هبطت مصر في زيارة قصيرة لم تزد على ثلاثة أيام، بعد غياب طال هذه المرة أكثر من أي وقت مضى، عاماً ونصف العام. فقد ترددت طويلاً قبل القيام بالزيارة، واضطرتني ظروفي الخاصة، إلى تأجيلها أكثر من مرة. لقد وجدت القاهرة كعهدي بها من قبل، مدينة صاخبة بالحياة طافحة بالحركة، وكأنها تزداد حيوية ونضارة وشباباً كلما زادت كثافة وازدحاماً وضجيجاً. ولست أجد سبباً لذلك سوى طبيعة الشعب المصري الذي يعشق الحياة ويتشبث بالأمل ويحلم بالغد ويتحدى الظروف العابرة التي تحفل بالمنغصات وبأسباب التوتر وبدواعي القلق. بدأت يومي في عاصمة المعز بالجولة الاعتيادية التي أقوم بها عبر المكتبات، والتي تبدأ من ميدان سليمان باشا (طلعت حرب اليوم) حيث تتقابل مكتبة مدبولي مع مكتبة دار الشروق. وقد حرصت على أداء واجب العزاء لأحد أبناء الحاج مدبولي أشهر كتبي في مصر والوطن العربي، الذي توفي إلى رحمة الله خلال الفترة الأخيرة. إن ما تجده في هاتين المكتبتين المتقابلتين من الكتب الجديدة، لا تجده في أية مكتبة أخرى، على الرغم من كثرة المكتبات الجديدة التي تكاد تكون الظاهرة الأبرز في الحياة الثقافية في مصر. ومن ميدان سليمان باشا أتوجه إلى شارع عبد الخالق ثروت، حيث مكتبة دار المعارف تقابلها مكتبة الهيئة العامة للكتاب. وكلتاهما من القطاع العام. ولذلك فإن الخدمة في هاتين المكتبتين لا تقارن بالخدمة في المكتبتين السابقتين. ويكفي أن أقول إنني وجدت الموظفات في مكتبة دار المعارف عند دخولي إليها، مجتمعات حول صينية يلتهمن صحون الفول المدمس والطعمية والطرشي وأرغفة الخبز البلدي الأسمر. وأما عند زيارتك لمكتبة الهيئة العامة للكتاب، فأنت تخضع لإجراءات غريبة، فعند دخولك يتقدم إليك أحدهم ليسحب ما بيدك ويسلمك رقماً بلاستيكياً. وإذا اخترت الكتب ووضعتها على المكتب الذي يواجهك ريثما تنتهي من الفرز وانتقاء ما ترغب في شرائه منها، عليك أن تنتقل بين موظفين اثنين؛ أحدهما يكتب لك الفاتورة بالكتب التي تصدرها الهيئة، والثاني يكتب الفاتورة بالكتب الصادرة في إطار مشروع مكتبة الأسرة. والحالة أن جميع هذه الكتب هي من إصدارات الهيئة. ولكنه الروتين القاتل في القطاع العام الذي يذكر المرء بما كانت عليه الحال في عهد الاتحاد الاشتراكي. يوجد في شارع عبد الخالق ثروت نفسه مكتبة الدار المصرية اللبنانية التي تشغل شقة واسعة في الدور الثالث. زرت هذه المكتبة بحثاً عن مؤلفات الدكتور حامد عمار أستاذ علوم التربية الشهير على المستويين العربي والدولي، الذي يحمل عن جدارة لقب (شيخ التربويين العرب). ومن أحدث الكتب التي صدرت للدكتور حامد عمار كتاب عن (مواجهة العولمة في التعليم والثقافة). وكنت قد اشتريت في وقت سابق مذكراته التي نشرها في هذه الدار بعنوان (خطى اجتزناها بين الفقر والمصادفة إلى حرم الجامعة). وهي رائعة من روائع أدب السيرة الذاتية. وتعرف صناعة النشر في مصر تطوراً مطرداً، على الرغم من الارتفاع الحادّ في أثمنة المواد المستخدمة في الطباعة. ومما يؤكد أن الكتاب في مصر بخير، كثرة دور النشر الجديدة، ليس في القاهرة فحسب، وإنما في مدن أخرى لم تكن من قبل تعرف هذا النوع من النشاط التجاري. ويمثل مشروع (مكتبة الأسرة) الذي تشرف عليه السيدة سوزان مبارك، قرينة الرئيس المصري محمد حسني مبارك، نموذجاً للمشاريع الثقافية الناجحة. ففي إطار هذا المشروع الثقافي الحضاري الراقي، صدرت عشرات الآلاف من الكتب وزعت منها الملايين في جميع ربوع مصر بأسعار زهيدة في متناول جميع الفئات. وكلمة (الملايين) هنا تعبر عن واقع الحال، وليست من الألفاظ التي تفيد الكثرة فقط. إذ لأول مرة توزع الكتب في دولة عربية بالملايين. وقد دخل مشروع (مكتبة الأسرة) سنته العشرين، وهو جدير بأن يقتدى به في الدول العربية جميعاً. وحبذا لو تبنت صاحبة السمو الملكي الأميرة للا سلمى، هذا المشروعَ الثقافيَّ في المغرب، لأن النجاح الكبير والمدهش الذي يعرفه مشروع (مكتبة الأسرة) في مصر، يعود أولا وقبل كل شئ، إلى الدعم الكبير الذي توليه له قرينة الرئيس المصري، وإلى إشرافها الشخصي المباشر عليه. زرت سور الأزبكية الذي تعرض فيه الكتب المستعملة. وهو موقع ثقافي تابعت التغيرات التي طرأت عليه على مدى أربعين عاماً، منذ أن كان على أطراف حديقة الأزبكية عند ميدان الأوبرا. وهذا هو موقعه الأول، ومنه استمد الاسم الذائع الشهير(سور الأزبكية). ثم انتقل إلى موقع الدرَّاسة (بفتح الدال وتشديد الراء) عند مدخل مستشفى الحسين القريب من الأزهر (المبنى القديم لجامعة الأزهر)، وبعد ذلك انتقل إلى موقعه الحالي قريباً من ميدان العتبة عند المسرح القومي، بجانب محطة الميترو. ولقد تعودت على التجوال بين أكشاك سوق الكتب المستعملة، حيث أجد دائماً ما أريده من المجلات القديمة مثل (المقتطف) و(الرسالة) و(الهلال) و(الثقافة)، والأعداد التي تنقص مجموعتي الخاصة من (كتاب الهلال) و(كتاب اقرأ) وسلسلة (أعلام العرب)، إضافة إلى كتب سمعت عنها أو قرأت ملخصات لها ولم أجدها في المكتبات. الكتب المعروضة في أكشاك سور الأزبكية هذه المرة، جلها من إصدارات (مكتبة الأسرة)، والإقبال عليها شديد، ومن فئات مختلفة، مما يؤكد أن الكتاب في مصر بخير، وأن القراءة طبع أصيل في الشعب المصري. ركبت الميترو من محطة 26 يوليو إلى محطة المظلات في منطقة أغاخان، وهي مسافة طويلة، فكان أول ما لفت نظري، أن نسبة كبيرة من الركاب من الذكور والإناث، ومن الكبار والشباب، تقرأ. بعض هؤلاء يقرأ واقفاً. دفعني الفضول إلى التدقيق في عناوين الكتب، فوجدت أنها متنوعة. فقلت في نفسي: (إن مصر بخير). ذلك أن الشعب الذي يقرأ هو شعب يعشق الحياة، ومن يعشق الحياة لا يفقد الأمل، مهما تكن قساوة الحياة وجهامة الظروف وسوء الأحوال الاقتصادية. فهذه كلها عوارض طارئة وحالات عابرة. في مقهى (جروبي) المقابل لميدان سليمان باشا، كنت أشرب قهوتي في الصباح الباكر، وأمامي على المائدة رزمة من صحف اليوم. ولفت نظري أن امرأة عجوزاً تتناول فطورها قبالتي، تحدق بين الحين والآخر في رزمة الجرائد والمجلات الموضوعة أمامي. فرأيت أنه من المجاملة أن أتوجه إليها بالتحية، فردت عليّ بمثلها، ثم أردفت قائلة في أدب آسر: (هل تسمح بالاطلاع على بعض من هذه الجرائد؟). واكتشفت فيما بعد، ولم يكن أحد سوانا في هذا المقهى الفسيح الجميل الذي افتتح منذ أكثر من قرن (1905)، أن هذه السيدة الطاعنة في السن امرأة مثقفة قارئة متابعة، وأنها تغادر شقتها باكراً مرتين في الأسبوع، وتقصد إلى (جروبي) لتتناول فطورها، ثم تعرج على أحد الأكشاك لشراء ما ترغب في قراءته من الجرائد والمجلات الأسبوعية، قبل أن تعود إلى شقتها. هذا النوع من النساء العجائز المحب للقراءة، لا نعرفه في بلادنا العربية، باستثناء مصر. وهذه ظاهرة صحية من الظواهر الحضارية التي تنفرد بها أرض الكنانة. الجو الثقافي في مصر يعكس الحالة العامة التي تسود البلاد. على الأقل هكذا أفهم الأوضاع في أرض الكنانة، ومن هذه الزاوية أنظر إليها. ذلك أن الرؤية الثقافية إلى الأمور تكون غالباً رؤية شفافة، كشافة، تتغلغل إلى الأعماق. إن مصر تتعرض اليوم لهجوم إعلامي وثقافي، وهجوم سياسي، بل وهجوم إرهابي يستهدف زعزعة الاستقرار وتمزيق النسيج الاجتماعي الوطني. ولكن مصر ثابتة، مستقرة، راسخة في ثباتها واستقرارها. ومن مظاهر ذلك أن مصر ماضية في طريقها، تبني من الداخل وتبني من الخارج أيضاً. والبناء، لا الهدم، هو المنهج الذي اختارته، لا تأبه لهذا الصراخ والضجيج والأصوات الناشزة التي تملأ سماءنا العربية صخباً عنيفاً وسحباً كثيفة، تحجب عنا الرؤية الصحيحة السليمة إلى الذات، وإلى المحيط، وإلى العالم من حولنا. هكذا وجدت مصر، يعاني شعبها من الضائقة الاقتصادية، نعم، ولكنها شامخة، عزيزة الجانب، راسخة الأركان، تمضي إلى الأمام واثقة الخطى.