يختار حزب الاستقلال اللحظة المناسبة ليقدم توضيحات دقيقة جدا لما يمكن أن يكون قد تراكم من التباسات في المشهد السياسي الوطني، وهو يدرك مسبقا أن هذه التوضيحات ستصيب الجروح الغائرة في بعض الأجساد العليلة، ويدرك مسبقا أن أطرافا كثيرة من هذه الأجساد ستقوم بردود الفعل التي تحاول أن تخفف من حدة الآلام والأوجاع. ومن الطبيعي أن لاتتوقف الحركة التنظيمية والإشعاع السياسي والنضالي للحزب رأفة بهذه الأجساد المريضة تحسبا من زيادة حدة الآلام بها. هكذا اختار حزب الاستقلال أن ينظم المهرجان الرئيسي للاحتفاء بالذكرى 66 لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال بمدينة عيون الساقية الحمراء، وجند طاقاته النضالية واللوجستيكية لضمان شروط نجاح الحدث، إضافة إلى أنه تعمد أن يبقي لجميع الفروع تنظيم مهرجانات أخرى في مختلف المدن، وهذا ماحدث بالضبط. نبدأ بالتساؤل.. ولماذا اختيار عيون الساقية الحمراء موقعا للحدث البارز؟ الجواب يتلخص في عدة أجوبة لبعض الأسئلة التي ضخمها البعض وأعطاها أكثر من حجمها. أولاها أن البعض تعمدو بإصرار كبير تسليط الأضواء الكاشفة جدا لقلة من الأشخاص قد لايتعدى مجموعهم عدد أصابع اليد ينشطون بتحكم من الخارج في إطار حلقة الانفصال، وبدا للمواطن المغربي قبل المراقب الدولي أن العيون ومناطق أخرى من أقاليمنا الجنوبية تعرف حركة انفصال عارمة جدا، وكان من الطبيعي أن يمثل ذلك مصدر قلق للوطنيين، وساهمت بعض الأطراف حتى من داخل الأجهزة وتحديدا من مدينة العيون المجاهدة في تهويل وتضخيم هذا الهاجس من خلال بذلها لجهد في صياغة تقارير تضع مهرجان حزب الاستقلال محل مجازفة حقيقية، ولم يكن حزب الاستقلال في يوم من الأيام يضع مثل هذه الهواجس الملغومة محل اهتمام بالنظر إلى ثقته في إمكانياته ودقة تقديراته. وكان لابد من اختيار العيون لتوجيه رسالة واضحة جدا فحواها أن عيون الساقية الحمراء مدينة مغربية تعيش حياة عادية كما تعيشها كل المدن المغربية في ظل الاستقرار والطمأنينة، وأن ما يفتعل فيها من أحداث لايخرج عن سياق مظاهر الاحتجاج العادي التي تستعملها بعض الفئات أو المجموعات للتعبير عن مطالب اجتماعية صرفة وهي محقة في ذلك، بيد أن الاقبال الجماهيري الحاشد الذي عد بعشرات الآلاف الذي لم تتسع له فضاءات قصر المؤتمرات الداخلية والخارجية تعبير واضح وصادق من سكان هذه المدينة الوطنيين الصادقين عن مغربيتهم وتمسكهم بالاختيارات الوطنية التي يشاطرهم إياها مجموع الشعب المغربي. إن حدث العيون البارز كان بمثابة تحقير لهواجس أمنية صرفة ولعنة عنيفة لحفنة ممن يطلقون على أنفسهم نشطاء الانفصال. جانب آخر لايقل أهمية عن الأول يدعونا حدث العيون لنتناول به القضية. ذلك حينما تبادر قلة قليلة جدا من الأشخاص على رفع علم الجبهة الانفصالية أو مناوشة قوات الأمن، نلاحظ صحفا كثيرة تسارع إلى تغطية الحدث البئيس في (مونشطات) كبيرة وعريضة وحينما يبادر حزب وطني كبير إلى تنظيم مهرجان يحتشد فيه آلاف المواطنين بكل حماس وصدق، نفاجأ بأن نفس وسائل الاعلام تهمل الحدث بل لاتكتفي بذلك بل تخرج سهاما ملفوفة بالسم القاتل لتوجهها للجسد الاستقلالي مراهنة على أن تكون الضربة الأخيرة قبل أن يسقط الجسد الاستقلالي صريعا يتخبط في الدماء، وهذا هو مضمون الرسالة الإعلامية «النبيلة» التي يشتغل في إطارها بعض الكتبة، وطبعا نفهم أن الأمر لايتعلق بسلوك عدواني فردي يعكس حالة نفسية مريضة لهؤلاء بل ندرك ومعنا الرأي العام أن هذه الحالة النفسية المريضة ماهي في حقيقتها الى ترجمة واضحة للسلوك العدواني لأطراف تحرك قطع اللعب في رقعة شطرنج مرسومة بدقة. إن رسالة حزب الاستقلال من خلال هذا الحدث البارز التقطها الرأي العام الخارجي بدون جهد لفك رموزها، وتتلخص في أن المغاربة يعيشون حياة عادية معبئين وراء ملكهم للدفاع عن الثوابت المقتنعين بها، وأنهم الأغلبية الحقيقية التي يجب على هذا العالم أن يفهمها. طبعا حزب الاستقلال لم يتعامل مع الحدث من باب المنافسة على من ينجح أكثر أو الأول في حشد التأييد، فتلك لعبة صغيرة نتركها للعقول الصغيرة التي تتعامل مع القضايا المصيرية بمنطق حسابي متخلف، ولكن الحزب نظر الى الحدث وتعامل معه بروح المسؤولية في إطار واجب الحزب بالمساهمة من موقعه في مراجهة التحديات التي تواجهها قضيتنا الوطنية المركزية الأولى. وهنا نطمئن النفوس المريضة التي أضناها البحث في التفاصيل عن كل ما من شأنه أن يثير النعرات ويشعل الفتن ويلهب الميز العنصري ويغذي النعرة القبلية الرهيبة، أن حزب الاستقلال يستثمر إمكانياته وطاقاته ومؤهلاته التنظيمية والنضالية لخدمة قضايا الوطن، وهذا هو الفرق بينه وبين آخرين.