وصلت حماس إلى قاهرة المعز ودخلتها من باب الديبلوماسية. لن نعرف النهاية ولن نعرف الكواليس وسنتابع المشهد بغير قليل من التساؤل، الذي سنأجل مرارته إلى لحظة أخرى، يكون فيه الخبر أقل إحراجا. سنأجل الكلام عن الموضوع إلى أن يموت ما يكفي من الفلسطينيين وتدخل الجثة إلى برودة المختبر الذي يحللها، وتزول عنه غمامة القداسة. وقتها سنسأل السؤال الذي لابد منه: لماذا تحولت مصر، في لحظة ألم ولا شك، لكنها لحظة التباس أيضا، إلى جلاد، وإلى عدو. لماذا وقف العرب في العواصم والمدن الصاخبة ليسبوا بلدا أعطى الكثير للأمة، فقط لأن هناك تقديرا سياسيا لدى القاهرة لا يتفق مع عواطفنا. لنعترف بأن الموقف المصري كان غامضا وغير مفهوم وصعب التبرير، لكننا بسهولة هاجمنا القاهرة في الوقت الذي كانت تل أبيب تفرغ كل رصاصها على أهلنا في القطاع. نحن سريعو الغضب ولا شك، لكننا سريعو الشك والتفاعل السريع مع الخطأ. وقد كنا نقدم لحم شعب منا إلى المجنزرات، ونستعد لكي نقدم الشعب الثاني إلى الأول وإلى الأعداء وإلى الحقد الشعبي الخاص بنا. تحدثنا عن مصر بحقد كبير، ولم نترك الدخان يعلو قليلا لنرى الجثث، ثم نرى إلى أين سيقودنا خيط الدم الفلسطيني، ولم نترك وقتا للسياسة حتى فرضت نفسها علينا. لقد أصبحت لدينا عادات متأصلة في اتجاهات غير صحيحة، وأصبحت لدينا سرعة الضغينة، في الوقت الذي نحتاج فيه إلى سرعة البديهة. ماذا سيقول الحماسيون الآن لإخوانهم المصريين: جئنا لكي نتفاوض معكم، لأنكم العدو القريب، إلى أن يحين التفاوض مع العدو البعيد؟ ماذا سيقول الذين كانوا يصرخون من على ميكروفونات«الجزيرة»: لقد ذهبوا، من باب الواقعية إلى القاهرة، لأن المطار مفتوح للذهاب إلى الهدنة؟ لقد تم تخوين عرفات، كنا صامتين، وبعد أن مات جاؤوا من جديد ليبكوا قائدا فذا، ومناضلا صلبا. كان تحت الحصار وكانوا يقولون إنها تمثيلية مع العدو، وتم تخوين القاهرة واحترمنا حدة الجرح، وهول الفاجعة، وبعد أن ارتفع القصف وزادت رتل الموتى اكتشفنا الواقعية واكتشفنا الطريق إلى القاهرة ، وتم تخوين أبو مازن، وذهب الناطق الرسمي لحماس إلى اعتباره «متعاونا مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، يعمل تحت إمرتها»، كما لو أن الرجل لم يكن يوما من رفاق عرفات. هناك بد من الخروج من زمن الخطابة، ومن داحس والغبراء، ومن عكاظ وعنترة السيف الخشبي.. هناك الحاجة إلى قليل من التواضع لكي نفهم هذه المأساة، ونعرف من أين يأتينا الرصاص، ولا نثقل كاهل الهزيمة فينا بالضغينة.. لنبحث عن إخوة جدد، قبل البحث عن أعداء منا. قد يكون الموقف الرسمي للسلطة غير منسجم مع أجندة المقاومة أو جاءت بعدها، أو حتى مقابلا لها، لكن التوجه الى السياسة لا يعني بالضرورة الخيانة والتنكر للقضية. عسانا نتعلم قليلا.. < < < يحلو لبعض المحللين والسياسيين أن يقدموا ما يحدث الآن في غزة كما لو أنه مسؤولية حماس. ويذهب البعض، في العديد من القنوات إلى أن الجلاد - البديل الآن هي المقاومة الفلسطينية. لنتفق منذ البداية على أن إسرائيل لم تكن في حاجة إلى حماس لكي ترتكب مجزرة دير ياسين، وذلك لسبب بسيط هو أن حماس لم تكن موجودة، أما غريزة القتل المعمم فقد كانت الطبيعة الأخرى للاحتلال، أو الطبيعة الأولى .. وعليه، فإن الاحتلال لا يحتاج إلى ذرائع، وإن كان يسوغ بها ما يريد. ولا يحتاج إلى « قوة أخلاقية» يبرر بها الإرهاب الذي يقوم به. ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن نقدم فصيلا فلسطينيا، مهما كانت درجة الاختلاف معه، على أنه السبب الرئيسي في ما يقع من تقتيل وتذبيح وتدمير في صفوف الشعب الفلسطيني. عندما تصب سماء غزة نيرانها على رؤوس الفلسطينيين لا يمكن أن نتهم حماس، كما لا يمكن أن نسب فتح أو نخون زعماءها. ولن تسعفنا البرودة العقلانية كثيرا في مثل هذه الحالات، لكنها مع ذلك تسير في اتجاه قد يجعلنا نضبط قلوبنا على إيقاع صحيح. تحت النيران لا يمكن أن نبني الموقف الحيادي. ولا يمكن أن نفكر كما لو أن الوضع عادي ومألوف ويكاد يكون منطقيا. ففي هذه الحالة بالذات هناك قاتل محترف، قضى عقودا طويلة في شحذ السكين، وسواء كان الخصم عرفات أو كان هنية، فإنه يدرك بأن وراءه فلسطينيين جيدين للذبح والتقتيل. لقد تعاملت بعض التحليلات مع الوضع الذي تعيشه غزة، كما لو أنها تنظر إلى رقعة شطرنج، لابد أن يكون لاعب ما قد أهدى جثته إلى خصمه ببلادة. لا يمكن أن نبلد الآن أي فصيل، لأنه طريقة أخرى في التخوين، وهما مرفوضان معا أيا كان مصدرهما. لقد فوجئنا بالفعل من تحميل المسؤولية لحماس من طرف بعض القياديين في فتح وفي السلطة الوطنية الفلسطينية، في الوقت الذي كان أولمرت يضع خارطة طويلة الأمد للتقتيل. ليس من حق الفلسطيني أن يحمل جثة أخيه مسؤولية القرار الإسرائيلي، لأن الطائرة تقلع من تل أبيب لكي تأتي لقتله في القطاع، ولا تمر بالضرورة عبر عقل السياسي في حكومة غزة، مهما بدا أن تقديره للأمور لم يكن سليما. علينا أن نعفي أنفسنا من البحث المضني عن عقدة للذنب تحرر القاتل الحقيقي من مسؤولية القتل. ولا يمكن أن نقبل أن كل الأحزاب السياسة في إسرائيل، التي تملك القوة... الأكبر على الهمجية متحدة وراء جنودها ووراء قتلتها المحترفين، في الوقت الذي تخرج فيها الضحية إلى الموت بصدر عار، وأطراف موزعة. لا يمكن أن نقبل بتاتا أن نتقن الجلد الذاتي من أجل أن ينتظر القاتل أن نأتيه منهكين بالحروب الأهلية وبالصراعات المجانبة للمعركة. هناك وضع ملتبس بين أن نخون الكل أو نبلد الجميع، في الوقت الذي تزحف الدبابات على أجساد الأطفال. هناك ما يفوق كل احتمال بالفعل.