وليد كبير: نظام العسكر غاضب على ولد الغزواني بعدما رفض الانخراط في مخطط لعزل المغرب عن دول الجوار    مجلس الأمن.. بلينكن يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    ألمانيا.. توجيه اتهامات بالقتل للمشتبه به في هجوم سوق عيد الميلاد    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة        مقاييس الأمطار بالمغرب في 24 ساعة    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    رشاوى الكفاءة المهنية تدفع التنسيق النقابي الخماسي بجماعة الرباط إلى المطالبة بفتح تحقيق    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الاثنين    نادي المغرب التطواني يقيل المدرب عزيز العامري من مهامه    العرائش: الأمين العام لحزب الاستقلال في زيارة عزاء لبيت "العتابي" عضو المجلس الوطني للحزب    سويسرا تعتمد استراتيجية جديدة لإفريقيا على قاعدة تعزيز الأمن والديمقراطية    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    هجوم ماغدبورغ.. دوافع غامضة لمنفذ العملية بين معاداة الإسلام والاستياء من سياسات الهجرة الألمانية    بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود جلالة الملك من أجل الاستقرار الإقليمي    تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    المجلس الأعلى للدولة في ليبيا ينتقد بيان خارجية حكومة الوحدة ويصفه ب"التدخل غير المبرر"    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    الدرك الملكي يضبط كمية من اللحوم الفاسدة الموجهة للاستهلاك بالعرائش    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    توقيف شخص بالناظور يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع        دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مرضى السرطان القادمون ..بعيدون عن الديار وأرواحهم في قاعة الانتظار
نشر في التجديد يوم 14 - 06 - 2004


ساحة المستشفى.. هم وحزن
بساحة المعهد الوطني للأنكولوجيا، المعروف عند العامة بمستشفىمولاي عبد الله، تكومت أجساد أنهكها المرض والانتظار، تفترش العشب وتبحث عن ظل يقيها حر الشمس، هناك في البعيد شيخ مستلق على الأرض وكتلة لحمية زائدة في وجهه يغطيها بمنديل أبيض حتى لا يقزز منظرها نفوس الناظرين إليه، وامرأة تفترش غطاء وتضع خدها على وسادة وبجانبها ابنها الذي يقارب الثلاثين من عمره، أعياهما طول انتظار الإعلان عن نتائج التحاليل، عاطفة هذه الأم جعلتها لا يهدأ لها روع إلا وابنها يقتسم معها الوسادة لينعم بالراحة، وفي ركن آخر جلست فتاة زينت شعرها بنظارتين تخفف من ألم إحدى المريضات، داعية إياها أن تتذكر الحديث القدسي القائل: «عبدي أنا أريد وأنت تريد ولا يكون إلا ما أريد..»، وتدعوها بأن تكثر من الاستماع للقرآن الكريم وبعض الدروس الدينية، مناظر لو تأملتها لأدركت معاناة المرضى مع سأم الانتظار والعياء الشديد الذي يجعلهم لا يأبهون لمن حولهم.
أدوية باهضة وبعد عن الأهل
مكثت عائشة المنحدرة من مدينة خنيفرة لمدة أربعة أشهر منتظرة أن يحين دورها لإجراء عملية جراحية لرحمها، تعرضت خلالها لأصناف من المعاناة اليومية مع تكاليف الدواء الباهضة والبعد عن الأهل ومصاريف العيش والسكن، اكترت بداية شهرا كاملا بأحد الأحياء القريبة من المستشفى فلم تستطع تحمل التكاليف المادية، ثم لم تجد بدا من اللجوء إلى السكن بالبراكة التي لا تتوفر فيها أبسط شروط الحياة، تقطع مسافة لا بأس بها لجلب الماء، وفي الليل تبدأ معاناتها إلى جانب جيرانها مع لسعات البعوض التي تترك بصماتها على جسدها النحيل، تحكي عائشة عن بعض معاناتها قائلة: «بقيت شهرا كاملا أنتظر خضوعي للعلاج بالأشعة، خاصة أنني أتيت في وقت أصيبت إحدى الآليات التي يستعملونها لمداواتنا بعطب تقني، فكل مرة يقولون لي عليك العودة في الأسبوع المقبل ولما أعود يقولون في الأسبوع الذي بعده حتى اكتمل الشهر... كان عليهم أن يحددوا موعدا مضبوطا حتى نعود لمدننا»، وتضيف قائلة والدمع ينهمر من عينيها: «تعبت كثيرا من انتظار إجراء العملية وقهرت جيوب أبنائي، لذا أضطر للاستعانة بالمحسنين». معاناة عائشة مع المرض تضاف إلى معاناة العديد من النساء اللواتي
يرقدن بأسرة المستشفى، وقد اختلفت حالاتهن، إحداهن تساقط شعرها وبدت لا تقدر على الحركة والكلام، اكتفت برفع يدها إلى السماء، أما الأخرى بجانبها فبدت لا تقوى على الحركة واكتفت بقولها: «الحمد لله على ما أصابنا».
من للمشلول غير أخيه الأصغر؟
رافقنا تطواني إلى حيث يوجد أخوه العليل بقسم الأشعة في الطابق الأرضي للمستشفى، كان مصطفى بلمهدي ممدودا على فراشه، حمل من منزله بتطوان إلى العاصمة على متن سيارة لجمعية الرحمة للأعمال الاجتماعية، لأنه لم يعد يقدر على الوقوف، فقد صار مشلولا نصفه الأسفل، بعد عملية جراحية أجريت له على العمود الفقري. أشعث الشعر شاحب الوجه ذو عينين غائرتين، يرى عليه أثر السقم، لا يقوى سوى على تحريك رأسه ويده، سألناه عن معاناته، التي لم تكن تحتاج إلى كبير عناء لوصفها، فقال بصوت خافت يصارع الألم: «أنا بائع للخضر بإحدى أسواق تطوان يتيم الأبوين، شعرت بألم في ظهري فذهبت إلى الطبيب الذي أجرى لي عملية جراحية فأصبحت بعدها مشلولا لاأقوى حتى على التبول والبراز، وطعامي يقتصر على الحليب والسوائل فقط»، متابعا قوله، بتكلف وعناء كبيرين جدا: «لا أقوى على تغيير وضعية جسمي، فأخي الأصغر الذي يرافقني هو من يعمل على تحريكي إذا ما شعرت بملل من شدة الاسترخاء على ظهري، أو بطني أو أحد جنبي»، وبكلمات قوية خاطبنا قائلا: «اكتبوا عن هذا المستشفى وعن معاناتنا هنا، فقد أتيت إليه كي أخضع للعلاج، لكن مازلت حتى الآن لم أجد سريرا به». تركنا
مصطفى هناك ينتظر عطف الأطباء ورقة قلوب المسؤولين لئلا يحمل وسريره ثانية على أكتاف المحسنين إلى البراكة التي اكتراها أخوه الأصغر بجوار المستشفى في انتظار أن يقبلوه نزيلا بالمؤسسة، وأكملنا حديثنا مع الأخ الأصغر خارج المستشفى، فروى لنا شريط معاناته مع أخيه، إذ قال «بعد أن شعر أخي بألم في صدره توجه إلى طبيب مختص في الأمراض التنفسية، وبعد استعماله الدواء الذي وصفه له الطبيب زادت حدة ألمه، فلجأ إلى التداوي بالأعشاب، ولم تكن نتيجة تذكر، وبعدها بدأ يشعر بالعجز عن المشي»، وفي يوم من الأيام قالها مزبدا «لم يستطع أخي الوقوف، فتوجهنا به إلى الطبيب مرة أخرى، وأجرى له عملية جراحية على عموده الفقري ليرسلنا إثر ذلك إلى مستشفى مولاي عبد الله بالرباط»، و»رغم أننا أجرينا العديد من الفحوصات والتحاليل الطبية يستطرد صاحبنا بالقول وقد تملكه السخط والغضب مازلنا ننتظر قرار الطبيب»، وعندما استفهمناه عن دواعي كرائه البراكة أجاب الأخ الأصغر أن «اللجوء إلى البراكة أفضل من المبيت في الشارع... فلا يمكنني الذهاب إلى تطوان يوميا، لأن حالة أخي الصحية لا تسمح بذلك، وحتى إن فكرت في المبيت في الفندق فلا يمكن أن
يستقبلنا لأن حالة أخي الصحية متدهورة، فلا مفر لنا من هذا المقر الذي يحمينا». وختم بالقول، مثنيا على جمعيات أهل الإحسان إن «جمعية الرحمة بتطوان هي التي شافت من جيهتنا وتطوع أعضاؤها بحمل أخي من تطوان إلى الرباط، لأنه في المرة الأولى كلفتنا سيارة الإسعاف كثيرا».
أتسول لأواجه تكاليف العلاج
قد يرغم الواحد من ذوي المريض أو العليل نفسه على بيع منزله أو أثاث بيته، وقد يضطر للإجهاز على مدخراته المالية في السنوات الخالية أو التسول ليواجه تكاليف العلاج. لمحنا أحد المرضى كان يتجه صوب مرقده في تلك الجحور المظلمة، فدعوناه بلطف إلى أن يجلس إلينا تحت كرمة من الكروم التي تؤثت الفضاء الفسيح بالقرب من مدخل المستشفى، ليروي لنا جزءا من حكايته مع السقم ورحلته في العلاج. لم يرفض صاحبنا الطلب، فجلس بجانبنا، يرتدي قبعة يخفي بها رأسا لم تبق فيه إلا بعض الشعيرات من شدة وقع الدواء الكيماوي الذي يعالج به، ويلبس ثيابا بالية تستر جسمه المنهك، يحمل بيده اليمنى كيسا بلاستيكيا أبيض اللون، وقد وضع به علبا من الأدوية. قال عبد النبي: «طيلة هذه المدة الأخيرة التي انتظرت فيها موعد استعمال الأدوية الكيماوية... كنت أتنقل بين الرباط ووجدة، فألجأ للتسول لتدبير مصاريف المبيت في البراكة وكذا ثمن الدواء»، إلى أن «اقتنت لي يتابع عبد النبي إحدى النساء المحسنات ما أحتاجه من الدواء، فشرعت في المعالجة بالمواد الكيماوية». ويقص عبد النبي معاناته المستمرة مع المسؤولين بالمستشفى قائلا «عندما تخلفت عن الموعد الذي حدد
لي في إحدى المرات لأزور الطبيب، لكوني لم أجد حينها مالا لشراء الأدوية، قالت لي إحدى العاملات بالمستشفى: كان عليك الحضور في الموعد، ولما شرحت لها سبب تأخري نصحتني بالجلوس في بيتنا، وبعدما تدبرت أمر الدواء، أتلفوا ملفي وقالوا لي عليك أن ترقد بالمستشفى نظرا لحالتي الصحية المتدهورة»، غير أن المكوث بالمستشفى يزيد عبد النبي «تلزمه مصاريف كبيرة، وأنا لم أعد أملك سوى عشرة دراهم سأمنحها لصاحب البراكة لقاء مبيتي ليلة واحدة». ويختم عبد النبي حديثه إلينا بالتنبيه إلى أن المرضى لا يجدون عوضا عن المبيت بالبراريك صيفا وشتاء لاتقاء كثرة التنقل من مدنهم إلى المستشفى لمتابعة العلاجات الضرورية التي تحتاج إلى مواعيد عديدة في فترات متقطعة، فيقول «أخضع للعلاج بالمواد الكيماوية كل ثلاثة أسابيع، ولا أجد بديلا عن المبيت في البراريك، التي عانيت فيها طويلا، خاصة في فصل الشتاء». أما ذلك الرجل الكهل المستلقي على عشب المستشفى في انتظار مجيء ابنه العليل، فلم يكن أحسن حالا من عبد النبي، لقد استنفد كل مدخراته من الأموال التي جمعها لدواير الزمان لقاء تكاليف علاج ابنه الذي يشكو من ورم في كبده، ولم يعد يملك سوى ذلك
المنزل الذي يقطنه بمدينة خنيفرة، والذي بات يفكر بجد في بيعه، يحكي الرجل الكهل معاناته مع فلذة كبده فيقول: «ابني كان يعمل بمدينة طنجة ولم يشعر بالآلام إلا بعد فوات الأوان»، مضيفا، وذراعاه تضمان العديد من الأفرشة والأكياس التي قد يحتاجها ابنه في حال ما إذا رقد في المستشفى: «لقد نفذت كل الأموال التي جمعتها طيلة سنوات عملي، لأنني دفعتها لقاء مصاريف الفحوصات التي أجريت لولدي بمدينة خنيفرة ومكناس قبل أن يرسلونا إلى هذا المستشفى، ولم يعد بحوزتي سوى المنزل الذي قد أضطر لبيعه إذا ما اقتضت الظروف ذلك»، منهيا كلامه بالقول: «منذ أكثر من أسبوعين وأنا أجيء إلى المستشفى من مدينة سلا، حيث استقر عند أقربائي، ثم أعود إليها دون جدوى».
كيف لا أصبر مع زوجي؟
كان مصطفى، من وجدة، مستلقيا على ظهره وعيناه تذرفان دمعا، لحظة أن تحدثنا إليه داخل جحر اكتراه بمحاداة المستشفى، ليتسنى له متابعة العلاجات الأولية من المرض الذي ألم به قبل شهور، على أمل أن تقبله إدارة المستشفى نزيلا عندها يوما ما، وإلى جانبه تجلس زوجته المرابطة مطأطأة الرأس تستمع الكلام وتشاركنا مرارة الحديث.
لم يكن بوسعنا أن ندخل البراكة التي يسكنها الوجدي، وأمثاله من القاطنين في حي البراريك، حتى رافقنا عبد النبي، ذلك أن صاحب الفنادق القصديرية ظل يمنعنا من ولوجها بحجة الضغوط التي يتعرض لها من السلطة المحلية كلما سمح للصحافة بتفقد الجحور المظلمة. قال لنا مصطفى إنه كان يعمل قهواجيا بوجدة ليعيل زوجته وطفليه الاثنين، قبل أن يقعده المرض ليدخل دوامة العلاج اليومي بالمواد الكيماوية في مستشفيات العاصمة الشرقية، ثم ليشد الرحيل بعدها إلى مستشفى سيدي محمد بن عبد الله بالعاصمة الإدارية. يقول مصطفى، وهو يتحسس وجهه المنتفخ نتيجة تناوله الأدوية: «جئت إلى الرباط أملا في أن أتابع العلاج بالأشعة كمرحلة ثانية من الاستشفاء، بعد أن فرغت من التداوي بالمواد الكيماوية في وجدة، لكنني فوجئت بمطالبتهم إياي بمعاودة العلاج بالمواد الكيماوية، وهذا مرهق جدا»، متابعا حديثه إلينا، وهو يدعو زوجته المناضلة لأن تناوله منديلا كي يكفكف دموعه المنهمرة: «عندما أتيت من وجدة إلى الرباط لإتمام العلاج تدهورت صحتي وشعرت بآلام أخرى بظهري، وأنا الآن أعيد إجراء كل التحاليل على دمي، الذي قيل إنه فقد عددا كبيرا من الكريات البيضاء، وأنه
لا بد من ضخ دم جديد». لم يعد مصطفى يحلم في حياته سوى بسرير في المستشفى يعفيه من قسوة المبيت بالبراكة، يزيد مصطفى بالقول: «لي طلب واحد هو أن أرقد بالمستشفى... فقد قيل لي بوجدة ستذهب للعلاج بالرباط وستمكث لمدة شهر بالمستشفى، غير أنه لم يتحقق من ذلك أي شيء». أما الزوجة الصابرة فأبت إلا أن تقاسم شريكها مضاضة العيش، مثلما قاسمته طيلة سنوات خلت حلاوة الحياة، تاركة طفليها بين أحضان جدتهما، سألنا الزوجة عن ظروف عيشها فقالت بزفير: «الله اللي مطالع على حالنا.. راه حنا مكرفصين فهاذ لبرارك ومكرفصين مع الدوايات اللي ماقدناش نشروها»، ولما مدحنا فيها صبرها مع زوجها أجابت بصوت رخيم: «كيف لا أصبر مع زوجي في محنته هذه وأنا التي عشت معه في هناء طيلة 10 سنوات»، أما عندما سألناها عن حال أبنائها فردت، وعيناها تفيضان من الدمع «إن معاناتنا مع المرض تشتد وطأتها كلما تذكرنا الأولاد والأحباب».
ملل وانتظار
اقتربنا هذه المرة من رجل في الأربعينيات من عمره كان يسند ظهره إلى شجرة بمقربة من المستشفى، وإلى جنبه شيخ هرم يغط في نوم عميق، جلسنا إليه فسألناه من يكون؟ ومن يكون ذلك الشيخ المسترخي على الأرض؟ فأجاب: «أنا عامل أتيت من مدينة بني ملال، وذاك أبي أجرى عملية جراحية منذ تسعة عشر يوما، لبتر ورم أصاب بلعومه»، متابعا قوله، وهو يشبك أصابعه لشعوره بالملل، «لم يمكث أبي سوى ثلاثة أيام بالمستشفى، ليخرجوه قبل أن تلتئم جروحه التي أصبحت معفنة، تسيل قيحا... وإذا أردت الكلام عن حقك فقد يطردونك»، وزاد الرجل في نقل صورة عن مكابدته وهو يحدق فينا بقوة: «لكم أن تتصوروا أننا بقينا لمدة خمسة عشر يوما لم يتم فيها استقبالنا من لدن المسؤولين بالمستشفى، فلزمنا البراكة التي اكتريناها على مضض منذ شهر أبريل ولو بشكل متقطع». ووصف محمد البراكة التي احتضنته عشرين يوما في الفترة الأخيرة بسترة بْزّزْ، عندما يجن الليل تستعمل الشموع لإضاءتها، ويضيف محمد باستياء عميق: «لقد كنا نعيش في مكان نظيف وأصبحنا الآن نسكن في مكان قذر... إنها أماكن لا تتوفر فيها شروط السكن الصحي، فالأغطية رائحتها كريهة»، ولكن هذه البراريك يستدرك
محمد «تظل أفضل من المبيت في العراء، لأننا نعاني من طول الانتظار والمواعيد غير المحددة». وبعد أن استفاق الشيخ من نومه استفسرناه عن حالته الصحية فرد بصوت مبحوح جدا لا نكاد نسمعه: «لقد أجريت عملية على بلعومي وأنا الآن لا آكل شيئا سوى الحليب لكن ليس من فمي بل من ثقب في بلعومي والحمد لله على نعمته»، ثم أثنى الشيخ على ابنه بقوله: «ولدي مرضي الوالدين... والابن الذي لا ينفع أباه ليس ابنا». أما حميد البركاني (27 سنة) فلم يكن أحسن وضعا من غيره، فقد طالت مدة استشفائه شهورا عديدة، يحكي حميد عن ذلك بالقول: «منذ عام وأنا أخضع للعلاج، وثمن الدواء يبقى باهضا لا نقدر على شرائه إلا عبر العديد من المحسنين، خاصة تلك المرأة التي تدعى الحاجة، أما المستشفى فلا يقدم شيئا»، ويتابع حميد، الذي لم يعد يقدر على أداء ثمن المبيت بالبراكة فاتخذ من مطعم شعبي بنيت أركانه بالقصب مكان رقاده، قائلا: «أنا لا أجد ما أسد به حتى رمق الجوع، فبالأحرى توفير ثمن الكراء، لذلك ألجأ لتلك الخيمة لأبيت فيها ونسأل الله الشفاء».
مريضات يتسلين بالتمثيل
جلست النسوة في براريكهن التي لم يجدن بديلا عنها، يمزحن تارة ويتنهدن تارة أخرى، إحداهن تحاول تسليتهن بتمثيل دور الثرية التي تبحث عن غرفة رائعة بفندق، فتضع نظارتين على عينيها وتتأبط حقيبة، وتتمايل في مشيتها، وما أن شرعت في أداء الدور حتى ذكرتها صديقتها بواقعها الأليم قائلة لها: «لكنه ينقصك ثدي لتتقني الدور ببراعة»، هذا التدخل جعل الممثلة تستفيق من عالم التمثيل لتتذكر أنه عليها أن تدفع عشرة دراهم كل ليلة مقابل المبيت في البراكة، وأنها بصدد انتظار موعدا لأن تداوي مكان ثديها الذي انتزعه لها الطبيب لإصابته بالسرطان. أما فاطمة، 42 سنة، فقدمت من مدينة العرائش، مصابة بورم في عنقها أمضت شهرين متاليين بالبراكة، تقول فاطمة والابتسامة تعلو محياها: «نحمد الله على كل ما أصابنا، فمنذ إصابتي بهذا المرض وأنا في رحلة مضنية وشاقة»، أمضيت شهر رمضان وعيد الفطر بالبراكة تضيف فاطمة لأن المصاريف كثيرة والحالة المادية ضعيفة... نشعر بالأمن على الأقل بالبراكة، وذلك خير من أن نبيت في الشارع، لأننا لا نملك ثمن حجز غرفة بالفندق»، وتزيد فاطمة: «لو أصلحوا تلك البراريك على الأقل لكان أفضل وإلا فعليهم إضافة بنايات
للمرضى الذين لا يستطعون الذهاب والإياب». وبجانب فاطمة وقفت سيدة تبلغ من العمر خمسين سنة قدمت من مدينة شفشاون، عانت طويلا مع سرطان الرحم فكان الحل النهائي هو استئصاله، بيد أن ورما آخر ما يزال بفخدها، لذلك أتت رفقة زوجها، فلم يجدا مكانا يسترهما سوى المبيت في البراكة مقابل أداء عشرين درهما، تقول هذه السيدة بأسف وهي ترثي قوتها وصحتها: «كنت أتمتع بصحة جيدة، لقد كنت أحمل كيسا يضم الزيتون تصل كتلته إلى قنطار، غير أنه بعدما ألم بي المرض لم أعد أقوى حتى على حمل أبسط شيء»، وما يخفف من آلام هذه السيدة هو إخلاص زوجها لها ومتابعته حالتها بدقة وتحمله مشاق المصاريف المادية التي لا تنتهي.
الكل في عذاب
جلس يتحدث إلى رفيقه عن معاناته اليومية نتيجة مرافقة ابنه للعلاج، فقال بحسرة: «إن المريض حق هو ذلك الذي يسهر على رعاية المرضى، فالكل في عذاب: المريض وأهله»، حال هذا الرجل مثل حال سعاد، التي ترافق جدتها يوميا إلى المستشفى لإخضاعها للعلاج بالأدوية الكيماوية والكي بالأشعة، تقول سعاد، وهي متوجهة لشراء الدواء: «انظروا إلى هذه الورقة، إنني أحتاج إلى مبلغ ألف درهم أسبوعيا لعلاج جدتي... فيوميا تخضع للعلاج، لذا أضطر لمرافقتها يوميا من مدينة سلا إلى المستشفى، رغم أن حالتها الصحية لا تسمح بكل هذا العذاب»، وتضيف سعاد: «كان عليهم أن يسمحوا لها بالمكوث بالمستشفى حتى تتحسن حالتها بعض الشيء»، ثم تزيد بانفعال: «تصوروا أنه بعد أن تخضع للعلاج بالأدوية الكيماوية تشرع في التقيؤ وهي امرأة مسنة، ولو لم نكن نقطن في سلا فيعلم الله كيف كان سيكون مصيرنا».
مالكو البراريك في خطر
مجازفة كبيرة تلك التي يقدم عليها مالكو البراريك عندما يكرون جحورهم لمرضى قد يكون من بينهم من قرب أجله ودنت منه المنية دنوا. فلو قدر لسقيم أن تقبض روحه في إحدى تلك البراريك لكان جزاء المالكين، لقاء إحسانهم بمن لفظهم المستشفى وأنكرهم المسؤولون، سجن ورمي في غيابات الجب لسنوات طوال، ذلك ما أكده لنا مالك المجموعة الصغيرة من البراريك. إذ يقول: «صحيح أننا نتقاضى عشرة دراهم عن كل ليلة يبيتها الفرد عندنا، لكن عواقب هذه الأثمان الزهيدة تظل كبيرة جدا، فالمسؤولون يضيف المتحدث والضجر باد على وجهه هددونا بالسجن إذا ما توفي مريض لدينا». نعم، كيف يكون إذن جزاء من آوى سقيما فكفاه شر الغدوة والروحة إلى مدينته البعيدة، أن يعيش ظلمة الزنازن، وكيف يكون عقاب من ناب عن الحكومة في أداء واجبها تجاه مواطنين مرضى، أن تسلبه طعم الحياة. يشير المالك إلى شيء مما ذكرناه بقوله: «بعد أن كشفت وسائل الإعلام النقاب عن معاناة المرضى بسبب تنقلهم بين المستشفى والبراريك، قيل لنا لاتؤوا أحدا من هؤلاء... دعوهم وشأنهم !».
وإذا كان المالك الأول قد رضي بالحديث إلينا رغم إصراره القوي على منعنا من الدخول إلى البراريك، فإن مالك المجموعة الكبيرة من الجحور القصديرية أبى إلا أن يعترض سبيلنا، لحظة أن توجهنا صوب براريكه لنطلع على أحوال المرضى المقيمين هناك بحجة أن السلطة أمرته بذلك، بل وجاء، وقت أن كنا نتحدث إلى أحد الضحايا المكترين، يحمل عصا كبيرة مهددا جليسنا بعدم السماح له بالمبيت تلك الليلة!
هذا جزء صغير من معاناة مواطنين قدر عليهم أن يبتلوا بمرض خبيث، وقدر عليهم كذلك أن تخذلهم جيوبهم وألا يجدوا ما به يواجهون تكاليف العلاج والتنقل والدواء. بؤساء سيسأل عنهم يوم القيامة كل من ولي شيئا من أمرهم ولم يأخذه بحقه، فهل يعرف مسؤولونا أن من المواطنين من يئنون قرب البنايات الفخمة للعاصمة في جحور يقتسمونها مع الفئران والحشرات، وتزيد من خطورة أمراضهم ومضاعفاتها، ويصدق عليهم المثل الشعبي اللي حرث الجمل دكو، وحتى ينطبق عليهم أكثر، لا بأس أن نعدله ونقول: اللي شْرّكو الطبيب خمجاتو البرارك.
محمد أفزاز / خديجة عليموسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.