تأطير الشعب في مجال مواجهة العنف والإرهاب والتطرف وغيرها من الآفات كالعزوف السياسي والأمية والتخلف والتنصير والهجرة السرية وسوء التوزيع العادل للثروات وغيرها والاضطرابات الاجتماعية والسياسية والنقابية وغيرها. إن فئة الأعيان غير قادرة على المخاطرة برساميلها في مختلف مشاريع الدولة الوطنية ذات البعد التنموي الوطني،لكونها تتبع في بوصلتها المشاريع المدرة للربح السريع فقط ؛كما أن من الصعب ركوب المنافسة الدولية بعد تبيان أن السوق المغربية ذاتها في إطار زمن العولمة أصبحت منفتحة اليوم أكثر من أي وقت مضى،على الرأسمال الأجنبي،الذي بدأ بدوره يزاحم الرأسمال الوطني في أخذ زمام المبادرة في تدبير الشأن العام،كما أن الوقت قد حان لتوجيه اللوم إلى الأحزاب السياسية أيضا ،حيث أن لا قوانينها الداخلية ولا قانون الأحزاب السياسية تمكنت من تقدير واحترام الدور الطلائعي المجتمعي للمثقفين؛بل إنها تتعامل معهم كطابور خامس فقط وكحزام صوري لا يصلح سوى لتأثيث المشهد الثقافي لهذه الأحزاب في بعض المناسبات والمهرجانات. إذا كانت أحزاب الدول المتقدمة ترفع اليوم من شأن المثقفين وتعمل على استقطابهم إلى العمل السياسي،لما لهم من قيمة مضافة،فإن عدة إشكاليات ومخاصمات هي اليوم للسياسة بالمغرب مع بعض القضايا المحورية من المتعين حسمها،حيث ثمة إشكالية السياسة بالدين و إشكالية السياسة بالنقابة و إشكالية السياسة بالمجتمع المدني و إشكالية السياسة بالاقتصاد و بالجيش و بالعدل و بالإعلام و بالمرأة و بالأمازيغية أو بالمخدرات وبالتقطيع الترابي و بالثقافة وغيرها. إن حكامة تدبير الشأن السياسي تحكمه اليوم معايير هي لدى المثقفين السياسيين أكثر من غيرهم من الشرائح الاجتماعية والاقتصادية؛من بينها معايير الكفاءة والعلم والخبرة والتجربة والنجاعة والمصداقية والإيمان بالقيم الوطنية النبيلة،إضافة إلى الانشغال الوطني بالقضايا المجتمعية وقيادة البلاد نحو مدارك التقدم العلمي والتكنولوجي،وهي معايير سمحت بتطوير العمل السياسي بالبلدان المتقدمة،بعيدا عن الحزبية الضيقة والمحسوبية والزبونية والولاء للأشخاص من القيادات الحزبية فاقدة المصداقية؛فهل الدولة تقوى على التدخل من أجل إحقاق هذا الانتقال الديموقراطي الثقافي؟ومتى تقوى الأحزاب على مصالحة مثقفيها؟حيث بالأمس تمكن مثقفو الحركة الوطنية من حمل مشعل الجهاد والكفاح ضد الاستعمار،أليس بإمكان مثقفي اليوم مواصلة ذلك؟