من خلال هذه الحلقات العلمية القيمة، سنجول مع الدكتور التهامي الراجي الهاشمي في حدائق القراءات القرآنية المتواترة، حيث، سيمهد للقارئ بفضل خبرته الطويلة في هذا الميدان العلمي الذي يصح أن نقول إنه حجة فيه الطريق إلى اكتشاف كنوز هذه القراءات، تاريخا، وحفظا، وأداء، وقواعد، وأسرارا. آخر ما بحثنا فيه ونحن نتحدث عن قراءة الإمام قتادة هو أداؤه، رحمه الله، لقوله تعالى في الآية 57 من سورة الأعراف الذي أداه كما قلنا هكذا: «وهُوَ الذي يُرسلُ الرياحَ نُشراً بينَ يدي رحمتهِ».. ضاماً نون قوله «نُشراً» وجازماً شينها، وهي اللفظة التي قلنا، سنجدها عنده بهذه القراءة في سورتي الفرقان والنمل. وأواصل الآن بعون الله وقوته البحث فيما بقي من قراءة الإمام قتادة، فأقول وبالله التوفيق: وقرأ، رحمه الله، في الآية 157 من سورة الأعراف قوله تعالى هكذا: « فالذينَ آمنوا به وعزَروه ونصَرُوه واتبعُوا النُّور الذي أنزَلَ معه أولائكَ هُمُ المفلحونَ». قرأ بالتخفيف قوله: «وعزَّروه». اتفق كبار علماء اللغة على أن المشهور المستعمل عندهم في ذلك هو: عزَّرْتُ الرجُلَ: أي عظمته، وهو مشدد، وقد قالوا: عزَرْتُ الرجل عن الشيء بتخفيف الزاي إذا منعته عن الشيء، ومنه سمي الرجل: عزْرَة، فقد يجوز أن يكون «وعزروه» على هذه القراءة، أي: منعوه وحجزوا ذكره عن السوء، فبرأته من الشيء وحجزته بمعنى واحد. شارك قتادة في هذه القراءة كل من الجحدري وسليمان التميمي. كما قرأ هؤلاء القراء المذكورون أعلاه بالتخفيف قوله تعالى «وعزَّرتموهم» الموجود في الآية 13 من سورة الأعراف، ومعناها، كما لا يخفى: «رددتم عنهم أعداءهم». وقرأ أيضا، رحمه الله، في الآية 161 من نفس السورة، سورة الأعراف قوله تعالى هكذا: «وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القريةَ وكُلوا منها حيث شئتم وقُولوا حطة وادخلوا البابَ سُجداً..» بنصب «حطة». وهي منصوبة، ولاشك، على المصدر بفعل مقدر، أي: احطط عنا ذنوبَنَا حطَّةَ. قال أبو حيان الغرناطي في صفحة 407 من الجزء الرابع من تفسيره المعروف ب «البحر المحيط»:«ويجوز أن ينتصب ب «قولوا» على حذف، ويكون التقدير: «وقولوا قولاً حطة». أي: ذا حطة، فحذف «ذا» وصار «حطة» وصفاً للمصدر المحذوف. كما تقول: «قلت حسناً» و«قلت حقاً»، أي: «قولاً حسنا» و«قولاً حقاً». قام ابن جني فرد على هذا التخريج قائلا: «ولا يكون «حِطةً» منصوباً بنفس «قولوا» ، لأن: «قلت» وبابها لا ينصب المفرد إلا أن يكون ترجمة الجملة، وذلك كأن يقول إنسان: لا إله إلا الله، فتقول أنت قلت: حقاً، لأن قوله لا إله إلا الله حق، ولا تقول: قلت زيداً ولا عمراً، ولا قلت قياماً ولا قعوداً، على أن تنصب هذين المصدرين بنفس «قلت». وقرأ، رحمه الله، أيضاً الآية 42 من سورة الأنفال هكذا: «إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهُم بالعدوة القصوَى والرَّكبُ أسفلَ منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعادِ ولكن ليقضِي الله أمراً كان مفعولاً»، فتح فيها عين «العدوة» في الموضعين». لاشك أنكم لاحظتم أنني قلت: هنا، وأنا أتحدث عن قراءة «العَدوة»: قرأ الآية 42 ولم أقل كعادتي: «قرأ في الآية»، لأنني أوردت الآية كاملة من أولها الذي هو: «إذ أنتم بالعدوة الدنيا» إلى آخرها الذي هو: «ولكن ليَقْضي اللهُ أمراً كانَ مفعولاً». قد يقال لي لا حاجة لنا بهذا التعليق. أقول: لا، إن هذا التعليق ضروري إذ قد يوجد من القراء من يعود إلى مصحفه لمراجعة الآية فيجد أنها لا تنتهي فيه عند قوله تعالى: «ولكنْ لَيقضي اللهُ أمراً كانَ مفعولاً» فيستغرب كيف أقول «الآية» وهي ليست كاملة كما يرى في مصحفه. أقول: المصاحف المتداولة عندنا في المغرب، سواء التي هي برواية ورش عن نافع أو برواية حفص عن عاصم كلها تتبع في عد آياتها العد الكوفي دون سواه، والكوفي لا يعد قوله تعالى: «ولكنْ لِيقضيَ اللهُ أمراً كانَ مفعولاً» آية. وأنا، في هذه الآية عدت إلى الروايتين اللتين تشرفت بتصحيحهما وضبطهما والسهر، بجد، على إخر اجهما للناس ليتقرب العباد بقراءتهما إلى الله، إنهما روايتيْ البزي وقنبل عن ابن كثير المكي، روايتين تكرمت بطبعهما ونشرهما على المسلمين دار القراءات القرآنية بألمانيا لصاحبها أندلوسي عبد الناصر جزاه الله خيراً. ومعلوم أن روايتي مكةالمكرمة يتبعان العد المكي الذي يعتبر: «ولَكِنْ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً» آية. بعد أن اتضح الأمر، ولاشك، نعود لما كنا نتحدث فيه، فأقول: «العَدوة» هذه التي يفتح عينها قتادة بن دعامة أبو الخطاب السدوسي البصري تطلق عندهم على شط الوادي، وتسمى شفيراً وضفة، سميت بذلك لأنها «عدت» ما في الوادي من ماءٍ أن يتجاوزه. أي: منعته، قال الشاعر: عَدتْني عن زيارتها العوادي وقالت دُونها حرْب زبُونُ ويسمى الفضاء المساير للوادي «عدوة» للمجاورة. وقرأ ابن كثير المكي وأبو عمرو البصري« بالعِدوة» بكسر العين فيهما وباقي السبعة بالضم. قال الأخفش: «لم يسمع من العرب إلا الكسر». وقال أبو عبيد: «والضم أكثرهم. وقال اليزيدي: «الكسر لغة الحجاز». فيحتمل أن تكون الثلاث لغى، ويحتمل أن يكون الفتح مصدراً سمي به، وروي بالكسر والضم بيت أوس: وفارس ِ لمْ يحُل َ اليومَ عدْوتَهولو سِراعاً وما هموُّا بإقبال وقرئ (بالعديَة) بقلب الواو ياء لكسرة العين، ولم يعتدوا بالساكن لأنه حاجز غير حصين، كما فعلوا ذلك في (صبْية) و(قِنية) و(دِنيا) من قولهم: «هو ابن عمي دنيا»، والأصل في هذا التصحيح كالصفوة والذروة والربوة، وفي حرف ابن مسعود: «بالعدوة العُليا وهُم بالعدوة السفلى» ووادي بدر، آخذين الشرق والقبلة منحرف الى البحر الذي هو قريب من ذلك الصقع والمدينة من الوادي من موضع الوقعة منه في الشرق وبينهما مرحلتان. ف (العدوة) إذن لغة ثالثة، كقولهم في اللبن رِغوة ورَعوة ورُعوة ولها نظائر مما جاءت فيها فُعلة وفِعلة وفِعلة، منه قولهم: له صِفوة مالي وصفوته وصُفوته، روى ذلك أبو عبيدة. ومثله: أوطأته عشوة وعِشوة وعُشوة، (العِشوة: ركوب الأمر على غير بيان، وعليه يكون معنى: أوطأته عشوة: حمله على أمر غير رشيد) روى هذا كل من أبي عبيدة وابن العربي. وروى الكساني: كلمته بحضرة فلان وحِضرته، وحكى ابن الأعرابي، غَشوة وغُشوة وغِشوة وغِلظة وغُلظة وغَلظة. وقالوا شاة لُجبة ولَجبة ولِجبة (اللُجبة: الشاة قل لبنها وعكسها الغزيرة)، ورِبوة ورُبوة وربْوة (الربوة: ما ارتفع من الأرض)، فكذلك تكون أيضا «العدوة» و«العِدوة» و«العُدوة». وروى ابن العربي أيضا «المَدية» بالفتح و«المِدية» بالكسر و«المُدية» بالضم». وقرأ، رحمه الله، أيضا الآية 37 من سورة التوبة التي تقرأها الجماعة هكذا: «إنما النسيء زيادة في الكفر يُضل به الذين كَفروا يُحلونه عاما ويحرمونَهُ عاماً ليُواطئوا عدة ما حرَّم الله فيُحلوا ما حرَّم الله زُين لهم سوءُ أعمالهم واللهُ لا يهْدي القومَ الكافرين» أقول: يقال إنه قرأها هو: «إنما النسيءُ زيادة في الكُفر يضَلُّ به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرّمونه عاماً ليُواطئوا عد ما حرم اللهُ فيُحلوا ما حرَّم اللهُ زُيّن لهم سُوءُ أعمالهم واللهُ لا يَهدي القومَ الكافرينَ» بفتح ياء وضاء «يضل به»، أعتقد أنه يقرأ هذه اللفظة كما يقرأها من السبعة حفص عن عاصم وحمزة والكسائي. يشاركهم في هذه القراءة، من غير السبعة، الحسن وأبو رجاء لكن بخلاف عنهما، كما يشاركهم فيها عبد الله بن مسعود وأبو الحجاج المكي مجاهد بن جبر وأبو عبد الله الأودي الكوفي عمرو بن ميمون كما يرويها عن الأعمش العباس بن فضل بن عمرو الواقفي الأنصاري البصري. و«يضل به» هذه لغة، أعني ضللت أضل، واللغة الفصحى «ضَللت أضِل. في هذه القراءة تأويلان: إن شئنا كان الفاعل اسم الله مضمرا، أي: «يُضِل الله الذين كفروا. وإن شئنا كان تقديره: سيُضل به الذين كفروا أولياءهم وأتباعهم. وقرأ، رحمه الله، أيضا الآية 100 من نفس السورة، سورة التوبة التي هي في المتواتر المتعبد بتلاوته كمايلي: «والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه».. هكذا: «والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه.. «بضم راء «والأنصار». جعل (والأنصارُ) معطوفا على قوله : «والسابقون الأولون من المهاجرين» أما قوله : «والذين اتبعوهم بإحسان» فيجوز أن يكون معطوفاً على (الأنصارُ) في رفعه وجره. ويجوز أن يكون معطوفاً على (السابقون)، وأن يكون معطوفاً على (الأنصار) لقربه منه. شارك قتادة في هذه القراءة، قراءة (والأنصار) بضم الراء كل من عمر بن الخطاب والحسن وسعيد بن أسعد بن حمير بن عبد الأعلى ويعقوب بن طلحة وعيسى بن عبد الرحمان بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي.