لم يزل سؤال الكتابة مكشرا عن حرابه الصقيلة، بما يستنفر من أوردة الأدب الحديث، مدرارا من الجراح؛ لنسَّاءل: هل نحن من يكتب أم آخرون سبقونا بما لا يمحي من مواطئ الأقلام؛ وما ذلك إلا بسبب ما بات ينزحم في النص الوحيد (شعرا كان أونثرا) من صيغ وتراكيب أسلوبية تحسبها تتجمَّل أمام ذات المرآة الاستعارية بسبب ما يختمرها من تشابه تحت يافطة الحداثة؛ ونكاد نجزم أن ثمة إرثا جماليا، غدا كل من يلج تراكمه الأدبي بأقلام الكتابة، ينسحق حد الذوبان تحت تأثيره الكيميائي دون أن ينعم بالاختلاف؛ لنعود بتباريح القلق الى السؤال الجوهري؛ كيف يَكُونُ الكاتب ذاته وهو يمخر في غمر ذائقة جمالية تكاد تصير من فرط هيمنة حساسيتها، ذوقا جماليا عاما عند حملة القلم؛ إن هذا الخمول العارم في القلب الأدبي، أحوج، ليس فقط الى خلخلة على الايقاع الهادئ لغربال النقد، إنما إلى صعقة كهربائية ماهي في الحقيقة إلا تلك القراءة التي استحضرها الكاتب الفرنسي «جونتان ليتل Jonathan Littel»؛ القراءة التي يدعونا الى فتنتها موريس بلانشو»؛ جريئة وخطرة في ذات الآن؛ كما أنها قراءة راقصة ، مرحة ومدلهة؛ بل تعتبر جوهريا، مؤسسة للعمل، في خضم لااكتراثية بلانشو ذاتها؛ وأول شيء يمكن قوله عن هذه القراءة، أنها غير منفصلة عن مبدإها في الكتابة بما هي تجربة؛ وهنا يكتب «موريس بلانشو» في نصه الجميل «نشيد الحوريات» المتضمن في كتابه الشهير «الكتاب القادم le livre avenir»؛ أن الحكاية ليس ما ينتسج عن علاقة الحدث، إنما هي الحدث نفسه؛ ويمضي جونتان ليتل في نصه المستقرئ لبلانشو والمنشور في «لوفيغارو ليتيرير»، ليجزم أن الكتابة لا تصف، لاتحكي؛ لا تدل إنها لاتجسد شيئا موجودا في عالم الانسان، وفي عالم الخيال؛ الكتابة لا تعدو أن تكون صورة لتجربتها؛ هكذا يلتزم الكاتب بما يحدث اللحظة؛ لحظة يغدو مأسورا بلذة الكتابة، فيجلس أمام ورقة بيضاء، ليشرع في مهرها باللغة. ولاشيء سوى النص ما ينتج عن هذه التجربة (قصيدة، حكاية، رواية) سواء كان النص مجردا من المعنى، أو مُخْترَقاً بعناصر تتواشج مع واقع الحياة؛ أو بالأحرى فإن هذه العناصر تشتغل بالطريقة التي يسميها فرويد؛ المحتوى يكشف أحلاما؛ ويمكن إضاءة هذا الايحاء الفرويدي، بالقول إن هذه العناصر تتدثر في بهرج الواقع كي تكشف وتحجب في ذات الآن حقيقتها و تجربتها أيضا؛ كذا الشأن بالنسبة للكتابة ، فهي على علاقة بالحقيقة، ليس على نمط المعرفة؛ لأن الكتابة الأدبية لا تشرح،، ولا تُعَلِّم، إنها تمنح فقط الحضور لسرها وتجربتها الخاصين في غياب أي توضيح؛ فأن تقرأ هو أن تتموضع أنأى من الإدراك (كتب بلانشو) الذي يعتبر أن القراءة هي الحرية التي لا يمكنها إلا أن تقول لنا نعم؛ فالكتابة تعني للمؤلف (وليس القارئ) عطلة، كما تمكنه من القبض على هذه اللغة الوافرة؛ ولكن أبدا لن تكون ما تكتبه، حتى لو لم تكتب إلا من أجل المعرفة؛ إنها حكمة محتومة لايستطيع الكاتب الهروب من براثنها الشرسة؟ لنقل إن الكاتب هو من يسكن إلى الآخر في عمله؛ لهذا، ربما كتب أفلاطون كمن يسخر من نفسه في الرسالة الثانية: «ليس ثمة من عمل لأفلاطون، ولن يكون له...»؛ بل إن أفلاطون يزيد من حلكة سخريته السوداء إذ يجزم أن كل ما يأتيه من عمل هو لسقراط الشاب؛ هذا السقراط الذي بتنا نعرفه جيدا لأن أفلاطون حدثنا عنه، والذي لم يكتب أبدا؛ لقد كان في غاية الحذر من الأداة الواهنة التي هي اللغة؛ ليبقى أفلاطون هو المؤلف الحقيقي لرسائل سقراط ... لنقل ، ونحن نستحث الحواس على يقظة قرائية بدرجة عالية من الجرأة، إن الكثير من الأدب اليوم (شعراً ونثراً) بما راكم من جماليات لا أحد يحرك ساكنها بقلق السؤال، قد أسس ما يشبه سلطة الناموس التي بلغ تأثيرها السحري، حد خلق ذوق قطيعي عام يحض على الاتباع وليس الابداع...!