«المغرب لم يعد كما كان، ولكنه لم يأخذ بعد شكلا مكتملا واضحا». هذه المعادلة تختزل تطور النظام السياسي المغربي خلال العشر سنوات الأخيرة. النظام السياسي ليس بالمعنى الذي يقدمه به الفاعل السياسي الحزبي، النقابي أو الحقوقي في أدبياته وبياناته، وإنما بمعناه في علم السياسة، الدال على مجموعة عناصر مستقلة تنظيميا ومتداخلة في علاقاتها (فاعلون، مؤسسات، أنظمة قانونية واجتماعية واقتصادية وثقافية ونفسية، لعبة سياسية محكومة بقواعد ومبنية على استراتيجيات وتكتيكات ومناورات...). هذا المعنى العلمي للنظام السياسي يسمح بتقييم درجة التطور في العلاقات بين الفاعلين وتشخيص سلوكاتهم السياسية وكيفية استعمالهم للأنظمة القانونية المتاحة ولأدوات الضبط والتدبير للقضايا التي يفرزها الجسم الاجتماعي في لحظات هدوئه واحتجاجه. فالثابت أن النظام السياسي المغربي يشهد تطورا، وإن كان هذا التطور لا يمضي في أفق خط تصاعدي مسترسل في إيقاعه، بل إنه يشهد تذبذبات، وأحيانا مراوحات، في بعض مجالات الإصلاح التي لا ينتج فيها الفاعلون إلا خطابا سياسيا. لكن، داخل حالة التذبذب والمراوحة، تبلور الإطار الناظم للعبة السياسية، وذلك بخروج المجال السياسي من مرحلة الصراع بين الملكية والفاعلين السياسيين حول طبيعة شكل النظام السياسي وماهيته ومكوناته، إلى مرحلة أخرى تبلورت فيها توازنات سياسية جديدة صارت فيها الملكية خارج مربع الصراع السياسي، وأضحى مجال تفاعلات وصراعات الفاعلين السياسيين يتمركز حول مداخل الإصلاح ومقارباته: هل المدخل سوسيو- اقتصادي (منطلق الملكية)؟ أم إنه سياسي دستوري (منطلق بعض الأحزاب التاريخية والأحزاب اليسارية والإسلامية )? وتبدو داخل صراع مداخل ومقاربات الإصلاح، بداية التأسيس لبعض القواعد التي يمكن أن تؤسس لثلاثة مبادئ أساسية قابلة لقياس حالة التقدم والتراجع للإطار الجديد الناظم للعبة السياسية الجديدة في المغرب، وتتمثل هذه المبادئ الموضوعة تحت الملاحظة في العناصر الثلاثة التالية: أولا، ارتفاع درجة تحكيم القانون في العلاقات بين الأفراد والجماعات والمؤسسات، وذلك بغض النظر عن استمرار الفاعلين السياسيين في النقاش حول مرجعية القانون، هل الإسلامية أم الوضعية، إذ انتقل الأساس الذي يحكم التعاقد بين الفاعلين بدرجة أكبر إلى الاحتكام للقانون، رغم بعض الإشكاليات التي لازالت مطروحة حول أدوات تطبيق القانون (حالة كل المهن القضائية). ثانيا، بداية نشوء علاقة سببية بين تدبير الشأن العام وبين النوايا والمطالب التي يعبر عنها المواطنون، وهذا المبدأ يمكن أن يشكل تحولا كبيرا في منهجية الحكم، إذ لوحظت بداية علاقة سببية بين ما يعبر عنه الرأي العام (الصحافة، المواطنون في لحظات احتجاجية منظمة،...) وبين تدبير الحكم المحلي والوطني. ثالثا، التعدد الذي بدأ التأسيس له فعليا، وهو تعدد على مستوى مكونات الوطن، تعدد لغوي وتعدد الاختيارات السياسية، وتعدد القراءات التاريخية للمرجعيات والممارسات الدينية. وتبين هذه العناصر الجوهرية الثلاثة أن النظام السياسي المغربي يخضع لتغييرات عميقة في العشر سنوات الأخيرة، دون أن تصل هذه التغييرات إلى درجة إحداث خلخلة سياسية قوية في عمل المؤسسات (البرلمان، الحكومة، القضاء، الأحزاب والنقابات). وإذا كانت السلطة السياسية في المغرب تتبنى المدخل السوسيو اقتصادي في الإصلاح، فإن نتائج العمل الاجتماعي والاقتصادي لازالت ذات حجية ضعيفة، فالحكومة تجد صعوبة في إقناع الفاعلين الدوليين (البنك الدولي، مثلا) بأن النمو الاقتصادي إيجابي، والحرب على الفقر من خلال سياسة «المبادرة الوطنية للتنمية البشرية»، التي رصدت لها ميزانية كبرى، يبقى من السابق قياس نتائجها في الميدان حاليا، بل تحتاج إلى ثلاث سنوات أخرى على الأقل لقياس أثرها الكلي حسب الجهات، وإن كانت أولى نتائجها قد ظهرت في الانتخابات الجديدة بظهور فئة جديدة من الأعيان الذين أنتجتهم الجمعيات العاملة في المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، هذه الظاهرة التي أعطتنا لأول مرة ظاهرة الأعيان غير المرتبطين بالملكية العقارية في البوادي. لقد وقع تعديل في المشهد الاقتصادي المغربي بإحداث أقطاب كبرى للتنمية، فالمملكة أصبحت ورشا كبيرا، لكن هذا الورش لم يعد فيه محل للطبقات الوسطى التي تعتبر هي المنسية الكبرى في كل مبادرات التنمية خلال العشر سنوات الأخيرة، فالمجتمع المغربي يشهد تدريجيا في السنوات الأخيرة انهيار إحدى دعامات توازنه التي هي الطبقة الوسطى، ولعل هذا ما يشرح تزايد وتيرة الاحتجاج السلمي بمختلف أنواعه في الفضاءات العامة. ومقابل ذلك، يبقى من الممكن رصد بعض النجاحات الكبرى في النظام السياسي المغربي: الأولا، قدرته على تفكيك بعض مظاهر الموروث المحافظ القديم في المجال الاجتماعي (مدونة الأسرة ومقتضيات المساواة بين الرجال والنساء...)، إضافة إلى توسع الخطوط الحمراء في مجال حرية التعبير، فالصحافة أسقطت بعض الطابوهات. لكن تفكيك بعض مظاهر الموروث الاجتماعي له كلفته، وذلك ببداية ظهور بعض الحركات التي يمكن أن توثر نفسية المجتمع بمطالبها المعتمدة، حسب المطالبين بها، على حجية الحقوق والحريات والحداثة (مثال مطلب الشاذين جنسيا بالتحول إلى حركة معلنة، ومطلب حركة «لا خاضعات ولا عاهرات» بالسماح لها بتأسيس فرع بالمغرب، حركة مالي،...) . ثانيا، المصالحة، إذ جاء المعتقلون السابقون إلى التلفزيون وتحدثوا عن سنوات الجمر، لكن الذاكرة الجديدة لازالت تعاني من بعض المشاكل النفسية، إضافة إلى ارتفاع بعض مطالب «مصالحة جديدة» مع فئة من المعتقلين الإسلاميين الذين يعتبرون أنفسهم «ضحية» لاعتقالات ما بعد أحداث 16 مايو بالدارالبيضاء سنة 2003. ثالثا، وجود مرجعية تشخيصية لما وقع في سنوات الرصاص، والتي تمهد لنواة مشروع إصلاح، هذا التشخيص الذي أفرز صدور تقريرين نشطا الوضع السياسي، وهما تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة وتقرير الخمسينية للتنمية البشرية، لكن يبدو أن الأحزاب السياسية لم تغتنم الفرصة لطرح تصور إصلاحي مبني أساسا على هاتين الوثيقتين المرجعيتين بين عامي 2005 و2007، إذ لازال البعض منها ينادي بمقولات «التعاقد» و«التعاقد الجديد» التي تعود إلى مطالب سنوات الرصاص، كما أن حزب الأصالة والمعاصرة الذي يتبنى التقريرين (المصالحة والخمسينية) « كبيان إيديولوجي» لازالت معالمه لم تتضح بشكل نهائي يسمح بتصنيفه. ورغم هذه النجاحات الكبرى، يبدو أن حالة الإصلاح موجودة ولكن مضمون مشروع الإصلاح نفسه لازالت معالمه لم تتضح بالشكل الكافي، فالحالة ليست كما كانت، ولكن حلتها الجديدة لم تتضح بشكل مكتمل ونهائي، ويبدو أن هذه الحالة مرتبطة بإيقاع الإصلاح نفسه، الذي لا يمضى في أفق خط تصاعدي مسترسل، بسبب بعض المخاطر التي ظهرت في السنوات الأخيرة، سواء المرتبطة بالسلوكات الناتجة عن الإيديولوجيا التكفيرية العالمية (القاعدة وأخواتها)، التي أنتجت أحداث الدارالبيضاء (2003 و2007)، أو بالانتباه إلى ظاهرة جديدة تتمثل في التوظيف السياسي لحقوق الإنسان للمس بأمن الدولة في الحالة المعروضة على القضاء المسماة «مجموعة التامك»، وهي ظاهرة تكمن خطورتها في سعي المجموعة إلى خلق ما يسمى ب«السابقة»، وهي تحتاج إلى الإجابة عن السؤال التالي: ما هي طريقة التفكير التي يحملها أعضاء مجموعة التامك؟ وهم ينتمون إلى المغرب ويحملون جواز سفره ويغادرون أجواءه لإجراء لقاءات مع جماعة انفصالية داخل دولة معادية، ويعودون إلى المغرب للدخول عبر مطار محمد الخامس؟ إن الأمر يتعلق بقضية أمن دولة، وبالمخاطر الجديدة التي تحتاج إلى الدراسات الأمنية الاستباقية.