السرطان أو «المرض الخايب» كما يطلق عليه الناس، أصبح في الوقت الحالي حقيقة مقلقة على المستوى العالمي، حيث يشكل السبب الأول للوفاة لدى النساء والثاني لدى الرجال... "" يمكن أن يصيب جميع أعضاء الجسم وأسبابه في غالب الأحيان مجهولة، أساليب علاجه تتنوع غير أن تكاليفها الباهضة الثمن وانعدام البنية التحتية اللازمة للعلاج تخلف حالات مأساوية ... اختارت طيور اللقالق أن تبني أعشاشها في الأركان الأربعة للمعهد الوطني للأنكولوجيا بالرباط، أكبر مستشفى مختص في علاج الأمراض السرطانية في المغرب، في حلها وغدوها تراقب جماعات الناس التي تملأ المكان، مرضى يفترشون العشب بعد حصص العلاج الكيمائي أو الاشعاعي، آخرون ينتظرون دورهم الذي قد يأتي وقد لا يأتي، وجوه صفراء من المرض، وأخرى من الاشفاق على قريب أو حبيب... تختلف الأزياء وتتنوع معها اللهجات ... هنا محج كل مرضى السرطان في المغرب: طنجة، وجدة، الناظور، الراشيدية، مكناس، العيون، طانطان واللائحة طويلة...لحظات طويلة من الانتظار والرغبة في الاستيقاظ من كابوس الألم، بين الفينة والأخرى يمر مريض يتكأ على أحد أقاربه أو على نفسه إن لم يجد أحداً، فتتعالى أدعية الناس معه" «الله يشافي» «الله يحفظ ... الله يكون معانا»... يتعمق الإحساس بالخطر فالمرض اللعين يطل من كل الزوايا ... تتعدد حالات الإصابة، من سرطان الثدي وعنق الرحم والرئة وحتى الجلد والحنجرة والدماغ والدم ... غير أن المعاناة تظل القاسم المشترك، المعاناة من الألم والمرض، من الوسطاء والرشوة والفساد، ومن ضعف الوسائل والامكانيات ... «علي أن أختار بين حياتي ورجولتي» «سأفقد رجولتي ..!» يغمغم عبد الرحمان 58 سنة من آسفي، عيناه خاويتان، منهك ويتحرك بصعوبة ... أجرى عملية في المثانة وأزال منها حجيرات، ليخبره الطبيب بعد العملية بوجود «كرة خايبة في النبولة» ... فكان أمامه الاختيار بين حلين كلاهما مر، حقن شهرية كل واحد ب 2000 درهم مع أقراص تزيل الجراثيم ب 1000 درهم أي بتكلفة إجمالية 3000 درهم في الشهر، أو عملية تمس أعضاءه التناسلية وتفقده رجولته ...! يقول عبد الرحمان: «لم تعد بي حاجة إلى الرجولة، لي أولادي، والعمر مضى أكثره ... أبحث فقط عن راحتي ... المرض سم يجري في جسمي، يداي ورمتا، ورجلاي أحس بألم يعجزني عن الوقوف عليهما ... والغريب في الأمر أن مثانتي مقر المرض لا تؤلمني كثيراً....» عبد الرحمان يأتي إلى المعهد الوطني للأنكولوجيا للمرة الأولى، حالته الاجتماعية بسيطة، معه إبنه الذي تركه ليكمل الاجراءات الإدارية الطويلة لتكوين ملف العلاج، مل الانتظار خاصة وأن الطبيب لم يأت والساعة جاوزت الواحدة ... لكنه مرغم على الانتظار والمرض أنيسه الوحيد يقول: «كنت سأجري العملية اليوم في مستشفى خاص ب 4000 درهم، لكن إبني اتصل بطبيب من العائلة يعرفنا، فاضطررت أن آتي إلى هنا ...» يستوى عبد الرحمان على المقعد الخشبي ويرفع عينيه إلى الأفق الاسمنتي في رجاء ... حالته تضيع وسط الحالات الأخرى فالهموم والآلام عندما يتعلق الأمر بالسرطان تتساوى ويشرك فيها المريض مع أقربائه ... «فتيحة» 20 سنة من مكناس جاءت صحبة خالتهاالمريضة تقول : « كانت خالتي تحس بصداع رهيب في رأسها، أخذناها للفقهاء فلم يجدوا شيئا، ولطبيب نفسي في مكناس، أعطاها بعض المهدئات دونما نتيجة، ذهبنا إلى مستشفى ظهر المهراز بفاس لأن أختي تشتغل هناك، أجرت مجموعة من التحاليل ليبعثونا على إثرها إلى هنا» خالة فتيحة لاتعرف أن ما بها هو سرطان الدماغ، فقد أخفوا الخبر عنها... ومنذ عشرين يوماً وهم ينتظرن دورهم وحينما حل لم يحضر الطبيب ..! وفي ركن غرفة الانتظار جلست سيدة متوسطة السن تمسك بيد شيخ ومن الحين إلى لآخر تهش الذباب الحائم حول عينيه... تقول «أبي هو المريض، به سرطان العنق، كنا نعالجه في مستشفى خاص وحينما ارتفعت التكاليف جئنا إلى هنا، كذبوا علينا حين قالوا إن ثمان حصص كافية لشفاته وها نحن ننتظر أن تكتمل الإجراءات الإدارية لملف العلاج ...» سيدة أخرى بجانبها في حوالي 45 من عمرها تقول عن تجربتها مع «المرض الخايب»: وكنت في أول الأمر أعالج في مستشفى السويسي لمدة سبع سنوات، كنت أعاني من الأعصاب، وأحسست مؤخراً بألم شديد في ثديي وجانبي الأيسر، أجريت تحاليل عدة، ثم بعثوني إلى هنا... والآن أنتظر دوري في التسجيل ...» «الغالية» أو «مي الغالية» كما يطلقون عليها أصبحت تعيش في المستشفى عنقها منفوخ متورم محمر تقول: «في أول الأول بقيت أربعة أشهر وأنا أنتظر... وهناك من بقي عاماً وعامين .. إبني الوحيد يأتي بين الحين والآخر ليزورني لأن شغله في المحكمة لا يسمح له بالبقاء معي ... ثم من أين لنا أن نتدبر مصارف العلاج إن بقي بجانبي طول الوقت ... أنا متفهمة لغيابه ... الله يرضي عليه...» يبقى الانتظار سيد المكان الأوحد ... تخترقه بين الحين والآخر ضحكات «حورية» وخطراتها بين تفاصيل المستشفى ... شابة جميلة سمراء لم تتجاوز عقدها الثاني بعد، في عينيها عطش غريب للحياة يلفه بياض عميق .. تقول مبتسمة: «جئت من الناظور... كنت أعالج في وجدة وانتقلت صحبة أبي إلى الرباط ... حالتي صعبة ولا أستطيع إجراء عملية لأن ما أصابني هو سرطان أنثوي يتكاثر بسرعة لا تجدي معها سوى حصص العلاج بالأشعة...» حورية توزع ابتساماتها على المنتظرين، علها تفتح لهم باب أمل ينسيهم ألم المرض وفداحه ثمن العلاج... «الحياة غالية ... والعين بصيرة واليد قصيرة» «أحتاج تقريباً 6000 درهم كل عشرين يوماً لشراء أقراص «XELODA» أتناول منها ستة يومياً والعلبة بها 120 قرص... هذا زيادة على الحقن ولوازم العلاج الأخرى...» تقول فاطمة والاحتقان باد على وجهها ... هي من مدينة الراشيدية، كانت في البداية تعالج في مستشفى محمد الخامس العسكري بالرباط لكن التكاليف أجبرتها على القدوم إلى المعهد الوطني للأنكولوجيا، جاءت طلباً للمساعدة من جمعية أصدقاء المعهد الوطني للأنكولوجيا، تقول: «أتيت إلى هنا بهدف طلب المساعدة وأنا الآن حائرة بين المكاتب والدهاليز ... المحسنون جازاهم الله بخير منحوني إلى الآن ما يقارب السبعة ملايين سنتيم لولاها لكنت مت من عامين ... أجريت عمليتين لحد الآن بعد العملية الثانية لم أعد أشعر بأي ألم لكن السرطان لا يزال في جسمي ...» أثمنة الأدوية نيران مشتعلة لا يقدر عليها أصحاب الدخل المرتفع والقار فبالأحرى «فاطمة» البيسطة القادمة من عمق التهميش ... خالد جاء مع أخته لتجري فحصها الثاني بالأشعة يقول: «من الثامنة والنصف صباحاً ونحن هنا، السكانير ب 1200 درهم، الحقن كل واحدة ب 650 درهم فلم إذن هو مستشفى عمومي ... فليحولوه إلى خاص على الأقل ستضح الأمور ونعرف ما لنا وما علينا...» تكاليف العلاج تضاف لها مصاريف البقاء والسكن والتغذية والتنقل في مدينة الرباط ليتحول الأمر إلى مأساة يستغلها البعض لعرض خدماته... أحياء في منطقة يعقوب المنصور الشعبية تحولت إلى إقامات خاصة بمرضى السرطان... حورية اضطرت وأبوها إلى كراء غرفة ب 15 درهما للشخص الواحد في الليلة الواحدة ... فتيحة وخالتها اضطرتا لسلك نفس السبيل فلا يمكن للعائلة أن تتحمل بقاءهم عندها لمدة طويلة.... زيادة على سيارة أجرة كل يوم بخمسين درهماً ومصاريف الأكل وغيره ... الأمر فوق طاقة احتمالهم ... 15 درهماً لليلة الواحدة وللشخص الواحد ... وإذا كانت «حورية» و«فتيحة» استطاعتا ذلك فهناك من لم يجد ملجأ له سوى العراء ... «كعبد السلام» الذي جاء من الناظور صحبة زوجته المريضة...شهران قضياهما مفترشين لعشب حديقة المستشفى يقول: نفذ كل ما معنا، الله غالب ليس لنا من معين آخر ... المشكلة أني تركت خلفي أربع بنات لا معيل لهم غيري ... لا أدري ماذا سيكون مصيرهم ؟!» عبد السلام فقد الثقة في كل المحيطين به ... منعزل لوحده وبين الحين والآخر يلقي بنظرات فارغة إلى جسد امرأته المتوسد للرصيف..! نصب ... احتيال واتجار في آلام المرضى دهاليز المستشفى مظلمة وتنبعث منها روائح نفاذة... وعلى الجدران إعلانات وتحذيرات متوالية من الوسطاء والسماسرة الذي اتخذوا المكان مجالاً لنشاطهم ... سيدة تحكي أن شخصاً أدعى لها أنه طبيب ووعدها بتسهيل إجراءات ملف علاجها مقابل مبلغ مالي ليختفي بعد ذلك، تقول: «كنت في حديقة المستشفى حينما جاءني ببذلة الأطباء البيضاء التي معها لم يخطر ببالي أن أشك في هويته، فوعدني بأن يجعل حصص علاجي متتابعة دون فارق زمني كبير اضطر معه للكراء والانتظار ...مقابل أن أمنحه «قهوته»، كانت رغبتي في إيجاد حل أقوى من أي تردد خاصة وأنه منحني رقم هاتفه ... أعطيته 350 درهم ليختفي ولأجد أن الرقم لا يوجد..!» فتيحة هي الأخرى تعترف أن كل إجراء، حتى البسيط منه، يتم عبر عملية حك «الجيب»، تقول: «من قبل أن نأتي قالوا لنا أنه من غير «تدويرة» فسنظل حياتنا كلها ننتظر ... منحنا ممرضة تشتغل هنا مبلغاً مالياً فسهلت علينا كل الإجراءات ... هي تعرف كل العاملين هنا وجرأتها في التعامل تفوق التصور كأنها مديرة المستشفى..!» في قاعة العلاج الكيميائي الوحيدة أسفل المستشفى اقتربت امرأة شابة من سيدة متوسطة العمر كانت تبكي لأنهم أعطوها موعداً بعد أسبوعين، جاءت من الراشيدية ولا أحد تعرفه فتبقى عنده ...همست في أذنها بضع كلمات لتخرج من جيبها حافظة نقوذها وتضع منها 20 درهماً في الملف الطبي الأزرق وتتقدم نحو المريض المسؤول ليجاب طلبها في النهاية ... فدموعها لا تساوي العشرين درهماً التي أعطتها ... المتاجرة في الأدوية التي تمنحها الجمعيات والهيآت الدولية كهبات مجانية، تقديم وتأخير مواعيد الحصص حسب الثمن، وضعف القدرة الاستيعابية للمستشفى ونقص أطره... كل هذا جعل البعض يلجأ إلى حلول من نوع آخر ... إلى الأعشاب والعقاقير الشعبية وحتى الشعوذة والدجل ... خديجة من هؤلاء، تقول: «أمي مريضة بسرطان القولون، ليست لنا لا تغطية صحية ولا موارد كافية لعلاجها بالأدوية الباهظة الثمن، اضطررنا إلى اللجوء إلى الوسائل الشعبية للعلاج ... أعطيها كل أسبوع وصفة مكونة من «برزطم» و«الدغموس» ومكونات أخرى ... ليست لنا القدرة على شراء الأدوية، يقولون أنها بالمجان وهم يبيعونها بالواضح وأمام الملأ .. وحتى حينما تذهب إليهم ومعك ورقة من الطبيب فإنهم يعطونك أدوية رخيصة وغير ذات فائدة، مواعيد حصص العلاج هي الأخرى تخضع لمنطق السوق، فمن يدفع أكثر يعالج أولاً...» المتاجرة بآلام المرضى يضاف إليها ضعف الطاقة الاستيعابية للمستشفى وتهالك الأجهزة وتعقيد الإجراءات الإدارية ... تزيد الوضع تردياً وتعمق مسلسل الألم... «حورية» تنتظر الطبيب، فمنذ عشرين يوماً وآلة العلاج بالأشعة معطلة... اختفت ابتسامتها وبكت كما لم تبك من قبل رغم محاولات كل المحطين بها لاسكاتها... تدق أجراس الرابعة والنصف فينسحب موظفو المستشفى تباعاً .. ليبقى في الحديقة الخارجية وكراسي الانتظار من قرر البقاء صحبة اللقالق الصامتة، في انتظار بارقة أمل.