في اليوم السادس من هذا الشهر، الذي حلت فيه الذكرى السابعة والأربعون لوفاة الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي، كنت أقرأ في المجلد الحادي عشر من موسوعة (تاريخ تطوان) للمؤرخ الكبير الأستاذ محمد داود، الذي صدر أخيراً ضمن منشورات جمعية تطاون/أسمير، بعناية وتحقيق وتقديم ومراجعة وإضافات من كريمة المؤلف الأستاذة حسناء محمد داود. فقد اشتمل هذا المجلد على تسع صفحات من البنط الصغير، لم تكن في الأصل ضمن مواد الكتاب، ولكن وقفت الأستاذة حسناء بين أوراق المؤلف الخاصة، على أوراق دون فيها معلومات كان يجمعها لهذا الغرض. ولكنه لسبب ما لم يضمها إلى المجلد الحادي عشر الذي هو المجلد ما قبل الأخير. وقد قسمت المحققة هذه الأوراق قسمين؛ القسم الأول وبه معلومات عن الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي وعن الحرب الاستقلالية الريفية، والقسم الثاني ويضم نداء من الزعيم إلى (كافة المسلمين في المغرب الأقصى). وتقول الباحثة حسناء داود إن المؤلف «سبق أن أشار في فصل سابق إلى أنه سيفصل الكلام عن المقاومة التي قام بها الزعيم الخطابي، إلا أنها لم تقف في الفصل الرابع الخاص بمقاومة الاحتلال، على ما يتعلق بهذا الموضوع». وتضيف قائلة : «ولعل هذا من الموضوعات التي كان سيخصص لها عنواناً مستقلاً، لأهمية الأحداث التي تضمنتها الثورة الريفية في أعمال المقاومة». ولكنني أقول ربما كان هناك سببٌ آخر دفع المؤلف إلى عدم إدراج موضوع حرب الريف في كتابه، مع أنه خصص هذا المجلد للمرحلة التي عاش فيها ابن عبد الكريم والريسوني وغيرهما. يأتي المؤلف بوثيقتين تاريخيتين عن ابن عبد الكريم الخطابي؛ الأولى مؤرخة في عام 1926 وهي (الأمر بتثقيف أملاك الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي). وهو ظهير مثير للانتباه أصدره الخليفة السلطاني مولاي الحسن بن المهدي. وتحته ما نصه : (عاينت ظهير سمو الخليفة المعظم مولاي الحسن بن المهدي، الآمر بتثقيف أملاك محان (كذا) ولد عبد الكريم الخطابي رئيس الثورة، عقاباً له على المسلك الذي سلكه وتعويض المضرات التي تسببت عن ذلك. وعليه فإني أعلم به. تطوان فاتح غشت 1926. خوسي سانخورخو). ونشر هذا الظهير مع تأشيرة المقيم العام الإسباني، في الجريدة الرسمية للمنطقة الخليفية في عدد 16 صفحة 436 عام 1926. ويعلق المؤلف على هذا الاسم الوارد في تأشيرة المقيم العام بقوله : «الاسم الحقيقي (للزعيم) هو محمد، وربما حوله بعض أهل الريف إلى محند، أما محان فلا ندري من أين أتى به هذا الكاتب عفا الله عنه». أما الوثيقة الثانية فهي عن (تثقيف أتباع الزعيم ابن عبد الكريم)، في ظهير للخليفة السلطاني مولاي الحسن بن المهدي. وجاء في هذا الظهير الذي يطرح أسئلة كثيرة : (يعلم من هذا الكتاب الشريف والأمر الأسمى المنيف، أنه حباً في التمشي على موجب العدل والإنصاف، وعقاباً على المسلك الشنيع الذي سلكه ضد السلطة الحقيقية، الذين اشتركوا في الثورة التي ترأسها محان (كذا) ولد عبد الكريم الخطابي، وامتازوا لمعاكستهم للمخزن الشريف والدولة الحامية، وهو محمد أزرقان الملقب بخريطو الأجديري، و........ (إلخ الأسماء) .. نأمر بتثقيف (أي مصادرة) أملاكهم الموجودة في هذه المنطقة المبنية وعبر المبنية والمزروعة وغيرها والماشية ..». وهاتان الوثيقتان (الظهيران الخليفيان) تكشفان عن الموقف المتواطئ مع الاستعمار الإسباني الذي وقفه الخليفة السلطاني الذي كان عهدئذ شاباً يافعاً لا يملك أي نفوذ أمام المقيم العام الإسباني، ولم يمض على توليه الخلافة سوى ثلاث سنوات (1923). في النبذة التي ساقها المؤلف عن ابن عبد الكريم، نقف على معلومات مهمة، بعضها ينشر للمرة الأولى، مما يجعل هذه الترجمة المركزة المكثفة ذات أهمية تاريخية. يقول الأستاذ محمد داود : «كان محمد بن عبد الكريم الخطابي لا يزيد على كونه فقيها كاتباً موظفاً لدى الإسبان بمليلية، وقد أسند إليه الخليفة السلطاني بتطوان، وهو مولاي المهدي بن إسماعيل (إسماعيل هذا هو أخو السلطان مولاي الحسن الأول)، وظيفَ القضاء. وقد سكن بتطوان مع والده وعائلته مدة كان يدرس فيها مختلف العلوم العربية والإسلامية على شيوخها، كملا ذكر ذلك بنفسه أثناء اجتماعي به في القاهرة في الستينيات (ابن عبد الكريم توفي في 3 فبراير 1963) ..». ونشر المؤلف نص الظهير الخليفي بتعيين ابن عبد الكريم قاضياً في فرخانة عام 1914. وجاء في هذا الظهير الخليفي الذي لم تتطرق إليه الكتب الكثيرة التي نشرت عن ابن عبد الكريم : (يعلم من كتابنا هذا أعزّ الله أمره وجعل فيما يرضيه طيه ونشره، أننا بحول الله وقوته، وشامل يمنه ومنته، رشحنا الفقيه السيد محمد بن عبد الكريم الخطابي لخطة القضاء على قبائل فرخانة، فرقة من مزوجة، ليفصل بين الخصوم، ويخاطب على الرسوم؛ وينفذ الأحكام بمقتضى مشهور مذهب الإمام مالك، وما ترجح من الأقوال التي تعتمد في تلك المسالك، وما جرى به العمل وبني على قواعد المذهب ...». إن هذا الموقف الذي وقفه الخليفة السلطاني من الحرب الاستقلالية الريفية، كان منسجماً تماماً مع السياسة التي انتهجتها الدولة الإسبانية (الحامية) في المنطقة من هذه الحرب. ففي سنة 1924، والحرب الريفية في عنفوانها، ووجَّه الخليفة إلى القبائل الريفية دعوة (للخضوع للمخزن والخروج عن طاعة الزعيم ابن عبد الكريم الخطابي). جاء فيها ... «من جناب المخزن المغربي الشريف إلى كافة القبائل الريفية، سلام عليكم ورحمة الله إن عدتم لطاعة الله ..... فلا يخفاكم أن الفتنة نائمة لعن الله موقظها، وأنها تعم المطيع والعاصي، وقد علمتم ما قاساه المخزن الشريف من الصبر على عصيانكم الطويل الذي عاقبته خراب الديار وهلاك الرقاب وفساد المعيشة، وكم جريتم في أودية الضلال، وجانب المخزن الشريف يسايركم، ويصفح عن جرائمكم التي تستوجبون بها الدمار وشديد العقاب، ويعاقب من استحق العقاب بالتي هي أحسن، إعذاراً لكم وإنذاراً، وفتحاً لباب الإصلاح، وسداًّّ لباب الفساد، ولا يزيدكم ذلك كله إلا طغياناً وتجبراً وتيهاً وتكبراً ...». ثم يضيف الخليفة في دعوته التي لم تكن تليق بمقامه والموجهة للقبائل الريفية قائلاً : «إن هذا العقاب الذي سيبديه لكم جانب المخزن السعيد نحوكم، سيكون شديداً للغاية على أشخاصكم وأولادكم ومزروعاتكم ومواشيكم وكافة ثروتكم ...». وقد تم إنزال هذا العقاب فعلاً بالقبائل الريفية على يد السلطات الإسبانية الاستعمارية، سواء أثناء الحرب التحريرية الاستقلالية، أو بعد القضاء عليها بالتواطؤ مع السلطات الاستعمارية الفرنسية كما هو معلوم. وهنا يتبادر إلى الذهن الجريمة النكراء ضد الإنسانية التي ارتكبتها إسبانيا باستخدامها الغازات السامة في ضرب المواطنين المغاربة في القبائل الريفية. وبذلك يكون التهديد الذي وجّهه الخليفة السلطاني إلى القبائل الريفية المجاهدة مع ابن عبد الكريم، تهديداً وجد سبيله إلى التنفيذ. ومعنى ذلك أن كاتب هذا النص/المسخ، كان ينفذ تعليمات المقيم العام الإسباني، لا تعليمات الخليفة الذي لم يكن له من الأمر شيء. وأعود إلى الصفحات التي كتبها الأستاذ محمد داود عن الزعيم ابن عبد الكريم والتي تلقى الضوء على جوانب غير معروفة على نطاق واسع، فأجده يقول : « إن الأمير عبد الملك بن الأمير عبد القادر الجزائري كان قد التحق ببعض القبائل الريفية أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وتولى رئاسة المجاهدين الذين يحاربون الفرنسيين. وكان الألمان يساعدون الأمير عبد الملك، وكان جل المغاربة يظنون خيراً في الألمان باعتبارهم أعداء الدولة الحامية. وبناء على ذلك يقول المؤلف مدّ بن عبد الكريم يد المساعدة للألمانيين، فمهد السبيل للهرهرمان الألماني حتى أمدّ حركة الأمير عبد الملك ببعض ما يحتاج إليه من مال وعتاد. وكان والد ابن عبد الكريم من جملة القادة المساعدين بنفسه وبرجاله لعبد الملك والقبائل المجاهدة معه. وكانت مساعدة ابن عبد الكريم للألمان إما باتفاق مع إسبانيا، وإما بتغاضٍ منها، لأن المساعدات كانت تمر في البلاد التي تحت سيطرتها. فعلمت فرنسا وحليفتها انجلترا بتلك المساعدات، فاحتجتا على إسبانيا، فما كان من هذه إلا أنها تنصلت من ذلك، وألقت المسؤولية على الفقيه القاضي محمد بن عبد الكريم الخطابي. ولإرضاء دولتي فرنسا وإنجلترا، زجت بالفقيه في سجن أحد الأبراج الإسبانية بمليلية وكان ذلك سنة 1915». وبعد فراره من السجن، حسب الرواية المشهورة المتداولة، انسحب ابن عبد الكريم من مليلية سنة 1918، فذهب إلى داره بأجدير، وبدأ المعركة، وكان والده ما يزال على قيد الحياة. ويولي الأستاذ محمد داود احتراماً كبيراً وتقديراً عظيماً للزعيم ابن عبد الكريم. وهو هنا يختلف عن أستاذه الفقيه الرهوني الذي لم ينصف الزعيم الخطابي في الجزء الثاني من كتابه (عمدة الراوين). ولا غرو، فثمة فرق كبير بين الفقيه الرهوني والأستاذ محمد داود الذي كان أحد أقطاب الحركة الوطنية ومن أعلام الفكر والعلم والثقافة في النصف الأول من القرن العشرين، فهو يحليه ب (الزعيم الكبير الوطني المجاهد الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي بطل المغرب ومفخرته). وهي الأوصاف التي نشأنا عليها، والتي عرف بها العالم كله الزعيم الخطابي. إن العمل الكبير الذي قامت به كريمة المؤلف الأستاذة حسناء محمد داود، في جمع مواد هذا المجلد الحادي عشر، وإضافة هذه الصفحات عن ابن عبد الكريم إليه، يستحق كل التقدير. أما مؤرخنا الكبير فله منا عظيم الاحترام ووافر التقدير، فقد قدم لنا في هذا المجلد النفيس معلومات وافية شاملة جامعة، من خلال وثائق رسمية، عن المراحل الأولى من الوجود الإسباني الاستعماري في المنطقة.