كانت لحظة نادرة تلك التي جمعت المفكر المغربي محمد عابد الجابري مع جيل جديد من شباب الجامعة المغربية،تخلى فيها المفكر عن «الأدوات الإجرائية»: كي يتكلم خارج ورشة مختبره الفكري، وداخله في نفس الآن، مقدما خلاصات تجربته كمثقف مغربي مخضته السنوات وأنضجته التجارب ، وصنعت الرجل والفكر معا. لم يترك الدكتور محمد عابد الجابري الفرصة تفلت من بين يديه، وهو يتحدث إلى شباب من طلبة كلية الآداب ابن مسيك، في اللقاء التكريمي الذي نظمته الكلية بالتعاون مع اتحاد كتاب المغرب، وبدا الجابري رحب الصدر ومنفتحا على أسئلة جمهور جديد وقراء آخرين له، أغلبهم من مواليد أواسط الثمانينات، بينما تخفف أكثر من اللغة العالية والعالمة، في محاولة منه لشرح أفكاره أو تبسيطها أو تقديمها لجيل بدا بالملموس أنه مشغول بأسئلة أكثر خفة ومطابقة لأسئلة الواقع. وشاء الجابري أن يكون لحديثه طابع التذكر، وهو يتحدث عن نشأته في فكيك، تلك المدينة التي غادرها دون أن يعود إليها، ولحسن الحظ أنه لم يعد إليها، كما قال، وإلا لما كان محمد عابد الجابري الذي هو عليه الآن. وقال إن نشأته الأولى في فكيك قد ساعدته كثيرا على فهم ابن خلدون وإدراك المعنى الصحيح لمفهوم العصبيات التي انبنى عليها فهمه للتاريخ ولحركته، كما أن هذه المدينة سيكون لها الفضل في جعله يدرك جيدا مجتمع مكة في المشروع الأخير الذي يشتغل عليه حول القرآن، واعتبر أن بنية المجتمع الصحراوي تكاد تكون واحدة، وهذا جعله يلم بالتفاصيل الدقيقة للدعوة المحمدية، التي كانت في نفس الوقت دعوة حاملة لمشروع ديني ومشروع سياسي في مجتمع قريش. وتوقف الجابري بحنين عند تجربة اليوم السابع التي كانت تصدر من باريس، وبالضبط عند عموده الذي كان يكتبه أسبوعيا في المجلة، وسماه بالعمود الصامد. واعتبر الجابري أن المقالات التي كتبها في جريدة التحرير سنة 1959 صالحة الآن لقراءة المشهد السياسي والحزبي في المغرب، وأنها تقدم الجواب سواء بالنسبة إلى الوضع الذي يعيشه حزب الاتحاد الاشتراكي أو بالنسبة إلى الوضع السياسي العام في المغرب. وقال الجابري إنه طيلة مساره الفكري لم يسخر الثقافة في خدمة السياسية وإنما خاض معركة طاحنة من أجل أن تكون السياسة في خدمة الثقافة وأن يتمتع رجل الفكر والثقافة بموقع مميز في المشهد الحزبي والسياسي، وحين اكتشف أن الأمر في غاية الصعوبة في ممارسة سياسية مغربية مكبلة بأكثر من عائق، فضل مغادرة المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي والتفرغ للعمل الفكري. وبدا الجابري متحسرا على فترة الشباب، وأكد غير ما مرة في معرض ردوده على أسئلة الطلبة والطالبات أنه قد تقدم في السن، وأنه لذلك يحسد شباب اليوم على الإمكانات المعرفية المتاحة أمامهم والتي تخول لهم الحصول على المعارف بالسرعة المطلوبة في الوقت الذي كان فيه طالب الستينات يعول على الصدفة، وبالصدفة وحدها قرأ الجابري مقدمة ابن خلدون، وبالصدفة أيضا قرأ ابن رشد فيما بعد. قامتان عربيتان ستشكلان أعمدة المشروع الفكري للمفكر المغربي. واعترف الجابري بأنه لم يكن شيوعيا في يوم من الأيام، كما أنه قرأ ماركس في نصوصه المؤسسة، وليس كما يفعل البعض عن طريق التلاخيص بل والسماع أحيانا، بينما كانت رسائل إخوان الصفا بالنسبة إليه بمثابة كتب سرير النوم، في رد منه على الانتقادات التي توجه إليه بكونه أسقط التراث الصوفي العربي الإسلامي من مشروعه الفكري، أما مقدمة ابن خلدون وكتابه «العبر» فلا يذكر عدد المرات التي قرأ فيها الرجل، فيما شكل ابن رشد ومقالته الشهيرة «فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال» البوابة التي أدخلت الجابري إلى فناء «الحكمة» العربية. ولم يفت الجابري التأكيد على أن الإنسان حيوان سياسي شاء أم لم لا، وألا أحد مطهر من الإيديولوجيا، إسلاميين ويساريين، فالسياسة موجودة في الهواء وفي الماء وفي التراب وفي النار، أي العناصر الأربع التي أطلق عليها الفلاسفة اسم «الأستقصات الأربع». حماس الجابري للشباب طفا واضحا للعيان عند الحديث عن «الكلام الكبير» واللغة المنمقة، وبسط الأشياء في سهولتها الممتنعة، حينما دعا الشباب إلى اغتنام فرصة الإمكانات التي توفرها التكنولوجيا اليوم، كما نبه المهتمين بالفكر المغربي إلى عدم الانتظار طويلا لقراءة المشاريع الفكرية، وقال: «لقد انتظرت أكثر من 30 سنة كي يقرأني المشتغلون بالفكر من خلال كتبي تكوين العقل العربي وغيرها، هل سأنتظر 30 سنة أخرى كي يقرأ الناس كتابي الأخير حول تفسير القرآن». يبدو الدكتور محمد الجابري مستعدا للحديث عن مرحلة طويلة من تاريخ المغرب الثقافي والسياسي، ربما يتحين الفرصة أو يختارها، لكن الأكيد أن صمت مذكراته عند لحظة معينة لا يجب أن يطول، فلقد كان الرجل «شاهدا على العصر» بالمعنى القوي للكلمة، وشهد التحول من حزب الاستقلال إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى الاتحاد الاشتراكي، زمن كان فيه الزعيم علال الفاسي حاضرا و المهدي بنبركة وعبد الله إبراهيم وعمر بنجلون وعبد الرحيم بوعبيد، وكانت جمار كثيرة مشتعلة على أكثر من جبهة. أليس من حق شباب الأنترنيت أن يعرف؟