في أزمنة لاحقة لليال كانوا يتحلقون فيها حول العم موحى، فيفحم منطق الأساطير بخرافات التاريخ ، اعترفوا لبعضهم غير ما مرة أن صوته ما ينفك يحوم حولهم في الهزيع الأخير من الليالي المؤرقة، يهدهد قلق الأيام فتستيقظ النفوس رشيقة تحلق على أجنحة الحنين ... كان يا ما كان ... لازمة يتردد صداها العذب الواعد بالمتعة دوما، في حنايا طفولتهم ومراهقتهم و بداية الشباب. في الحنايا أيضا تسكن ذكرى الصخرة المحرمة : - ولم هي محرمة يا عم موحى؟ يمتنع عن الاجابة. لا تقنعه الاجابة المتوفرة؟ا ربما لاتوجد اجابة على الاطلاق . تحريم من التحريمات التي تنزل على رأس الانسان من اللامكان واللازمان. تعزف عيونهم المستعطفة على وتر القلب. يشير بسبابته نحوهم وهو يبتسم: - أيها الشياطين...ا يتابع وهو يحضنهم بعينيه :لا بأس ...لا بأس...أنا سأحميكم . يجمعون كلما طافوا بالمدن والبلدان ، أن الكون لم يتبد لهم أبدا بنفس الروعة و الانسجام اللذين تبدى بهما من أعلى الصخرة المحرمة، المحروسة بعناية الله وعناية العم موحى . قبل أن يوجد البيت الكبير بين الجبل والوادي وجد العم موحى، وها هي أحجاره التي ساهم في رصها وأعمدته التي ساعد على رفعها تلوذ بصمت مدين أمام سؤالهم عنه. ليلة اختفائه تحلقوا حول المدفأة يستغيثون بألسنة اللهب: - لم وأين اختفى العم موحى كانوا يتحاشون في حديثهم كلمة الهجر . بدت لهم فكرة الهجر بدون وداع بعد عمر من الطمأنينة مخيفة مرعبة ، تكاد تكون شقيقة الخيانة. عاليا قهقهت ألسنة اللهب : - يمنحكم انسان عمره. تطرده أنانيتكم ،فترمونه بالخيانة. تأملوا بعضهم مليا. لم يتعرفوا في مرايا العيون على ملامحهم. أحسوا ببرودة الفقد تتسلل الى أعماقهم . بحركة لا ارادية اقتربوا من المدفأة. شدة القرب تعمي البصر والبصيرة . بعض المسافة حامية للنفس وللاخر. مذ فتحوا أعينهم على الدنيا فتحوها على العم موحى.التصقوا بصورته كما شكلتها عيون الطفولة، فلم يكن ممكنا أن يتصوروه بشكل مختلف. حياة أخرى ؟ وضع آخر ؟ لم يفكروا أبدا في الأمر. لم يستطيعوا النوم. ظلوا الليل بطوله أمام المدفأة يتساءلون ويحاولون الفهم. وميض مفاجئ . الأمان الذي كان بساطا ولحافا في البيت الكبير ، استحال خدعة قدرية. صعقوا وهم يرون جدهم يسقط فجأة و كان كعادته يمازحهم أثناء تناول وجبة الفطور.قبل أن يصل الطبيب، نظر بحزن في اتجاه حفدته. أغمض عينيه لحظة، تنهد عميقا و ضرب بوهن كفا بكف. أمسك يد العم موحى ،و لما لم يسعفه الكلام ضغط عليها بما تبقى لديه من قوة ثم حرك رأسه يمنة ويسرة زاما شفتيه حسرة و أسفا. أخذه الموت غيلة، لم يتوقع أن يزوره وهو صحيح معافى في بداية الخمسين من عمره. فهموا أسف الجد وحسرته في لحظاته الأخيرة ،حينما وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام العصبة. أعمام الجد الذين كانوا ينادونهم بالأبناء، هرولوا تتقدمهم أطماعهم في الأراضي والعقارات والمواشي ،وشعار لا حياء في الدين. باسمه انتزعوا منهم هدايا الجد. احتجت أمهاتهم: - و عرف القبيلة الذي ربينا أبناءنا عليه؟ وقواعد نظامنا الأميسي ؟ احتموا بالشرع مستشهدين بالذكر.شرحوا وأفاضوا في الشرح. دقت أجراس المصلحة، فصار عباد الله الصالحين فقهاء متفقهين في الدين. هان أمر الهدايا أمام نهب الأراضي الشاسعة غير الموثقة. استنجدت الأمهات بالعم موحى، وقد تحالف كبرياء الآباء مع نفوذ الأعمام وعرف القبيلة على اقصائهم. لم يتحمل أن يرى الأرض التي رعاها ونماها تنهب أمام عينيه. يسنده الحق الأعزل وتقويهم السلطة الموروثة أبا عن جد، عن اجماع يحرسه سيف ،عن حسابات أمنية ...أخرسوه في النهاية ، خاطبه أحد الأعمام بتعالي الواثق من أسلحته : ?لا تنس نفسك يا ابن الجا..... لم تترك له الأمهات المجال لاكمال الشتيمة، قاطعنه بشراسة بذرها فيهن الظلم. يا لجبروت المال .عمر جميل من المودة والسكينة يتحول في لحظة الى أكذوبة مؤلمة أمام ناظرهم. من الثروة الكبيرة نالوا الكفاف والعفاف، تلاحقهم صورة الجد وهويضرب كفا بكف ألما و حسرة. أنساهم الظلم الذي لحق بهم وتبخر الأحلام المعتمدة على ثروة الجد، حق العم موحى. انكسار العم موحى. تذكروه حينما أعلنوا هدنة مع الكفاف. -يا ابن الجا... لاحقوا أمهاتهم بالأسئلة: - من يكون العم موحى؟ - ما نوع القرابة التي تجمعنا به؟ -..........؟ أيام طويلة وهم يركضون وراء الاجابة.ولجوا عالمه بصعوبة بعد اختفائه. خطوا بضع خطوات فصاح ضمير المجموعة بمرارة : - يا الهي، كم كان العم موحى غارقا في وحدانيته . لزموا الصمت. - ما معنى أن يحب الانسان وألا يصل اليه نبض من يحبهم ؟ استجمعوا قواهم وتابعوا السيرفي الزمن العصيب. آلمهم منظر الجذور الحرة يقتلعها الجفاف والوباء وصلف الحماية، ويرمون بها في قيود العبودية . الجوع أشد كفرا من الكفر. تهون النفس ويهون الولد.مقابل مكيال من القمح، تهون فتاة تفدي عائلتها.لا يفلح في فدائها بعض النبل.الحاجة ماسة الى الخبز. تدمج في القبيلة. تتزوج فيها. تموت وهي تضع العم موحى. -أخ جدكم بالتنشئة. عمنا الوحيد. ختمت الأمهات .أسبلن عيونهن،حينما ردوا بلا صوت: - هوكذلك ،أخ يشتغل ، لايملك ولا يرث. كثفوا البحث عنه. عثروا على أغلظ الأيمان: -رحل الى الهند الصينية. - نعم؟ - نقصد فرنسا.لا تنسوا أنه من قدماء المحاربين. - كلا ..كلا، لم يغادر البلد.رأيناه بعظمه و لحمه يتجول في بلدة زوجته المرحومة. - غير معقول . في نفس الساعة التقينا به في السوق الأسبوعي لمدينتنا. ... كان بالأمارة يتأبط ذراع أحد ابنائه. -العم موحى ؟؟؟ -اييه موحى - لا ابن ولا ابنة له. - صليوا على النبي ..واش يخفى علينا موحى. -............ لفتهم المتاهة. صلوا على النبي أخيرا وابتعدوا خطوة ... شهرا... سنة ... عمرا لم يتكرر فيه الاحساس بالسعادة المطمئن لوفاء الحياة أبدا.آخر مرة شاهدوا فيها العم موحى شاهدوه بعين القلب : قصد الصخرة المحرمة جلس عليها وضع ساقا على ساق ، وأسند عليها مرفقيه، ثم دعم بيديه ذقنه وخديه، وهكذا أخذ يتأمل كيف ينبغي العيش في هذا العالم.