لا أحد ينكر أن رؤوسنا التبست هذه الأيام بأشكال شاشات البلازما التلفزيونية، من فرط تسمُّرنا المصيخ الحواس إلى كل ما يغثوه هذا الجهاز من ثرثرة سياسية، تقول كل شيء.. ولا شيء أيضا؛ لكن السؤال الذي ينبطح على البطن أملس كأفعى؛ هو مدى حكمة هذا الخرس المطلق لصوت الكاتب المغربي الذي حَوّل القلم إلى نعش ينثوي في غياهبه السفلى، حتى ليكاد ينطق بدله الحجر؛ الجميع في المجتمع برُمته الرِّممية، يمد الألسنة كيلوميترات بغثِّ وسمين الكلام، إلا الكاتب، فلا رأي يدليه ولو بدلو مثقوب في بلورة الرأي السياسي أو الإجتماعي؛ فهل حقايوضح تاريخ الأدب وكما ورد في ملف أنجزه «بول فرانسوا باولي» لصحيفة «لوفيغارو ليتيرير» (عدد 2009/10/15) أن العبقرية لا تتعايش دائما في وفاق مع السياسة؟؛ وهنا يستحضر «بول فرانسوا» كتاب «تاريخ سياسي للأدب» لمؤلفه «ستيفان جيوكانتي» الذي يعرض لتاريخ العلاقات الإفتتانية بالسياسة التي أرضعها كُتّاب فرنسيون في السراء والضراء. فمن هوغو الى سارتر، لم يألُ «ستيفان جيوكانتي» جهداً في استشراف الفرادة الفرنسية التي تكمن في توق رجل الأدب في التأثير أو حتى تقويض السلطة والإسهام في التاريخ؛ وتتبدى هذه الدراسة كما جينيالوجيا أدبية، بما تكتنفه من عائلات رمزية ومن صوفيين مثل (بلوي، بيجي، بيرنانوس) أوهجائين ك (سيلين، ريباتيت) مرورا بشعراء أصبحوا إيديولوجيين مثل (هوغو، موراس، أراغون..) دون أن ننسى الندامى المتملقين أمثال (مالرو، مورياك، كلوديل...)؛ ويجزم ستيفان في كتابه «تاريخ سياسي للأدب» أن لا أحد من هؤلاء، خرج معافى من السياسة، لكن أخطاء البعض تنتهي بإلغاء ضعف الآخرين؛ وينتقل الكاتب الى صفحة أخرى في هذا التاريخ الأدبي الذي يكفي أن نرفع بعض بصماته لنكشف تورط الكثير من الأقلام في السياسة حد الدم، ليقول وكأنه يمزق هذه الصفحة؛ إن القيمة الأولى لتاريخ سياسي للأدب، هو في إصلاح العدالة؛ إننا نجتر منذ الخمسينيات تصورات «موريس باريس - Maurice Barrés» في قضية «دروفوس - Drefus» في وقت عاد فيه كُتّابٌ إلى مناهضته في آخر حياته لأنه من السامية، كما أن الأدب في فرنسا من مورياك إلى مونتيرلان، مروراً بمالرو وآراغون، قد تخصب كثيرا من طرف «موريس باريس» مؤلف كتاب «المقتلعون - Les Déracinés». إن التاريخ أشبه بنفير القيامة حين ينتفض بالأجداث من أسفل الذاكرة إلى أعلاها تحت وضح الفضيحة، خصوصاً حين تتعلّق الأشرطة التوثيقة لكاميرا هذه الذاكرة بصُنّاع الجمال الخلاقين من كتّاب وشعراء وفنانين؛ فهذا جيوكانتي في كتابه القيامي، يستبخس أهمية قصائد «بول إيلوار» التي كتبها عن ستالين في 1950، حيث يقول «ستالين يبدد اليوم الألم، الثقة هي فاكهة دماغه في الحب»؛ ولايغفل عن هزالة بعض كتابات أراغون المُسَوَّرة بحلي التمجيد؛ كما يؤاخذ «شاردون» على سفرته إلى ألمانيا عام 1942؛ ولكنه يجد السفر الذي امتطاه بارث، وسولرس وكريستيفا، أنيقاً، حين طاروا عام 1974، إلى تلكم الصين التي كانت ملفّعة بالمخيمات، حيث قالت كريستيفا، إن ماو «حرّر النساء وحل المشكل الأبدي للجنسين..». لماذا كل هذه الحماقات؟؛ لنقل إن بعض الكتاب ما كانوا يبصرون واقعا يحوّلونه إلى نزوة؟؛ مع ذلك، ورغم هذا المروّق، فإن الأدب على الأقل يخدم العقل في تمكين المثقفين الموقوتين بلغم المعارضة، بأن يتبادلوا، فيما بينهم، الإعجاب وعقد صداقات ثقافية سحيقة في رابطة الحبر.. وإذ نؤوب في آخر الليل مكلومين إلى مصحات ذواتنا، لابد أن نهجس في النفس ببعض الرثاء على وضع الكاتب المغربي الأشبه بشاهدة من رخام في ضريح التاريخ؛ يسمع ويرى ملء الحواس، ولكنه لا يتكلم وكأن بفمه حشواً من حتى..!