سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
عطوان: أرباب العمل الإسرائيليون كانوا يجمعون العمال الفلسطينيين في حظائر أسموها «سوق العبيد» كانت أكبر مخاوف أمه أن يأتي الإسرائيليون إلى رفح ويقتلوا كل شباب المخيم
قليلة هي تلك السير الذاتية التي تعكس التاريخ مثلما تعكس سيرة حياة عبد الباري عطوان أحداث زمانه. فقد ولد عبد الباري عطوان في مخيم للاجئين في غزة عام 1950، التي غادرها في السابعة عشر من عمره ليصبح أحد أهم المعلقين الصحفيين في قضايا الشرق الأوسط في العالم. عطوان يروي بصدق وروح عفوية في هذا الكتاب قصة رحلته من أوحال مخيم اللاجئين إلى رأس هرم صحيفة «القدس العربي». خلال رحلته يصور عبد الباري عطوان الرعب الذي سببته مذابح المخيمات والنتائج غير المتوقعة للتدخل البريطاني في المنطقة. كما يروي المآسي التي واجهته جراء تنقله من بلد إلى آخر، والصدمة الثقافية التي أحس بها عندما سافر إلى لندن في السبعينيات. ويحكي أيضا لقاءاته الصحفية مع شخصيات سياسية مهمة مثل مارغريت تاتشر وأسامة بن لادن وياسر عرفات والعقيد القذافي وشاه إيران. كما لا يخلو الكتاب من روايات عن تجارب شخصية وإنسانية كان أكثرها تأثيرا تجربة لقاء أولاده بريطانيي المولد مع عائلته في المخيم. الشيخ محمد كان مخيم رفح للاجئين يعج بالشخصيات الفريدة مثله في ذلك مثل مخيم دير البلح، غير أن شخصية واحدة في ذلك المخيم التصقت بذاكرتي و أبت النسيان. كانت هذه الشخصية هي الشيخ محمد. في ثقافتنا الفلسطينية كنا نطلق على أي شخص معاق – سواء كان معاقا جسديا أو ذهنيا – لقب شيخ لنعبر عن احترامنا وقبولنا لقضاء الله و قدره الذي جعله على هذا الشكل. لقد كان الشيخ محمد معاقا ذهنيا، بالإضافة إلى كونه أبكم و أصم. وكانت لديه عادة غريبة هي لبس الجلابية (الجلباب) دون أن يلبس تحتها أي ملابس داخلية، وكان عندما يقابل أي امرأة أو فتاة في طريقه يرفع جلابيته ويكشف عن عورته. ورغم أن النساء كن يصدمن بهذا التصرف، فقد كن يضحكن ويتغامزن فيما بينهن حول أعضاء الشيخ محمد التناسلية التي كانت «عظيمة الحجم». كان الشيخ محمد صديقا حميما لأرملة طاعنة في السن تدعى أم كامل. وكانت أم كامل تدعوه إلى بيتها وتحسن إليه وتعتني به. وكان الشيخ محمد يحمل دلاء الماء من البئر إلى بيت أم كامل حيث يدخل ولا يخرج إلا وهو مغتسل في حلة جديدة. وكانت تعلو تعابير وجهه حينها الكثير من مشاعر الرضى و السعادة. كان هذا الأمر سببا في رواج الكثير من الشائعات في المخيم، ولكن أحدا لم يعرف ماذا كان يحدث داخل منزل الأرملة أم كامل. وبما أن الشيخ محمد كان غير قادر على التواصل و الحديث فلم نعرف منه شيئا. المذبحة في الوقت الذي اندلعت فيه حرب الأيام الستة في الخامس من يونيو 1967، كنا قد أكملنا عامنا الأول أو يزيد في مخيم رفح. في تلك الأيام احتل الإسرائيليون قطاع غزة مرة أخرى وتسبب ذلك بالنسبة لوالدتي في استرجاع ذكريات مؤلمة حتى إن ركبتيها لم تقويا على حملها وكاد يغمى عليها عندما سمعت صوت الدبابات و الآليات العسكرية. حينها تحلق إخوتي الصغار حولي فزعين. حاولت طمأنتهم بالقول: «ابقوا هادئين فقط». أوصدت باب المنزل وقلت لهم: «سوف نبقى هنا إلى أن يرحلوا، اتفقنا؟ عليكم ألا تخرجوا من المنزل أو تتجهوا نحو الباب!” كانت أمي تبكي فزعا فضممتها إلي و قلت لها: “هيا، ياما، كل شيء سيكون على ما يرام» ولكنها أخذت في البكاء و قالت لي: «ماذا لو قاموا بأخذ الرجال مرة أخرى، كما فعلوا في دير البلح؟ ماذا لو أخذوك إلى الخارج؟ لن أتحمل خسارتك أنت أيضا. لم أستطع أن أجيبها لأن هذا الصمت القصير و المتوتر قطعه صوت صياح جنود إسرائيليين تبعه على الفور صوت أعيرة نارية من مدفع رشاش بالقرب من بيتنا. كتمت أمي صرخة كانت ستنطلق لولا شدة الخوف. بعد أكثر من ساعة خرجنا من المنزل وكان في انتظارنا مشهد رهيب وبشع. كان باب منزل جدتي مهشما بفعل الرصاص، فيما كانت جدتي جثة هامدة تسبح في بركة من دماء داخل البيت. لم ندرك ماذا حدث وقتها، ولكننا جمعنا أجزاء القصة فيما بعد لنعرف ما حدث بالضبط. كان عبد الله ابن عمي قد انضم سرا إلى الفدائيين وجاء الإسرائيليون ليبحثوا عنه في منزل جدتي. وعندما أتوا طرقوا الباب ويبدو أن جدتي بدأت في الزحف نحو الباب لفتحه، لكن شك الإسرائيليين من طول الوقت الذي استغرقه فتح الباب مع سماعهم صوت حركة داخل المنزل جعلهم يظنون أن عبد الله يحاول الفرار، لذا أطلقوا نيران رشاشاتهم على الباب وأرادوا جدتي قتيلة على الفور. المفارقة الرهيبة أن عبد الله في الحقيقة كان قد ترك المنزل منذ مدة لأنه كان يعتقد أن وجوده في المنزل يعرض حياة جدتي للخطر. وبما أن الخروج آنذاك كان أمرا خطيرا جدا، فقد قررنا أن ندفن جدتي داخل منزلها بحفر قبر لها داخل أرضية المنزل. بعد ذلك بمدة قمنا بنقل جثمانها إلى قبر آخر في باحة المنزل. ولم نكن قادرين على دفنها بشكل مناسب في المقبرة إلا بعد شهر تقريبا. في المخيم لم تنته دوامة الدم عند هذا الحد، إذ قام الإسرائيليون بفرض حظر التجول، وفي ليلة من الليالي سمعنا صياحا تلاه صوت إطلاق أعيرة نارية. وفي الصباح، رأينا الشيخ محمد وهو ملقى على وجهه جثة هامدة. لم يكن الشيخ محمد يعرف ما معنى حظر التجول وكان في طريقه لزيارة أم كامل كالعادة، عندما أمره الجنود الإسرائيليون بالتوقف. ولكونه أصم وأبكم، فلم يأبه بأوامرهم واستمر في المشي. وهو ما دفع الجنود إلى إطلاق النار عليه من الخلف. في نهاية شهر يونيو من عام 1967 كان ثلاثة وعشرون لاجئا قد قتلوا في رفح، حينها أجبرت عائلتي على أخذ القرار الذي سيغير حياتي إلى الأبد. الرحيل كان ترك غزة هو الخيار الواقعي الوحيد بالنسبة إلي. فالاحتلال الإسرائيلي تسبب في إغلاق المدارس في بداية ما كان من المفروض أن تكون سنتي الأخيرة لنيل الشهادة الثانوية. كما أن فرص العمل في القطاع كانت معدومة تقريبا. كان العمل متوفرا فقط على الجانب الآخر من الخط الأخضر (خط الهدنة الذي أعلن بعد 1948) لكن من كانوا يذهبون للعمل هناك كان عليهم التخلي عن آخر ذرة تبقت لهم من كرامة وعزة. لن أنسى يوما منظر المئات من الفلسطينيين الباحثين عن لقمة عيش و هم يحشرون فيما يشبه الحظائر على الجانب الآخر من نقطة التفتيش كالحيوانات. وما أن تجيء شاحنة مصنع أو مزرعة إسرائيلية حتى يفتح الجنود الإسرائيليون هذه الحظائر ويبدأ الفلسطينيون في التدافع والتسابق نحو الشاحنة ليحصلوا على فرصة لكسب رزقهم اليومي. كان أرباب العمل الإسرائيليون يطلقون هازئين على هذه العملية “سوق العبيد”. كما أن هذا الوضع بدأ يتكرر في ضواحي كل المدن الرئيسية في غزة و الضفة الغربية. كان أكبر مخاوف أمي هي أن يأتي الإسرائيليون إلى رفح كما فعلوا في عام 1956 ويقتلوا كل الشباب في المخيم. ويبدو أن عقلي الباطن بدأ يتقبل هذه الفكرة، ففي تلك الفترة بدأت أمشي وأنا نائم. وطبقا لما كانت تحكيه لي أمي، فقد كنت أنهض في الليل و أمشي حول المنزل مفتوح العينين. وعندما كان أحدهم يحاول الحديث معي كان يدرك أنني لست واعيا وأني نائم. وزادت هذه المشكلة الطارئة الجديدة من خوف أمي المسكينة وقلقها علي. كانت تقول لي راجية: «أرجوك يا سعيد، أريدك أن تعدني أنك لن تعيش في مبنى عال. إنني أخشى أن تتسبب لك مشكلة المشي نائما في أذى» في شهر سبتمبر وصلنا إلى قناعة مفادها أنني يجب أن أغادر فلسطين إما برضاي أو غصبا عن طريق الترحيل بالقوة. فالإسرائيليون كانوا قد بدؤوا بتنفيذ سياسة الترحيل الإجباري وتمكنوا من طرد أكثر من 325000 فلسطيني من غزة والضفة الغربية في الفترة التي تلت حرب الأيام الستة. كان كثير من الفلسطينيين غادروا فلسطين قبل ذلك بشكل طوعي. ففي أوائل الخمسينيات من القرن المنصرم تقبل كثير من فلسطينيي الطبقة الوسطى فكرة صعوبة استرجاع أراضيهم المسلوبة مرة أخرى واتجهوا إلى دول الخليج ليبدؤوا مشاريعهم الخاصة بما تبقى لهم من مال.