كنتُ قد نشرتُ مقالاً في العدد 21540 من جريدة « العلم « الغراء يوم الجمعة 1 محرم 1431 ه (18/12/2009) في تأبين الفقيد الكبير الأستاذ عبد الهادي بوطالب بعنوان « عبد الهادي بوطالب الإنسان» حاولتُ أن أسلّط الضوء على طرفٍ من أخلاقه السامية، ومُثُله النبيلة، من خلال أحداث شهدتُها بنفسي خلال أكثر من تسع سنوات تشرفتُ فيها بالعمل معه، وتعلّمتُ الكثير منه. وفي عددها 21546 الصادر يوم 8 محرم 1431(25/12/2009)، نشرت « العلم» الغراء مقالاً بعنوان « إدعاءات علي القاسمي في تأبين عبد الهادي بوطالب» بتوقيع الأستاذ نجيب الغياتي صالح، مدير الثقافة والاتصال بالإيسيسكو. أعرف الأستاذ نجيب حقّ المعرفة، فقد كان أحد مساعديّ عندما كنتُ مدير الثقافة والاتصال بالإيسيسكو. أعرفه جاداً في عمله، دمثاً في أخلاقه، رقيقاً في طبعه؛ وتربطني معه علاقة مودّة وصداقة قديمة. ولم أعهد فيه ميلاً لنشر المقالات في الجرائد، وإلا لرجوته أن يكتب مقالاً عن الفقيد الكبير وأخلاقه الرفيعة، لأنه كان أحد مساعديه في الديوان مدةً ليست بالقصيرة وعرفه عن كثب. ولعلَّ أخي الأستاذ نجيب اضطر إلى نشر المقال لخوفه من أنَّ خيال القصّاص لدي قد ينال شيئاً من موضوعية الحقائق التاريخية التي سردتُها. وأنا مقدِّرٌ له قصده النبيل، وأود هنا أن أطمئنه على أن المعلومات التي وردت في مقالي لم يتطرَّق إليها خيالٌ أو وهمٌ، فقد كنتُ قد ضمّنتها جميعها في كلمة ألقيتها في « ندوة تكريم المفكر والكاتب المغربي الأستاذ عبد الهادي بوطالب» التي أقامتها مؤسَّسة منتدى أصيلة يوم 13/8/2006 وشارك فيها عدد من أساتذة القانون والعلوم السياسية في الجامعات المغربية والأوربية برئاسة رئيس المؤسسة الوزير الأستاذ محمد بنعيسي. ألقيتُ الكلمة بجميع تلك المعلومات بحضور الأستاذ بوطالب. ولم يعلّق في تعقيبه على أيِّ شيء منها. وأخي الأستاذ نجيب وأنا أعلم أنه رحمه الله لا يجامل في الحق، ولا يخشى فيه لومة لائم، ولا يسكتُ على باطل؛ فقد سمعتُ منه ذات مرة حكمة «حقٌّ يضرُّ خيرٌ من باطلٍ يسرُّ». كما أنه كان يتمتع بذاكرة نادرة؛ فقد كنتُ أزوره بانتظام لأتعلّم منه، حتى وهو في الخامسة والثمانين من عمره المبارك حين كان منهمكاً في تفسير القرآن الكريم، فكنتُ أنبهر بقوة ذاكرته في تلك السن، وقدرته العجيبة على الحفظ. وأغتنم هذه المناسبة لأروي حادثة عن أهميّة الذاكرة في فكر الفقيد الكبير. عندما عقُد المؤتمر الأوّل لوزراء التربية والتعليم في العالم الإسلامي بالدار البيضاء سنة 1983، عرضتُ عليه مشروع إعلان المؤتمر وفيه دعوة إلى تعويد الطلاب على التفكير والتحليل وحلّ المشكلات والإبداع، بدلاً من الحفظ، قال لي: الحفظ مهم كذلك في تدريب الذاكرة وتطوير المعرفة البشرية. وأضاف: إن حفظ القرآن الكريم في الطفولة من أنجع الوسائل في تدريب الذاكرة. وزيادةً في طمأنة أخي الأستاذ نجيب، سأوضح النقاط التي أوردها في مقاله نقطةً نقطة: أولاً، ورد في المقال: « ادعى القاسمي أنه كان أحد مساعدي الأستاذ عبد الهادي بوطالب في فترة تأسيس الإيسيسكو، والوقائع تثبت أنه كان موظفاً بدرجة خبير في مديرية التربية..» أتفق مع أخي الأستاذ نجيب على أنني بدأتُ العمل خبيراً لأكثر من سنة ثم شجّعني الفقيد الكبير وعيّنني مديراً لمديرية التربية خلال ثماني سنوات تالية. ولكن يبدو أن الإشكال هنا « لساني « يكمن في استعمال كلمة « مساعد». فأخي الأستاذ نجيب يفهم من الكلمة معناها الاصطلاحي الخاص كما يرِد في منصب « المدير العام المساعد» أو في رتبة « أستاذ مساعد»، أما أنا فاستعملتُها بمعناها اللغوي العام، أي كلّ مَن يعاون أو يساعد المدير العام من الموظفين، كما ترد في تقارير المجالس التنفيذية للمنظمات: « يشكر المجلسُ التنفيذي المديرََ العام ومساعديه...» أي جميع الموظفين الذين يعاونون المدير العام.(1) ثانياً، عندما ذكرتُ أن الفقيد الكبير أرسل إليّ مرشَّحاً لوظيفة في المنظمة لإجراء مقابلة معه، قال أخي الأستاذ نجيب: « وهذه طرفة مضحكة فالمسؤول عن مقابلة طالبي العمل في المنظمة في ذلك الوقت كان السيد بوبكر الصقلي [مدير الشؤون الإدارية والمالية ] ولا علاقة للقاسمي بالتوظيف ولا بتقييم الموظفين.» ليسمح لي أخي الأستاذ نجيب أن أؤكِّد له أن الفقيد الكبير كان يرسل المرشَّح لوظيفةٍ إلى عدد من مساعديه لمقابلته أولاً، وإذا تمّ قبوله، يُرسَل إلى المسؤول عن الشؤون الإدارية والمالية. وبعد ذلك شكّل رحمه الله لجنةً لمقابلة المرشَّحين واختبارهم. ثالثاً، هذه النقطة تتعلَّق بما رويتُه من أن الفقيد الكبير قال ذات مرة سأطرح اسم مبعوث واحد يستطيع أن يفعل ما يفعله اثنان أو أكثر. فيقول أخي الأستاذ نجيب: « وهذه أعجوبة من أعاجيب القاسمي الذي يعتقد أنه يفعل ما يفعله اثنان أو أكثر...». يبدو أن الإشكال هنا « فلسفي». فالظاهر أن الأستاذ نجيب يؤمن إيماناً نبيلاً بالمساواة بين الناس، فالناس متساوون كأسنان المشط. ولكن مما تعلمتُه من الفقيد الكبير أن المساواة بين الناس هي مساواة في القيمة الإنسانية وليس في القيمة العلمية والإنتاجية. وهذا مصداق قوله تعالى: «يا أيها الناس اتقوا ربّكم الذي خلقكم من نفْسٍٍ واحدة، وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساء» (سورة النساء:]) فالمساواة هنا في الخَلق، وليس في المعرفة أو العمل. ولهذا ورد في القرآن الكريم كذلك: «قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون» [سورة الزمر:]. والمساواة كذلك واجبة بين الناس في حقوق الإنسان: الطبيعية، والمدنية، والسياسية، والاقتصادية. وقد بيّنتُ هذا في كتابي « حقوق الإنسان» الذي يزدان بمقدِّمة للفقيد الكبير. وأودّ هنا أن أذكر شيئاً بكل اعتزاز وهو أنني كنتُ وما أزال أعبِّر عن إعجابي بخصال المعرفة والخبرة والجدّ المتوافرة لدى أخي الأستاذ نجيب وأخي الأستاذ الشريف عبد القادر الإدريسي وأقول : إن كلّ واحدٍ منهما يساوي فرقةً كاملةً من الموظفين. وأستشهد ببيت الشاعر البحتري: ولم أرَ أمثالَ الرجالِ تفاوتاً لدى المجد، حتى عُدَّ ألفٌ بواحدِ (2) وبهذه المناسبة، أذكر أن الفقيد الكبير كان يتكلّم عن هذا الموضوع ذات مرة فبدأ كلامه كعادته بطرفة مفادها أن أحد المديرين، سُئِل: كم عدد العاملين في مديريتك؟ أجاب: نصفهم. ثم قال رحمه الله إن بعض الموظَّفين يشعر أن لا شيء يعنيه، وبعضهم الآخر يشعر بأن كلَّ شيء يعنيه ويهمّه؛ ولهذا ينبغي تحفيز النوع الأول ومكافأة النوع الثاني. وبعد هذا كله، هل يستكثر عليَّ أخي الأستاذ نجيب أن يكون عملي مساوياً لعمل اثنين أو أكثر، حتى بعد أن ألَّفتُ أكثر من خمسة وثلاثين كتاباً يُستعمََل بعضها مراجع جامعية؟! رابعاً، يستغرب أخي الأستاذ نجيب أن تتراكم على إحدى الدول الأعضاء بضعة ملايين من الدولارات. الحادثة وقعت بعد وقت طويل من تأسيس المنظمة، وعندما تتخلّف إحدى الدول ذات المساهمة العالية في تسديد مساهمتها في موازنة المنظمة مدة أربع أو خمس سنين، يتجمَّع عليها حوالي ثلاثة ملايين دولار. وهو يعرف ذلك. خامساً، في هذه النقطة، ورد في المقال: « ادعى القاسمي أنه كان ذات مرة برفقة الأستاذ بوطالب في مهمة باسطنبول... وهذه أيضاً أعجوبة مسلية ومضحكة من خيال القاسمي الرحب. فتركيا ليست عضواً في المنظمة. ولا يوجد في الوثائق الرسمية للمنظمة ما يؤكِّد هذه الرحلة المزعومة...» قبل كلِّ شيء، أود أن أشكر أخي الأستاذ نجيب على وصف خيالي بالرحب، فأنا أحتاج إلى رحابته عندما أكتب القصة والرواية. ثم أتفق معه على أنني لم أسافر برفقة الأستاذ بوطالب إلى تركيا مرة. فالصحيح أنني تشرَّفتُ وسعدتُ بالسفر معه إلى تركيا مرتين: الأولى إلى العاصمة أنقرة حين كان يحاول إقناع تركيا بالانضمام إلى الإيسيسكو واستقبله في المطار مسؤولون كبار وسفير المغرب في أنقرة الدكتور محمد بنعبود [وهو غير المرحوم الدكتور المهدي بنعبود، السفير السابق في واشنطن]. والمرة الثانية إلى إسطنبول في مهمة زار خلالها مركز الأبحاث والتاريخ والثقافة الإسلامية في إسطنبول [إرسيكا] وأطلعه مديره آنذاك الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلي [الأمين العام الحالي لمنظمة المؤتمر الإسلامي] على التنظيم المحكم في المركز والخطط لتحويل أرشيفه القيم إلى نسخة إلكترونية. لا أرى أية مشكلة في أن تقوم المنظمة بنشاط أو مهمة في دولة ليست عضواً فيها، فأخي الأستاذ نجيب يعرف أن بعض أنشطة مديريته تجري في ألمانيا وبلجيكا وفرنسا وهي ليست دول أعضاء في المنظمة. وأنا تشرفتُ بمرافقة الفقيد الكبير إلى إندونيسيا التي لم تكن آنذاك عضواً في المنظمة، فاجتمع بوزراء ومسؤولي الخارجية والتربية والشؤون الداخلية، وانبهرتُ بقوة الحجة وقابلية الإقناع التي يتحلّى بها رحمه الله، بحيث تمّ الاقتناع لديهم، وانضمت إندونيسيا إلى الإيسيسكو. واستقبل وزيرُ الخارجية الإندونيسي الدكتور علي العطاس [من أصل يمني] الفقيدَ الكبير في منزله يوم عطلة، إكراماً لعلمه ومكانته، ولم تكُن آنذاك سفارة مغربية في جاكارتا. وبعد كلّ هذه التوضيحات، أرجو أن يكون الشك لدى أخي الأستاذ نجيب قد أُحرِق، وباب المراجعة قد أُغلِق، ليتفرغ بكليته إلى عمله المرهق. داعياً له بالنجاح والتوفيق.* الهوامش (1) للوقوف على معاني « مساعد» المختلفة، يُنظَر في: علي القاسمي [المُنسِّق]، المعجم العربي الأساسي تونس: الألكسو، 1989)، 1347 صفحة. وللفرق بين العام والخاص من اللفظ، يُنظَر في: علي القاسمي، علم المصطلح: أسسه النظرية وتطبيقاته العملية ، بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 2008)، 819 صفحة. (2) تُنظر الاستشهادات الواردة في هذا المقال في: علي القاسمي، معجم الاستشهادات الموسَّع ، بيروت مكتبة لبنان ناشرون، 2008 ، 1039 صفحة. * أهدي هذا المقال إلى الصديق الأديب الأستاذ عزّام بونجوع الذي ألحّ عليّ بكتابته، ولم أكن أرغب في ذلك.