سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
المشاركة السياسية هي عمود وقاعدة الأنظمة الديمقراطية لا يمكنها أن تتطور بدون مشاركة المواطنين في الحياة السياسية لبلدهم المشاركة السياسية في عالم متغير: انتكاسة أم تحول؟
ساد الاعتقاد لعقود من الزمن بين علماء السياسة أن الصورة الأساسية للمشاركة السياسية هي عن طريق الانتخاب، لأنها هي الصورة التي تمارسها الأغلبية الساحقة من المواطنين على قدم المساواة. والواقع أن مفهوم المشاركة السياسية هو أكثر من ذلك بكثير بدليل احتلاله لدرجة كبيرة من الأهمية في الدراسات والأبحاث التي تناولت البنيات الاجتماعية والسياسية للمجتمعات الإنسانية. والحقيقة أن المشاركة السياسية هي الأساس الذي تقوم عليه الديمقراطية، بل أن نمو وتطور الديمقراطية يتوقف بدرجة كبيرة، وبالأساس، على إتاحة فرص المشاركة السياسية وجعلها حقوقا يتمتع بها كل إنسان في المجتمع. وإذا كانت المشاركة السياسية تؤدي إلى القضاء على الشعور بالإقصاء أو بالاغتراب لدى فئات واسعة من المواطنين داخل المجتمع، فإن تحقيق قيم المساواة والحرية يؤدي أيضا إلى استتباب الاستقرار العام للمجتمع، كما يساعد على استنبات الشروط الاجتماعية والثقافية والسياسية الضرورية لإنجاح خطط التنمية . لذلك لم تعد دراسة المشاركة السياسية تقتصر على دراسة التصويت باعتباره الصورة الوحيدة والأساسية لها، وإنما أصبحت تدرس أيضا إلى جانبه صورا أخرى قانونية مؤسساتية مثل العضوية في الأحزاب السياسية وفي النقابات المهنية والعمالية والجمعيات الفكرية وجماعات المصالح بصفة عامة، بالإضافة إلى صور غير قانونية مثل استخدام المال في العمل السياسي عندما يتجاوز حدودا معينة تفوق ما يسمح به القانون. وتبعا لذلك فإن مقاربة المشاركة السياسية لا تختزل في دراسة السلوك السياسي الفردي الذي يتراوح ما بين التصويت إلى الاتصال الشخصي بصانعي القرار السياسي، بل تمتد أيضا إلى دراسة السلوك الجماعي المتنوع الأشكال والتمظهرات بحسب الجماعات التي تقوم به والذي قد يشمل الاحتجاجات الجماعية من مسيرات ومظاهرات وإضرابات؛ وهذه هي أيضا صورة من صور المشاركة السياسية يسمح بها القانون في بعض الدول وقد لا يسمح بها في دول أخرى، وتسعى إلى التأثير على صانعي السياسة العامة لدفعهم لاتخاذ قرارات معينة أو الامتناع عن اتخاذ قرارات أخرى لا تخدم مصالحهم. ويتبدى لنا من خلال هذا التوصيف أن المشاركة السياسية هي عمود وقاعدة الأنظمة الديمقراطية، التي لا يمكنها أن تعيش وتستمر وتتطور بدون مشاركة المواطنين في الحياة السياسية لبلدهم، مشاركة تجعل منهم أفرادا مسؤولين ومؤثرين، وأنه من الخطأ القول أن هذه المشاركة يمكن اختزالها وقصرها على عملية التصويت، فهي تشمل، وبالتأكيد، إلى جانب الصور والأشكال التقليدية أشكال وأنماط أخرى غير تقليدية يتعين تحديدها بإيجاز واقتضاب كبيرين قبل التطرق إلى الانتكاسة التي تعرفها مختلف مستويات المشاركة السياسية التقليدية وبعد ذلك محاولة استكشاف بعض المسالك الممكنة لتجاوز تلك الوضعية. I -أشكال وصور المشاركة السياسية: -1-Iصور المشاركة السياسية التقليدية: ترتبط هذه المشاركة بمفهوم وممارسة المواطنة السياسية الكفيلة بتأمين حسن سير المؤسسات التمثيلية في الأنظمة الديمقراطية، وبذلك تنتظم حول عملية الانتخاب وما يرتبط بها من تجليات وتمظهرات هذه المشاركة: (الحضور في حوارات وندوات ونقاشات وبرامج سياسية، المشاركة في تجمعات ومهرجانات خطابية سياسية...)، كما تتسع هذه المشاركة لتشمل التصورات والتمثلات التي يكونها ويستدمجها الأفراد اتجاه العمل السياسي والمؤسسات السياسية، والصورة التي يجب أن يكون عليها المواطن المؤثر في المسارات السياسية لوطنه. -2-I صور المشاركة غير التقليدية: تتبدى هذه المشاركة في تمظهرات قد تكون أحيانا عنيفة،(احتلال أماكن عمومية، مسيرات ومظاهرات ووقفات جماعية احتجاجية)، وقد تكون قانونية (توقيع عرائض، مقاطعة منتجات وبضائع وسلع معينة) فهي بصفة عامة تأخذ شكل فعل فردي: كالإضراب عن تناول الطعام، أو سلوك جماعي: كتعبئة مجموعة من الأفراد بطريقة مباشرة ومستقلة دون المرور بالوسائط السياسية وخارج قنوات ووسائل فض النزاعات والصراعات السياسية المنصوص عليها في القانون. وهذا ما حذا بكثير من الباحثين إلى وصمها بكونها مشاركة تستهدف إقامة أشكال جديدة لمنظومة الحياة السياسية بطريقة مغايرة عن تلك التي يسلكها الفاعلون في الأنظمة التمثيلية البرلمانية. وعلى ضوء هذا الفهم لمسألة المشاركة السياسية هناك اتفاق واسع على تدني مستويات المشاركة التقليدية. -IIتآكل أشكال وصور المشاركة السياسية التقليدية من المفيد الانتباه أن تدني مستوى المشاركة السياسية التقليدية مرتبط بصفة جلية بعزوف المواطن عن المشاركة بصفة عامة. فهل مرد ذلك إلى عدم كفاية وملاءمة العرض السياسي، وعدم استجابته لانتظارات وحاجيات المواطنين، وبالتالي عدم إيمانهم أن سلوكهم الانتخابي أو اختيارهم لا يكون مؤثرا، واعتقادهم أن الدور الرقابي للتصويت هو دور محدود القيمة لاعتماد المتبارين على عوامل ولائية لتجميع الأصوات بصرف النظر عن عنصر الكفاءة والأداء السابق؟ أم يتعين تحميل المواطنين مسؤولية ذلك من خلال إثارة عدم اهتمامهم بالشأن العمومي، وبالتالي انغلاقهم الأناني على قضاياهم الخاصة؟ وهل يتعلق الأمر بمواقف معقلنة للناخب؟ وهل هناك أشكال أخرى بديلة للمشاركة السياسية تمارس خارج حقل الانتخابات؟ وهل لهذا العزوف خلفية اجتماعية ترتبط باعتبارات اجتماعية خاصة كالدخل ومستوى التعليم. ويمكن القول إن ضعف المشاركة السياسية أصبح ظاهرة عامة ترجع إلى مجموعة متشابكة من العوامل والظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية، فضلا عن قصور الإطار القانوني الذي ينظم مظاهر وآليات المشاركة وطبيعة المجال السياسي وسيرورة تطوره ورؤية المواطنين لجدوى مشاركتهم بصفة عامة ومشاركتهم في الانتخابات بصفة خاصة، كما أن ضعف القنوات المؤسساتية والتنظيمية التقليدية للمشاركة السياسية قد يفسح المجال أمام تنامي صور وأشكال المشاركة غير التقليدية. وقد ظهر جزء هام من هذه الرغبة في استخدام طرق غير تقليدية للتأثير على السياسات العامة في شكل ما يطلق عليه بالحركات الاحتجاجية الجماعية. ومن منطلق هذا التحليل تطرح مسألة المشاركة السياسية في بلداننا المغاربية جملة من التساؤلات يأتي في مقدمتها سؤال جوهري هو كيف ينظر الفاعلون السياسيون والاجتماعيون اليوم لمسألة المشاركة السياسية؟ وهل يمكن الحديث عن وجود مشاركة سياسية ناجعة وفاعلة أم أن الأمر هو غير ذلك؟ من المعلوم أن البلدان المغاربية الثلاث: المغرب والجزائروتونس قد أحاطت العملية الانتخابية بمجموعة من الضمانات تختلف من بلد إلى آخر وتتجلى: - في تشريعات محينة كفيلة بخلق جو من النزاهة والشفافية وتكريس المساواة بين المتنافسين والتنصيص على طرق الطعن القضائية. ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى مدونة الانتخابات في المغرب التي عرفت تعديلات جوهرية بمناسبة الاستحقاقات الانتخابية بكل أصنافها لسنتين 2002 و 2007 سلك فيها المشرع المغربي سياسة جنائية صارمة حاولت أن تطال كل الخروقات التي من شأنها أن تضر بحسن وسلامة العملية الانتخابية في مختلف مراحلها وقرنها بعقوبات جنائية متفاوتة المقدار بالنسبة للغرامات المالية وفي المدد بالنسبة للعقوبات السالبة للحرية حسب خطورة الفعل الجرمي المرتكب والتنصيص على إلزامية الجمع بين العقوبتين في حالات كثيرة، وقرن هذه العقوبات أحيانا بالحرمان من حق الترشيح للانتخابات لولايات تشريعية محددة. نفس السيرورة عرفها قانون الانتخاب الجزائري الصادر في 6 مارس 1997 والمعدل في 5 يناير 2004. أما في تونس فيلاحظ أيضا أنه من المجالات التشريعية التي طالتها تعديلات متتالية قانون الانتخاب الصادر في 1969 والذي خضع لأكثر من 16 مرة للتحيين والتعديل منذ ذلك الحين إلى الآن. -التصريحات المشتركة للفاعلين السياسيين من أحزاب سياسية وسلطة عمومية مشرفة على تنظيم وسلامة سير الانتخابات وكذا اعتماد مدونات حسن السلوك بين الأحزاب والسلطات العمومية تتضمن قواعد السلوك الواجب احترامها من طرف الجميع أثناء كل مراحل العمليات الانتخابية ويمكن ذكر هنا التصريح المشترك بين الأحزاب المغربية والإدارة المشرفة على تنظيم وسير العملية الانتخابية الصادر في 28 فبراير1997. -خلق آليات للمراقبة السياسية للانتخابات: لجان وطنية في الجزائر وفي المغرب مساندة في هذا البلد الأخير من طرف لجان إقليمية يوكل إليها تسوية المشاكل والنزاعات المتصلة بالعملية الانتخابية ومراقبة حسن سيرها، غير أنه سرعان ما تم التخلي عنها في المغرب وأوكل أمر السهر على حسن سير وسلامة العملية الانتخابية بالإضافة إلى تنظيمها لها إلى الإدارة الترابية بفعل التغييرات والإصلاحات التي عرفتها هذه الأخيرة مع بداية العهد الجديد. وفي نفس السياق تم خلق في تونس مرصد وطني لمراقبة الانتخابات التشريعية والرئاسية في هذا البلد. غير أن الملاحظ هو أن كل هذه الآليات السياسية لمراقبة الانتخابات بالإضافة طبعا إلى كل المساطر القضائية والإدارية التي توخت تسييج العملية الانتخابية بمجموعة من الضمانات في مواجهة الشائبات والمخالفات التي قد تعكر حسن سيرها وتأثر بالتالي على سلامتها وصحتها، لم تساهم بالشكل المطلوب في الرفع من مستويات المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة في البلدان المغاربية الثلاث، بل عكس ذلك، وبنسب متفاوتة هو الذي حصل. فهل يجسد ذلك تمظهرا سياسيا لأزمة وانتكاسة صور المشاركة السياسية التقليدية، وتآكل وقصور هذه المشاركة التقليدية عن تنشيط الممارسة الديمقراطية وترسيخها لتتحول إلى ممارسة فاعلة وناجعة تمكن الشرائح الاجتماعية بمختلف مستويات أعمارهم وأجناسهم التعبير عن أرائهم ومقترحاتهم ومشكلاتهم؟ وهل يعني ذلك أن المواطن الناخب المغاربي أصبح رجلا منطقي التفكير في تشكيل سلوكه الانتخابي يقبل على المشاركة عندما يستشعر أنها قد تؤدي إلى تغيرات في بيئته، فيتحمس لها، ويحجم ويمتنع عن ذلك عندما يرى عن صواب أو خطأ، إن مشاركته لن تغير شيئا وإنها ستكون غير مؤثرة أو أن قناة المشاركة غير واضحة بالنسبة له ولا تحظى بالمصداقية؟. بديهي أن الدارس لكل هذه الإشكالات وغيرها لا يستطيع الإتيان بأجوبة جاهزة لكل هذه التساؤلات دون التسلح بأدوات منهجية ومعرفية تحفظه من الوقوع فريسة المواقف المسبقة والاستنتاجات غير العملية التي لا تستند إلى معطيات واقع الممارسة السياسية في بلد معين. المؤكد أن انتكاسة المشاركة السياسية التقليدية هي ظاهرة عامة تشكو منها كل الديمقراطيات حتى العريقة منها في أوربا كما هو الحال بالنسبة لفرنسا وإنجلترا. وهذا ما خلص إليه غالبية الباحثين المختصين في هذا المجال، حيث يرجع باحثان معروفان في حقل العلوم السياسيةNonna Mayer et Pascal Perrineau هذه الانتكاسة إلى حالة عدم اهتمام المجتمع المدني بالعمل السياسي في البلدان الغربية. لا شك أن البلدان المغاربية تشكو من نفس الظاهرة، حيث تعطي الممارسة السياسية بها الانطباع بكونها تبقى محصورة في النخبة السياسية. -IIIمسالك جديدة لتجاوز الأزمة لا شك أن تنامي المجتمع المدني في البلدان المغاربية وإعطاءه الانطباع بتوفر الفاعلين في حقله على مشروع مجتمعي يستهدف ترسيخ السلوك المدني ودمقرطة دواليب المجتمع، يوحي بإمكانية بروز بوادر البديل الجمعوي » l_alternative associative « من خلال توسيع اهتماماته إلى حقول ومجالات جديدة، تجد لها صدى من المباركة والتشجيع في الخطاب الرسمي لكل القادة السياسيين من ممارسين للحكم ومن معارضين. غير أن الانفتاح على هؤلاء الشركاء الجدد لم يساهم بشكل مؤثر في الدمقرطة المنشودة للمجتمع، وفي زرع دم جديد في شريان الممارسة السياسية، الأمر الذي يوحي أن تنامي الظاهرة الجمعوية وانتشارها واحتلالها لمواقع متعددة في النسيج الاجتماعي لا يمكنه إخصاب رصيد اجتماعي سياسي قادر لوحده على تحفيز وتيسير انتشار واستدماج السلوكات المدنية المدعمة للصرح الديمقراطي. مثل هذا المعطى يفرض ضرورة التفكير في خلق شروط جديدة لتحفيز المشاركة السياسية لفئات عريضة من المواطنين في بلداننا المغاربية. لا شك أن السياقات السياسية والاجتماعية لبلداننا المغاربية تحبل بانتظارات خاصة لمواطني كل بلد، غير أن تجاوز وضعية انتكاسة المشاركة السياسية التقليدية التي تدل عليها نسب المشاركة الضعيفة، أو بالأحرى المتدنية في الاستحقاقات التي مرت في هذه البلدان في السنوات الأخيرة، يفرض ابتكار وسائل جديدة حيث لا يصير الشعور بالاغتراب أو بالإقصاء الاجتماعي للمواطن يفضي به اتوماتيكيا إلى الإقصاء من الفضاء العمومي، فالذين يستشعرون هذا الإقصاء وعدم التأثير في معاشهم بممارستهم لحقهم في المشاركة لا في العمليات الانتخابية ولا في التمظهرات الأخرى ذات الصلة بالممارسة السياسية، هم الذين يكونون الغالبية من الممتنعين عن الذهاب إلى مكاتب التصويت، قد يصبحون بفعل ذلك فريسة سهلة للخطاب الشعبوي أو الخطاب التيئيسي. لمواجهة هذه الانتكاسة يتعين خلق مواطنة مغاربية فاعلة من خلال التفكير في تجديد أساليب المشاركة السياسية في الفضاء العمومي بابتكار أمكنة وفضاءات جديدة بداخله. هذا ما خلصت إليه أبحاث كثيرة من طرف المختصين في مجال العلوم السياسية حيث ينادون بضرورة تجديد وتنويع وتوسيع المشاركة السياسية في الفضاءات العمومية كجواب على انتكاسة المشاركة التقليدية. وتبرز المشاركة السياسية على المستوى المحلي كإحدى التمظهرات الناجعة لهذا التجديد والتنويع المنشودين لإقامة دعائم ديمقراطية تشاركية. أليس في هذا الفضاء يجد الخطاب الشعبوي المتطرف أحيانا تربة خصبة للانغراس والتأثير؟ وجدير بالذكر، أن أهمية المستوى المحلي في تنشيط وتحفيز المشاركة السياسية ليست وليدة اليوم. Tocqueville كان يرى في دفع المواطنين إلى الاهتمام عن قرب بمشاكلهم وقضاياهم المحلية وسيلة عملياتية ناجعة لحملهم على الاهتمام أكثر فأكثر بالشأن العمومي. فعلى هذا المستوى يتبدى جزء من الحل الذي يتعين الشروع في تجريبه لتحفيز المشاركة السياسية الكفيلة بإدماج المواطنين بيسر أكبر في الفعل السياسي، الأمر الذي قد يساعد المواطن على استدماج قيم وتمثلات إيجابية اتجاه الممارسة السياسية تسهم في مرحلة ثانية في حل إشكالية إدماجه السياسي.