من الوارد أن ينطلق النقاش حول الخلفيات التي أطرت الموقف السياسي الذي اتخذه التسعة الكونفدراليون عندما قرروا الانسحاب من مجلس المستشارين التزاما بالقرار الذي اتخذه بالإجماع المجلس الوطني للمركزية النقابية ، وهل هذا القرار جاء على خلفية نتائج الحوار الاجتماعي التي لم تأت بجديد يذكر، أم أنه جاء كرسالة سياسية إلى الحكومة على خلفية عجزها الكامل عن تدبير ملف غلاء المعيشة؟ أم أن الأمر يتعلق بمناورة سياسية تقصد من خلالها الكنفدرالية الديمقراطية للشغل استعادة زمام المبادرة كإطار كبير مؤطر للحركية الاجتماعية والاحتجاجية في المغرب؟ وبغض النظر عن هذه التأويلات، فإن المبادرة في حد ذاتها تؤشر على تطور نوعي في الموقف والمبادرة السياسيين، إذ لم يجرؤ على طول الفترة السياسية الممتدة من سنة 1981 إلى اليوم أي حزب سياسي أو مركزية نقابية على اتخاذ مثل هذا القرار السياسي الصعب، الذي تعامل معه الملك الحسن الثاني في سياق سياسي خاص بالتهديد باستعمال صفته الدينية كأمير للمؤمنين واعتبار حزب الاتحاد الاشتراكي من الخوارج، وهو ما اعتبره حزب الاتحاد الاشتراكي ضغطا سياسيا مؤذنا بفتح مواجهة شاملة ضده من طرف النظام السياسي، ولذاك قرر الرجوع إلى البرلمان تجنبا لهذه المواجهة.وبغض النظر أيضا عن الحيثيات التي أطرت الموقف، فإن السياق الذي اندرج فيه قرار الانسحاب من المؤسسة البرلمانية يؤذن بانطلاق الشرارة الأولى للأزمة السياسية في المغرب بعد أن ظهرت مؤشرات دالة على الفشل الحكومي على أكثر من مستوى، وعلى انتقال تداعيات هذا الفشل إلى مناقشة ليس فقط فعالية المؤسسات السياسية القائمة والأدوار التي يفترض أن تقوم بها الأحزاب السياسية والمركزيات النقابية داخل النسق السياسي المغربي، وإنما اتجهت رأسا إلى الرؤية السياسية التي تؤطر وجهة نظر دوائر صناعة القرار السياسي في المغرب، وموقع الهيئات الحزبية والنقابية والمدنية ضمنها. ليس غريبا أن يصدر من قيادي من العدالة والتنمية في الأيام القليلة الماضية نفس الموقف، إذ صرح الأستاذ عبد الإله بن كيران لجريدة الوطن الآن بأنه طلب من الأمانة العامة اتخاذ قرار بالانسحاب من البرلمان، لكنها لم تسايره في الطرح. مواقف تؤشر على أن هناك شعورا لدى النخبة السياسية بأن الإرادة السياسية التي تجري على الأرض تتجه نحو إلغاء دورها وتهميش فعاليتها وإعادة رسم صورة جديدة لمشهد السياسي مؤثث بشخصيات ربما تكون قد نجحت في عالم الأعمال، لكن من المؤكد أن صلتها بالسياسة لم تبدأ إلا في اللحظة التي حملت فيها المسؤولية. وأمام النكسة التي أصابت العملية السياسية في المغرب بعد السابع من شتنبر، وظهور مؤشرات للارتداد الديمقراطي والحقوقي، واتضاح فشل الرؤية السياسية التي هندست لمغرب ما بعد السابع من شتنبر من خلال مؤشرات الفشل الحكومي في عدة قطاعات (التعليم، العدل، الصحة، التشغيل،....) وأشكال التعاطي التي ابتدعها سياسيو المرحلة الجديدة، وعدم تقدم المغرب على أي مستوى من مستويات العناوين الكبرى التي رفعها (فشل ذريع في ملف التريبة والتكوين، المغرب يتراجع على مستوى التنمية البشرية، ملف إصلاح القضاء يراوح مكانه، عدم إحراز أي تقدم على مستوى التنمية القروية...) بالإضافة إلى تنامي شعور لدى النخبة السياسية بعدم الطمأنينة من إمكانية مساهمتها في الإصلاح السياسي والديمقراطي في المغرب، إذ أن الاتجاه العام الذي يحكم صناع القرار السياسي يتجه نحو خلق تجمع سياسي جديد يجهل الفرقاء السياسيون حجمه والأدوار التي ستعطى له في المرحلة الجديدة، وتأثير ذلك على واقع الأحزاب ودورها.وأمام كل هذه الاعتبارات، فإن إنضاج موقف سياسي في حجم الانسحاب من المؤسسة البرلمانية لم يعد يتطلب تحمل مسؤولية المواجهة الشاملة مع النظام السياسي كما كان السياق السياسي للثمانينات، وإنما صار إمكانا من الإمكانات السياسية للتعبير عن الاحتجاج على الشكل الذي أضحت السياسية تمارس به في المغرب، ورسالة سياسية إلى صناع القرار السياسي مفادها أن المسلمات التي تم بها بناء رؤية مغرب ما بعد السابع من شتنبر السياسية تحتاج إلى مراجعة، وأن القوى السياسية التي ساد الاعتقاد بأنها توارت وانها أضحت عاجزة عن المبادرة السياسية يمكن في أي لحظة أن تربك الخريطة السياسية وتبين نقاط الاختلال الكبرى التي لم يلتفت إليها مهندسو رؤية مغرب الغد.ولعل الحراك الذي عرفه الاتحاد الاشتراكي وظهور مناقشات سياسية داخله لإعادة النظر في مشاركة الحزب في الحكومة، وانطلاق نقاش سياسي داخل العدالة والتنمية حول الموقع والدور المفترض أن يقوم به الحزب في هذه المرحلة الحرجة، وانطلاق حلقات صغرى ومتوسطة للتنسيق بين فعاليات اليسار، فضلا عن الإجماع الذي حصل على مستوى الجسم الصحفي والإعلامي على قضية تغريم المساء ب600 مليون سنتيم، وتنامي نسبة الشكوك داخل الفرقاء السياسيين من طريقة تدبير الحكومة لبعض الملفات الأمنية يدفع بالاعتقاد بأن شرارة الأزمة السياسية قد اندلعت، وأن المغرب السياسي سيكون كلما ظهرت مؤشرات جديدة على الفشل في التدبير الحكومي مرشحا لظهور مبادرة سياسية كبيرة تشكل الموعد التاريخي لإعادة البلد إلى سكة الإصلاح الديمقراطي بعيدا عن رؤى مهندسي الفشل.