من ينكر أنَّ السخرية تُشْرِعُ فَاهَا الأسود والأدرد، ملء العالم، مِمَّا ندعيه من حداثية في كثير من أدبنا المغربي المعاصر وحتى العربي، ونحن كل ما نخُطُّه من أسيجة الأسطر، أشبه بكَلِمٍ مبثوث في شفاه مخيطة لا يستطيع الإنطفار مخافة يُفتضح السر بجراح قد تُخِلُّ بالحياء العام. ثمة ما لا ينتهي من الأصنام تقف على رأس الكاتب المأزوم، لتنعكس على الورقة بظلال إملاءاتها المُسْتَشْبِحَة والمُصَحِّحة لكل زيغ قد يطلع ببنات الأفكار الموؤودة منذ غابر الأعصر، إلى أن نصل اليوم مسبوقين بزوبع لا نهائي من الأسفار والمتون والطروس والمؤلفات التي تقول كل شيء إلا تلكم ال(حتَّى..!) أو الحقيقة المُكَمَّمة التي تمضي للتيبُّس مع جثمان صاحبها إلى العدم؛ ذُبالة يسيرة فقط في ظلام شاسع من حملة القلم، من استطاع الارتقاء بالأدب، إلى الدرجة السعيرية للاعتراف، بائحا بكل ما تضطربه من مشاعر جوانية في الدين والحب والجنس والسياسة... التي يعتبر استيقاد فتيل الجدل الشعري أو النثري في أقانيمها المُحَرَّمة، بمثابة تفجير لجمالية الحقيقة المُحَرِّكة لتطور المجتمع، لولا أنها لمَّا تزل محَجَّبة لا تسترقها الأعين في كامل سفورها إلا عبر الثقوب؛ حقاً، لقد بلغ الكذب الأدبي الحلقوم، مما يُسمى بتفجير اللغة التي تكاد تغدو من فرط ما أوليناها من تنميق وتعشيق، تابوتاً آبنوسياً يبقى أخرس بالموت مهما كان جميلا؛ وقد كانت حكمة «نيتشه» أبلغ حين ذهبت إلى أن النصيحة النسوية القائلة: لا تخف من مشاعرك، لم تعد تعني إلا أن تأكل ما تريد؛ فهل نستطيع تدارك الأدب المغربي والعربي عموما، بقول ما نريد، حتى لا يبقى مجرد سِرٍّ يغلف بالترميز جوهر كوميديانا الإنسانية؛ إننا نعيش أدبيا حالة كذب لا نهائية، لا تقول شيئا سوى الكلمات؛ ولا كاتب أو شاعر يستطيع قول حقيقة حتى نفسه ولو تخييلا؛ ثمة وسواس رهيب من سلطة الأخلاق المستمسكة قوياً بنياط الأدب الذي يبقى بميكانيزمات مجازاته الرمزية والإيحائية، بمثابة قبض ريح؛ وهو أشبه بمن يصم آذان العالم بقول ما لا يحب، ويلوذ بالهرب إلى كثافاته الإستعارية التي قد تسبغ ألف معنى على معنى واحد وحقيقي يمكن أن يجر حتى الجمل بحوافره الأربعة، وليس الكاتب فقط، إلى محاكمة تحُز في سراديبها القروسطية الألسن الأطول من اللازم، كي تركن إلى خرس الصمت الذي بات أبلغ تعبير لأدب ما بعد الحداثة...!