من خلال هذه الحلقات العلمية القيمة، سنجول مع الدكتور التهامي الراجي الهاشمي في حدائق القراءات القرآنية المتواترة، حيث، سيمهد للقارئ بفضل خبرته الطويلة في هذا الميدان العلمي الذي يصح أن نقول إنه حجة فيه الطريق إلى اكتشاف كنوز هذه القراءات، تاريخا، وحفظا، وأداء، وقواعد، وأسرارا. المحرر كان آخر ما بحثنا فيه في حلقتنا السابقة في موضوع: »قراءة عبد الله بن عباس« هو أداؤه، رضي الله عنه وأرضاه لقوله تعالى في سورة الليل الآيتين الثالثة والرابعة فيها، وهما الآيتان اللتان تقرأهما الجماعة، كما نعلم هكذا: »والنّهار إذا تَجَلّى ومَا خَلَقَ الذَّكرَ والأنثَى«؛ أقول: يقال: إنه قرأهما هو كما يلي: »والنَّهارِ إذا تَجَلَّى والذَّكر والأنْثى«. وقلنا إنه تطبيقاً لذلك الضابط الذي هو: »الآية القرآنية متعددة المعاني على الدوام«، سيكون لآيتنا التي نبحث في قراءتها وهي »ومَاخَلَقَ الذَّكرَ والأنْثى« عدة معاني؛ ذكرنا في حلقتنا السابقة أبرزها. ولقد كنت أشرت وأنا أتحدث عن قراءة هاتين الآيتين بقولي: »يقال إنه قرأهما كما يلي، »لكَي أفْهمَ قارئي الكريم أن الشك في قراءة هذه الآية بهذا الشكل من طرف عبد الله بن عباس قائم لاشك فيه. وأواصل الآن، بحول الله وقوته البحث فيما بقي من قراءته ملتمساً منه سبحانه وتعالى العون والتوفيق؛ إنه،عز وجل ولي ذلك وقادر عليه؛ فأقول: وقرأ، رضي الله عنه وأرضاه، الآيتين الرابعة والخامسة في سورة القدر وهما الآيتان اللتان تقرأهما الجماعة كما يلي: »تنَزلُ الملائِكَةُ والرُّوحُ فيهَا بإذن رَبِّهمْ من كُلِّ أمْرٍ سَلامٌ هيَ حتَّى مطلع الفجْرِ«. أقول: يقرأهما هو، رحمه الله: »تنزلُ المَلائِكَة والرُّوحُ فيها بإذن رَبِّهمْ من كُلِّ أمريءٍ سَلامٌ هيَ حتَّى مطْلع الفَجْرِ«، بزيادة الهمزة في امْرئ«. أعتقد أنه يحسن قبل أن نتطرق للخلاف الموجود بين القراءة المتواترة لهذه الآية التي دأب على أدائها الجمهور تبعاً لتلقيه لها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطة جماعات نقلتها عنه إليهم - جماعة عن جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب - وقراءة عبد الله بن عباس؛ أقول: يحسن قبل ذلك أن نتعرض لإبراز معاني بعض ألفاظها ليتضح لنا أكثر مغزى الخلاف الكائن بين القراءتين المذكورتين. - »تَنَزلَ المَلائكَة« أي: تهبط من سمائه ومن سدرة المنتهى يؤمنون على دعاء الناس إلى طلوع الفجر. »والرُّوحُ فيهَا بإذنِ رَبِّهمْ«؛ قيل: - »الرُّوحُ«: جبريل عليه السلام. - »الرُّوحُ«: صنف من الملائكة جُعِلوا حفظة على سائرهم وأن الملائكة لايرونهم كما لانرى نحن الملائكة؛ هذا ما ذهب إليه القُشَيْري. - »الرُّوحُ«: هم أشرف الملائكة وأقربهم من الله تعالى؛ هذا ما قال به مقاتل. - »الرُّوحُ«: إنهم جند من جند الله عز وجل من غير الملائكة؛ رواه مجاهد عن ابن عباس مرفوعاً، ذكره الماوردي. - »الرُّوحُ« : هم صنف من خلق الله يأكلون الطعام ولهم أيدٍ وأرجل وليسوا ملائكة؛ حكاه القشيري. - »الرُّوحُ« : خلق عظيم يقوم صفاً، والملائكة كلهم صفاً. - »الرُّوحُ«: الرحمة ينزل بها جبريل عليه السلام مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها؛ دليله مضمون الآية الثانية من سورة النحل؛ قال سبحانه وتعالى فيها: »يُنَزِّلُ الملائكة بالرُّوح منْ أمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ منْ عبَادِهِ« أي: بالرحمة. قراءة العامة »تَنَزَّلُ« بفتح التاء إلا أن البزي، الراوي الأول عن ابن كثير المكي ومؤذن المسجد الحرام يشدد التاء وصلاً.. وأما طلحة بن مُصرِّف وابن السميفع فيقرآن بضم التام على الفعل المجهول. شارك ابن عباس في قراءته لهذه الآية وهي: »مِن كُلِّ امرئ سلاَمٌ« علي بن أبي طالب ووعكرمة والكلبي. وروي عن ابن عباس أنَّ معناه: من كل مَلَك.وتأولها الكلبي على أن جبريل ينزل فيها مع الملائكة فيسلمون على كل امرئ مسلم. ف (من) هنا في هذه الآية بمعنى »على«. وعن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: »إذا كانَ ليلة القدر نزل جبريل في كَبْكَبَة (الكبكبة بالفتح: الجماعة المتضامنة من الناس وغيرهم) من الملائكة يُصَلُّون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله تعالى«. قيل: إن تمام الكلام »مِن كُلِّ أمْرٍ« ثم قال: »سَلامٌ« رُوي هذا عن نافع وغيره؛ أي: ليلة القدر سلامة وخير كلها لاشر فيها. قاله الضحاك: لايقدر الله في تلك الليلة إلا السلامة، وفي سائرها يقضي بالبلايا والسلامة. فإن طبقنا ضابطنا الذي ذكرناه مراراً لدوره الكبير في فهم مراد الله من كلامه، ذلك الضابط الذي هو: »الآية القرآنية متعددة المعاني على الدوام« لكان مراد »الليلة« المشار إليها في الآية هو، زيادة على المعنى الذي أشرنا إليه قبل قليل واحد مما يلي: هي سلام؛ أي: ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن ومؤمنة؛ كذا قال مجاهد. هي ليلة سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً ولا أذى؛ روي هذا مرفوعا. هو تسليم الملائكة على أهل المساجد، من حيث تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر؛ يمرون على كل مؤمن، ويقولون: السلام عليك أيها المؤمن هذا ما قال الشعبي. يعني سلام الملائكة بعضهم على بعض فيها. »سلام هي« : خير هي »حتى مطلع الفجر« أي: إلى مطلع الفجر. قرأ الكسائي من السبعة »مَطْلِع« بكسر اللام. شاركه من غير السبعة خلف بن هشام البزار البغدادي وهو ما يعرف عندنا، نحن القراء، بالعاشر. نقول هذا حين ينصب إماما قارئاً له رواة يروون عنه؛ نميزه بهذا عن نفسه حين يكون هو ذاته راو فقط يروي عن حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الكوفي. كما شارك الكسائي في هذه القراءة أيضا أبو رجاء والأعمش وابن وثاب وطلحة وابن محيصن وأبو عمر البصري من السبعة لكن بخلف عنه. الباقون بالفتح، والكسر والفتح: لغتان في المصدر. والفتح الأصل في »فَعَلَ« »يَفْعُلُ«، نحو المقتل والمخرج. والكسر على أنه مما شذ عن قياسه؛ نحو المشرِق والمغرِب والمنبِت والمحشر والمسقِط والمجزِر. حكى في ذلك كله الفتح والكسر؛ على أن يراد به المصدر لا الاسم. قيل هما معاً، أي: »مطلِع« و »مطلَع« مصدران في لغة تميم، وقيل: المصدر بالفتح وموضع الطلوع بالكسر عند أهل الحجاز. أحب أن أختم حديثي عن قراءة ابن عباس في هاتيْن الآيتيْن: »تَنزلُ الملاَئكَة والرّوحُ فِيهَا بإذْن ربِّهِم من كلِّ أمرئ سلامٌ هي حتّى مطلع الفجْر«، بما ينسب إليه، رضي الله عنه وأرضاه في مسألة تأويله ل (هي) في قوله: »من كلِّ أمرٍ سلامٌ هي حتّى مطْلعِ الفجْرِ«. لكن تعالوا، قبل ذلك، نبحث في أي وقت هي ليلة القدر التي يقول عنها سبحانه: »تنزلُ الْملائِكَة والرّوحُ فيها بإذن ربّهِمْ من كلِّ أمرٍ«. لقد اختلفوا في وقتها اختلافا كبيراً للغاية؛ فبقيت، بفضل هذا الاختلاف، مخفية في جميع شهر رمضان لنجتهد في العمل والعبادة ليالي شهر رمضان كلها طمعاً في إدراكها؛ كما أخفى سبحانه الصلاة الوسطى في الصلوات وأخفى اسمه الأعظم في أسمائه الحسنى وأخفى ساعة الإجابة في ساعات الجمعة وساعات الليل وأخفى غضبه في المعاصي ورضاه في الطاعات وأخفى قيام الساعة في الأوقات وأخفى العبد الصالح بين العباد؛ رحمةً منه وحكمة، هذا سر الاختلاف، فكيف كان بينهم؟ قيل: إنها الليلة الأولى من الشهر؛ هذا ما قال به أبو رزين العقلي. هي ليلة سبع عشرة من رمضان، وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر؛ كأنهم نزعوا بقوله في الآية 41 من سورة الأنفال: »وما أنزلْنا على عبدنا يوم الفُرْقان يوْم الْتقى الْجمْعان«؛ هذا ما ذهب إليه الحسن البصري وابن إسحاق وعبد الله بن الزبير. هي في العشر الأواخر من رمضان؛ وهو الصحيح المشهور؛ وهو قول مالك والشافعي والأوزاعي وأبي ثور وأحمد. إنها ليلة الحادي والعشرين. إلى هذا مال الإمام الشافعي، رضي الله عنه، لحديث الماء والطين الذي رواه أبو سعيد الخُدْري وخرجه مالك وغيره. هي في ليلة الثالث والعشرين؛ لما رواه ابن عمر أن رجلاً قال: يا رسول الله إني رأيت ليلة القدر في سابعة تبقى. فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: »أرى رؤياكم قد تواطأت على ثلاث وعشرين؛ فمن أراد أن يقوم من الشهر شيئاً فليقم ليلة ثلاث وعشرين«. إنها ليلة خمس وعشرين؛ لحديث أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: »التمسوها في العشر الأواخر في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى في خامسة تبقى؛ رواه مسلم. قال مالك: يريد بالتاسعة ليلة إحدى وعشرين والسابعة ليلة ثلاث وعشرين والخامسة ليلة خمس وعشرين. هي ليلة سبع وعشرين؛ وهو قول علي بن أبي طالب وعائشة ومعاوية وأبي بن كعب رضي الله عنهم. روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: »من كان متحريا ليلة القدر فليتحرها ليلة سبع وعشرين«. إنها ليلة تسع وعشرين؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: »ليلة القدر التاسعة والعشرون أو السابعة والعشرون وأن الملائكة في تلك الليلة بعدد الحصى« اللهم يارب ألهمنا إليها وأعنا على التقرب إليك فيها؛ بفضلك وجودك وكرمك وإحسانك؛ إنك ولي ذلك وقادر عليه؛ سبحانك لا إله إلا أنت.