مرة أخرى أعود للكتابة حول الشخصية العربية، وإن كانت الكتابة الصحفية تختلف عن الكتابة البحثية العلمية إلا أن مناقشة أزمة الشخصية العربية التي وصفتُها بأنها شخصية غير سوية، بل هي شخصية انفصامية. والمأساة الكبرى هي أنه في الحالة العربية، تحولت مجتمعاتنا إلى حالة الانفصام الجماعي، وأصبح الاضطراب جزءا من التكوين النفسي والاجتماعي الذي يتربى عليه الفرد. وما دعاني للعودة إلى هذا الموضوع، هو الحكم الصادر على "لبنى"، الصحفية السودانية التي "شوهت تاريخ الأمة" بارتدائها البنطلون وقدمت للمحاكمة بحجة مخالفة الشريعة الإسلامية! ولا أعرف كيف تحول البنطلون إلى مخالفة شرعية يحاسب عليه المرء في مجتمعاتنا، بينما نحن بحاجة إلى إدراك طبيعة أوضاعنا، وفك حصار الدين وتسييسه واستخدامه لأغراض خاصة. بل وصل الحال بنا إلى تحميل الدين ما لا يحتمل بل الحقيقة أن كل ما يحدث هو براء منه. الحكم وصمة عار في تاريخنا، بل يضيف إلى رصيدنا في عالم الانفصام والعيش في عالم الخداع للنفس والدفع بها إلى مزيد من الانفصال عن الواقع. المشهد محزن لما يحدث في عالمنا العربي حيث نجحت موجات التزييف الديني في جعل شعوبنا تستهوي العزلة والغش والابتعاد عن الواقع، وتتلذذ بازدواجيتها. وما يجعل المرء يشعر بالحزن، هو انتشار الفكر التسطيحي للدين، والذي نفذ إلى عقول كثيرين منا وتحول إلى تنفيس وتبرير لكل هفواتنا. فبالأمس القريب استمعت إلى رجل دين يحدث مشاهديه، وأنا منهم، حول ميزان الحسنات. فكان يتعامل مع الدين وكأنه سلعة ويقول للمشاهدين: كلما أكثرتم من حسناتكم كلما خففتم سيئاتكم، والحسنة مثل السلعة للتاجر وما عليكم سوى شراء مزيد من الحسنات. هذا الفهم المبسط والمدمر للدين هو سبب من أسباب التردي العام الذي نعيشه، ولا مفر من مواجهة هذا الانحراف الكبير في فهم الدين باعتباره منظومة أخلاقية متكاملة. وفي غياب الأخلاق لا يمكن لأمة أن تتطور ولا يمكن للفرد أن يعيش في صفاء مع النفس، بل في مثل هذه الأوضاع المختلة ينتج لنا مزيد من الفوضى النفسية والذهنية. دعوتي لتنقية هذه الأجواء الملبدة، ليست الدعوة الأولى وليست بجديدة، فالتاريخ مليء بالشواهد التي تدعو لتحكيم العقل كسبيل لتقدم الأمم؛ فالفيلسوف ابن رشد كان علامة بارزة في تاريخنا ونهلت أوروبا من علمه وحققت النهضة التي فارقتنا دون عودة. فهو من دعا إلى تحكيم العقل بتحريره من الخرافة كسبيل إلى النهوض. وخلط السياسي بالديني هو أحد المثالب التي علينا مواجهتها بقوة. وما حدث للبنى في السودان ما هو إلا تعبير عن عمق الأزمة في الشخصية العربية ومدى الهشاشة الدينية التي روج لها سواء بقنوات رسمية أو غيرها. إلا أن الحقيقة واحدة وهي أن ما يحدث هو عار على هذه الأمة، عار أن تحاكم لبنى لأنها اختارت رداءها بحكم عقلها الذي هو نعمة من نعم الخالق. وفي عمق هذه الفوضى العارمة تصبح لبنى هي الخادشة لحياء أمة كونها لبست بنطالا، فكيف لهذه الأمة أن تكسب احترام العالم؟ وكيف لنا أن ندافع أمام الزحف المدمر، سواء من الداخل أو من الخارج؟ اللوعة كبيرة ومريرة، فالانهيار واضح في الأخلاق، ولاسيما تربيتنا على التملق والنفاق وعدم احترام الذات الإنسانية. المأساة تتسع وتزداد قوة حيث ماكينة التدين المظهري تحظى بنفوذ ونقود، وقد أصبحت لها أدواتها التي عمقت الهشاشة بيننا وحولت جل انتباهنا إلى قضايا تافهة لا علاقة لها بصلب الدين، لكنها الحقيقة المرة التي نعيشها ونعاني الويلات منها؛ لأننا قبلنا الصمت ولعبت الأنظمة لعبتها، لكن الحقيقة تبقى ساطعة وتبقى قضية لبني عاراً على هذه الأمة.