من خلال هذه الحلقات العلمية القيمة، سنجول مع الدكتور التهامي الراجي الهاشمي في حدائق القراءات القرآنية المتواترة، حيث، سيمهد للقارئ بفضل خبرته الطويلة في هذا الميدان العلمي الذي يصح أن نقول إنه حجة فيه الطريق إلى اكتشاف كنوز هذه القراءات، تاريخا، وحفظا، وأداء، وقواعد، وأسرارا. كان آخر ما بحثنا فيه في حلقتنا السابقة في موضوع: »قراءة عبدالله بن عباس« هو أداؤه، رضي الله عنه وأرضاه لقوله تعالى: »أتينا طائعين« في الآية 11 من سورة فصلت؛ التي يقرأها هو، كما رأينا: »آتينا طائعين« بمد همزة »أتينا« أي: على وزن (فاعلنا) بالمد والفتح«. وأواصل الآن، بحول الله وقوته البحث فيما بقي من قراءته ملتمسا منه سبحانه وتعالى العون والتوفيق؛ إنه، عز وجل ولي ذلك وقادر عليه؛ فأقول: وقرأ، رضي الله عنه وأرضاه، الآيتين الأولى والثانية في سورة الشورى؛ والآيتان هما، في مصحف الإمام، حسب العدين الكوفي والحمصي هكذا: »حم عسق«؛ أقول: يقرأهما هو، رحمه الله: »حم سق« بغير عين، وكذلك هو في مصحف عبدالله بن مسعود الذي يقرأهما كابن عباس. روى أبو رويم نافع بن عبدالرحمن المدني عن ابن عباس: »الحاء« حلمه، و »الميم« مجده، و »العين« علمه، و»السين« سناه و»القاف« قدرته؛ أقسم بالله ألا يعذب من عاذ بلا إله إلا الله مخلصا من قلبه. وقيل: هذا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم:ف: »الحاء« حوضه المورود، و »الميم« ملكه الممدود، و»العين« عزه الموجود، والسين« سناه المشهود، و»القاف« قيامه في المقام المحمود وقربه في الكرامة من الملك المعبود. زاد ابن عباس قائلا: ليس من نبي صاحب كتاب إلا وقد أوحي إليه »حم عسق«؛ فلذلك قال: ».. يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم« يقرأ هنا، في هذا الجزء من هذه الآية ابن كثير المكي من السبعة: »يوحى« بفتح الحاء على مالم يسم فاعله؛ شاركه في هذه القراءة ابن محيصن ومجاهد. أشرت أعلاه وأنا أتحدث عن قراءة »حم عسق« إلى أنهما آيتان في العدين المكي والحمصي. وبما أننا لم يسبق أن ذكرنا العد في أية حلقة من حلقاتنا أخاف ألا يفهم بعض من القراء الأعزاء المقصود بهذه الإشارة؛ لذا أقول وبكل اختصار: »الآيات في القرآن الكريم معدودة، كما نرى، في مصاحفنا بأعداد مختلفة. فلنأخذ لنتحقق من ذلك مصحفين اثنين ونقرأ الفاتحة فيهما. نأخذ إذا شئتم مصحفين من تلك المصاحف الشريفة. وبما أن هذه المصاحف توزع مجانا على الناس فإنها، ولا شك ستكون عند جميع القراء الأعزاء لهذه الحلقات. فإن أخذنا المصحف المطبوع في المجمع المذكور برواية ورش للاحظنا أن : »بسم الله الرحمان الرحيم« في هذا المصحف لا تحمل أي رقم وأن الآية الأولى هي في هذه السورة: »الحمد لله رب العالمين«. لكن إذا أخذنا المصحف الآخر المطبوع في المجمع المذكور برواية حفص للاحظنا أن : »بسم الله الرحمان الرحيم« تحمل فيه رقم واحد وأن : »الحمد الله رب العالمين« تحمل رقم اثنين. السؤال لماذا إذن هذا التباين؛ أقول: لأن المصحف الذي جاء فيه: »بسم الله الرحمان الرحيم« آية يتبع في عد آياته العد الكوفي وأن المصحف الآخر الذي لم يجعل فيه: »بسم الله الرحمان الرحيم« آية يتبع العد المدني الأخير. معرفة العد واعتباره حين قراءتنا للقرآن الكريم مفيدة للغاية؛ فمن أراد الاطلاع على هذا راجع مؤلفين وفقني الله سبحانه وتعالى إلى تصنيفهما. الأول: قصيدة في الموضوع بعنوان: إيقاظ الوسنان في تفصيل فواصل آي القرآن »قامت بتحقيقها الباحثة فدوى العثماني ونالت بها دكتورة في علوم القرآن. الثاني: إيقاظ الوسنان في عد آي القرآن«؛ طبعته دار القراءات بألمانيا وصمم غلافه السيد أندلوسي محمد عبدالناصر. وهي نفس المطبعة التي طبعت، لأول مرة في تاريخنا الاسلامي روايتي مكةالمكرمة؛ رواية البزي ورواية قنبل؛ اللتين ظهرتا الآن وتباع في كل مكان بفضل جهود هذا العبد الضعيف محرر هذه الحلقات وتضحية دار القراءات بألمانيا وتزكية اللجنة العلمية العليا للأزهر الشريف بالقاهرة. ولا شك أن عدم ظهور الروايتين المتواترتين المذكورتين طيلة القرون الأربعة عشر يعد تقصيرا وتقاعسا مخزيين يسأل عنهما كل مسلم قادر أن يقوم به من الناحية المادية والمعنوية ولم يفعل؛ نسأل الله تبارك وتعالى العفو والعافية. كما قرأ أيضا، رضي الله عنه وأرضاه في سورة الجاثية الآية 13 التي تقرأها الجماعة كما يلي: »وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون« أقول: قرأها هو هكذا: »وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون« ؛ نعم، لقد أدى قوله تعالى: »جميعا منه« هكذا: جميعا منه« بكسر الميم وتشديد النون وتنوين الهاء منصوبا على المصدر. قال أبو عمرو: وكذلك سمعت مسلمة يقرأها: »منة« أي: تفضلا وكرما. وعن مسلمة بن محارب أيضا: جميعا منه« على إضافة (المن) إلى هاء الكناية. وهو عند أبي حاتم خبر ابتداء محذوف، أي: ذلك، أو هو منه. شارك ابن عياس في هذه القراءة كل من عبد بن عمرو والجحدري وعبد الله بن عبيد بن عمير. أما »منَّة« فمنصوب على المصدر لأن ذلك منه عز اسمه منّة منَّهأ عليهم، فكأنه قال: »منَّ عليهم منَّةً«. ومن نصب وميضَ البرق جعله في معنى أومضت. وأما »منُّهُ« بالرفع فحمله أبو حاتم على أنه خبر مبتدإ محذوف، أي: ذلك أو هو »منّهُ« بالرفع؛ كذا قال. كما قرأ الصاحبي الجليل عبد الله بن عباس أيضا، رضي الله عنه وأرضاه في سورة الأحقاف الآية 4 التي يقرأها الجمهور كما يلي: »قلْ أرءَيْتُم ما تدعونَ من دون الله أرُوني ماذا خَلقوا من الأرض أمْ لهمْ شرْكٌ في السماوات ائْتوني بكتاب منْ قبل هذا أو أثارةٍ منْ علْم إن كنْتُم صادقين« أقول: قرأها هو: »قُل أرءيْتُم ما تدْعونَ من دون الله أرُوني ماذا خلقوا من الأرض أمْ لهمْ شركٌ في السماوات ائْتوني بكتابٍ منْ قبْل هذا أو أثَرَةٍ منْ علْمٍ إن كنْتُمْ صادقينَ« لقد أدى قوله تعالى فيها »أثارةٍ منْ علْمٍ« هكذا »أثَرَةٍ منْ علْمٍ« بغير ألف. شاركه في هذه القراءة كل من زيد بن علي وعكرمة وقتادة والحسن البصري وعمرو بن ميمون ورويت أيضا عن الأعمش. وقرأ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وأبو عبد الرحمان السلمي: »أوْ أثْرةٍ« وهي من قوله: أثرَ الحديث يأثُرُهُ أثْراً وأثَرَةَ. وأما »الأثرة«، ساكنة الثاء فهي أبلغ معنى؛ وذلك أنَّها الفَعْلة الواحدة من هذا الأصل، فهي كقولك ائتوني بخبر واحد أو حكاية شاذة. كما قرأ أيضا، رضي الله عنه وأرضاه في نفس السورة، سورة الأحقاف الآية 28 التي يقرأها الجمهور كما يلي: »فلَوْلا نصَرَهُمُ الذين اتَّخذُوا من دون الله قُرْباناً ءالهَةً بلْ ضلُّوا عنهُم وذلكَ إفْكُهُم وما كانوا يفتَرون«؛ أقول: قرأها هو: »فلوْلا نصرهُم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً ءالهة بلْ ضلُّوا عنْهُم وذلك أفكهم وما كانوا يفترون«. بفتح الألف والفاء والكاف في قوله »إفْكُهُمْ« شارك ابن عباس في هذه القراءة أبو عياض وعكرمة وحنظلة بن النعمان بن مرة. وقرأ: «آفَكهمْ» بالمد وفتح الفاء مخففة عبد الله بن الزبير. وقرأ: «آفَكهمْ» مشددة الفاء أبو عياض بخلاف عنه. أما «آفَكهمْ» التي قرأ بها ابن عباس ومن ذكرناهم معه فصَرَفَهم وثناهم. قال عروة بن أذينة: إنْ تكُ عنْ أحسن المُروءة مأ فُوكاً ففي آخرينَ قدْ أفِكوا وهو صرف بالباطل، وأرض مأفوكة، أي مقلوبة التراب. وأمَّا: »آفَكهُمْ« فيجوز أن يكون (أفْعَلهمْ)، أي: أصارهم إلى الإفك، أو وجدهم كذلك؛ كما تقول: أحْمدْتُ الرجل: وجدْته محمودا. ويجوز أن يكون: »آفَكَهُمْ« فاعَلَهمْ »كغالطهم وخادَعَهُمْ وأمَّا: »أفَّكَهُمْ« ففَعَّلهُمْ وذلك لتكثير ذلك الفعل بهم وتكرره منه عليهم. وقراءة العامة »إفْكُهُمْ« بكسر الهمزة وسكون الفاء، أي: كذبهم. والإفك: الكذب وكذلك الأفيكة والجمع الأفائك، ورجل أفَّاك أي كذاب. كما قرأ أيضا، رضي الله عنه وأرضاه في سورة محمد الآية 15 التي هي في القراءة المتعبد بتلاوتها كما يلي: »مثلُ الجنَّة التي وُعدَ المتقون فيها أنهارٌ من ماءٍ غير آسنٍ وأنهارٌ من لبَنٍ لم يتغيَّرْ طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفّى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمَنْ هو خالدٌ في النار وسقوا ماء حميما فقطَّع أمعاءهم«؛ لقد قرأ، رحمه الله: »أمثالُ الجنة التي وعد المتقون فيها انهار من ماء غير آسن وأنهارٌ من لبن لمْ يتغيرْ...«؛ قرأ بجمع: »أمثال«؛ ولم يشاركه في هذه القراءة أحد بل انفرد بها وهو قليل ما ينفرد بالقراءة، وإ كان ابن جني يقول في الجزء الثاني من »محتسبه« صفحة 270: »إن عليا بن أبي طالب يقرأ: »أمثال الجنة التي وعد المتقون« أي: إنه يقرأها مثل ابن عباس. وما أعتقد أن عليا قرأ هكذا؛ فلم أجده إلا عنده، ورغم أنني أعلم أنه مدقق دائما فيما ينقله، أقول: اشك في نسبة هذه القراءة له، لاسيما وأن الإمام القرطبي يقول في الجزء الثاني من »الجامع لأحكام القرآن« صفحة 236: »وقرأ علي بن أبي طالب: »مثالُ الجنة التي وعد المتقون«.