واكب الصحفي الفلسطيني زكي شهاب وهو أحد أهم الصحفيين العرب أحداث منطقة الشرق الأوسط طوال ثلاثين عاماً، ومن مؤلفاته «داخل المقاومة في العراق». ولد زكي شهاب في مخيم اللاجئين الفلسطينيين. واهتم بالقضية الفلسطينية، مما أهله لكتابة هذا الكتاب الذي نقدمه هذا الأسبوع، وعنوانه «حماس من الداخل، القصة غير المروية عن المقاومين والشهداء والجواسيس» وقد صدر عن الدار العربية للعلوم ناشرون ويتألف من 288 صفحة من القطع الكبير. يعرض زكي شهاب، في هذا الكتاب، لظروف نمو حماس وتطوّرها، وتغاضي اسرائيل عن تأسيسها، لأنّها كانت تسعى إلى إضعاف حركة فتح. ويرفع شهاب النقاب عن مدى اختراق أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لصفوف الحركة، وحتى على أعلى مستويات قيادتها. كما أنه، ومن خلال إجرائه مقابلات مع شخصيات مهمة رئيسية، مثل الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي وآخرين يلقي الضوء على طبيعة حركة حماس من الداخل، ويكشف للمرة الأولى، كيفية اختيار الشهداء وتحضيرهم لتنفيذ عملياتهم. ويسلك شهاب مسارات الأنفاق في غزة، ويحتسي الشاي مع أفراد عائلات القادة العسكريين، ويعيد إحياء علاقات قديمة مع أشخاص عرفهم في لبنان. وقد ترجم هذا الكتاب إلى لغات عدة. يبدأ المؤلف حديثه عن حماس بتسجيل انطباعاته عن وصولِه إلى القدس، حيث يقول: «انتابني شعور غامر: لم أكن أصدّق أنني وصلت! أخيراً، وصلتُ إلى القدس! قرّرت النزول في فندق «أمريكان كولوني» لوجوده في القدسالشرقية، أي في الجانب الفلسطيني من المدينة. وكان زملائي قد نصحوني باختيار هذا المكان الحائز رضى قاصديه من المراسلين الأجانب، تجنباً لإحساس محتمل بعدم الانتماء في المدينة المقدسة. انطلقت فورا في جولة في القدس مع محمد سلهب، وهو صديق كان يسكن في حيّ مجاور لي في غرب لندن، وكان يقيم داخل أسوار المدينة القديمة ويملك متجراً لبيع التحف، على مقربة من المسجد الأقصى. هذا المسجد الذي أدرجته على رأس القائمة التي أعددتها بالأماكن الواجب عليّ زيارتها، يعتبر ثالث الأماكن المقدّسة بالنسبة للمسلمين في كافة أرجاء العالم» (ص14). «كان يوم جمعة، يوم العطلة لدى المسلمين، تحدّى الآلاف من الفلسطينيين، شباباً وشيوخاً، رجالا ونساء، الإجراءات الإسرائيلية التي تمنعهم من الصلاة في المسجد الأقصى. خلال تجوالنا في الأزقة المزدحمة بالناس، أثار محمد دهشتي وفضولي بجمعه كل صحيفة نظيفة أو قطعة من الكرتون يجدها على الأرض. لدى اقترابنا من البوابة المؤدية إلى ساحة المسجد، هالني حجم الوجود الإسرائيلي: كان الجنود ورجال الشرطة يتحققون من هوية كل شخص يدخل إلى المكان. في هذه اللحظة أدركت سبب جمع محمد لتلك الأوراق. فقد فرشها على أرض الساحة كبديل عن سجادة الصلاة. كان الآلاف مثلنا سيصلون في الخارج لأن كل شبر من قاعة الصلاة في المسجد كساه المصلون. أعادتني أفكاري إلى والديّ اللذين طالما حلما بالصلاة في هذا المكان بالذات، حيث كنت جالساً. كان توقهما لأداء الصلاة شديداً للغاية، ما جعلهما يعلقان على جدار منزلنا في مخيم برج الشمالي في لبنان، مجسما ثلاثي الأبعاد لمبنى المسجد الأقصى وقبته الرمز. لم يُسمح لهما بزيارة هذه البلاد منذ نزوحهما في العام 1948»(ص 15). الصديق بوعلام التقى المؤلف بعد ذلك شخصيات فلسطينية بارزة وذلك ما لخّص الحديث عنه بقوله: «بعد وصولي إلى القدس بوقت قصير، دعاني عرفات لتناول طعام الغداء في مقرّه في رام الله، الذي كانت تتخذه سلطة الانتداب البريطانية مركزاً لها، قبل أن يتحول لاحقا إلى مقرّ للإدارة المدنية الإسرائيلية في الضفة الغربية، ثم استقرّ فيه عرفات، فرتب مكتبه على الطراز نفسه الذي اعتمده في كافة مقرّاته السابقة في المنفى: ملصق للمجسد الأقصى خلف طاولة مكتبه حيث تتكدس أكوام من الأوراق والفاكسات، وطاولة ضخمة تستقبل عند كل وجبة طعام عددا من المستشارين وملتمسي الطلبات والزوار. لن أنسى أبداً تعبير الفرح الذي ارتسم على وجه عرفات عندما قبلني وعانقني بحرارة ورحّب بي قائلا: أهلاً بك في فلسطين». بعد الغداء، جلسنا وتحدثنا على انفراد، كان على وشك المغادرة إلى المملكة العربية السعودية لمقابلة الملك الراحل فهد بن عبد العزيز، وطلب مني الانتظار في غزة إلى حين عودته بعد ثمان وأربعين ساعة. أتيح لي في قطاع غزّة، وعن قرب، رؤية حشود النساء الفلسطينيات اللواتي يتجمّعن في محاذاة مكتبه المطلّ على شاطئ غزّة، لطلب العون المادّي أو أي نوع آخر من المساعدة. كان عرفات أشبه بالطفل في تعبيره عن حماسته بشأن كل ما مصدره من غزّة. هو الذي ولد ونشأ في غزة، كان كلما يدعوني إلى تناول الغداء أو العشاء على مائدته يقول لي مثلا: أليس سمكُ غزة أفضل ما تذوقته في حياتك؟ التقيت أيضا، وجهاً لوجه، بالشيخ أحمد ياسين وبالدكتور عبد العزيز الرنتيسي. كان الرنتيسي الشخصية الأكثر نفوذاً في حركة حماس في ذلك الوقت، واحتلّ المكانة الثانية على مستوى القيادة بعد الشيخ ياسين. عندما كانت تسنح لي فرصة مكالمتهما عبر الهاتف، كانا يتحفظان في أجوبتهما، أما الآن، هنا، في منزليهما، وأنا أبادلهما الحديث عن مشاريعهما وأهدافهما، سمحا لنفسيهما بالمزيد من صراحة الكلام، وقدّما لي شرحاً مسهباً عن المنظمة السرّية التي يسعيان لإنشائها» (ص16). «كانت تلك زيارتي الأولى إلى هناك أولا، لتغطية وقائع الوفاة الغامضة لياسر عرفات، ثم اغتيال كلّ من الشيخ ياسين والرنتيسي» (ص17). الانتخابات: ثم يخصّص المؤلف فصلا لتحليل سياسي للنصر الذي حققته حماس في الانتخابات الفلسطينية الوطنية. ويؤكد أولا أنه كان نصراً غير متوقع لدى أمريكا، وإسرائيل، وخصوم حماس. «اليوم الذي جرت فيه الانتخابات الفلسطينية في 25 كانون الثاني/ يناير من العام 2006، شهد مشاركة 1073000 فلسطيني في الاقتراع، التقيتُ خلاله الدكتور محمود الزهار، أحد قادة حماس المرموقين. هو طبيب عين لاحقا وزيراً للخارجية في أوّل حكومة تشكلها حركة حماس بقيادة إسماعيل هنية. خلال احتسائنا الشاي في منزله في وسط مدينة غزّة، ابتسم لي «أبوخالد»، كما يُلقب، وأخبرني بأن حماس قد استعدّت بشكل جيّد لهذه الصّدمة المزعومة. خلال الأشهر الستة التي سبقت موعد الانتخابات، عمل الموالون للحركة مع قاعدتهم الناشطة، على إبقاء الجميع، بمن فيهم مؤيدي فتح وحماس، على غير علم بالفوز المخطط له. وكشف لي الزهّار كيف تلقّى الناخبون من عناصر الحركة وأنصارها تعليمات بأن يتفادوا الإجابة، إذا استطاعوا، في حال ما إذا سُئلوا عن مرشحهم المفضل. ولكن إذا أحرجوا بسؤال حثيث وملح، فليعطوا جوابا مضللا. هذا الأداء أوقع مستطلعي الرأي، قبل أشهر من الانتخابات، في فخ التكهن بأن فتح ستتولى مرة جديدة تشكيل الحكومة المقبلة» (ص 20). ويضيف المؤلف موضحا الظروف التي تم فيها الإعداد لهذه الانتخابات: «بعد عودتهم الى القاهرة من غزة، تولى قادة حماس تعيين فريق لإدارة الحملة الانتخابية، مؤلف من خبراء في مجالات الاتصالات وعلم الاجتماع والسياسة والاقتصاد. كلف أعضاء هذا الفريق بالإمساك بزمام الأمور في كل المجالات الحيوية داخل المجتمع الفلسطيني، واتخذوا من الجامعة الإسلامية في غزة حجر الزاوية لاستراتيجيتهم الانتخابية. تمثلت أولى مهامهم بتقسيم الناخبين الى ثلاث فئات: المؤيدون والمترددون والمنافسون. حظي المترددون بأقصى درجة من الانتباه لأن واضعي الاستراتيجية التابعين لحماس اعتبروا أن غالبية الناخبين تقع في هذه الخانة. لم تكن خطتهم تقضي بإقناعهم بالقبول بسياسات حماس بل إبراز مساوئ سياسة منافسيهم. من خلال استغلال تاريخ فتح في سوء الإدارة والحكم والفساد... استطاعوا إقناع العدد الكافي من المترددين بالتصويت لصالح مرشح حماس. ومن الفئات التي عمل الناشطون في حماس بجهد لاستدراجها أيضا فئة الشباب. ولهذه الغاية، استخدموا مجددا سجل حكومة فتح في شقه المتعلق بالبطالة المتفاقمة والوضع الاقتصادي السيء والفساد والحاجة الى الشفافية في الحكم، من أجل إقناع هذه الشريحة بالتصويت لصالح التغيير» (ص 23). فكيف كان وقع الصدمة على إسرائيل؟ «فوز حماس كان له وقع كبير على الحملات الانتخابية الإسرائيلية، بحيث قام سياسيو المعارضة بصب جام انتقاداتهم على الحكومة، لفشلها في منع وصول الحركة الإسلامية الى موقع متقدم» (ص 27). يصور المؤلف كيف كان أثر نتيجة هذه الانتخابات على كل من حماس وفتح: «على الرغم من يومه الحافل والصاخب، أصر الزعيم الجديد لحماس على أن أبقى والمصور الذي يرافقني لمشاركته طعام الغداء مع ابنه وشقيقه، فطلب وجبة جاهزة من الدجاج بالأرز يمكن اعتبارها بمثابة وجبة احتفالية. خلال الغداء، عرض لي هنية رؤياه لمستقبل حكومته، وعبر عن ارتياحه وسعادته لحسن سير الانتخابات، وهو أمر لقي الثناء في كل أنحاء العالم، ونوه به الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر الذي كان مشرفا على فريق المراقبين الأجانب. في الساعات الأولى من يوم 26 كانون الثاني/ يناير، كان كل شيء قد انتهى بالنسبة الى فتح. حجم خسارة الحركة كان هائلا وساحقا. فامتنع الجميع عن الإجابة على الاتصالات، وأطفئت الهواتف الخلوية. غابوا عن السمع إلى أن حلت ساعات بعد الظهر، فبدأوا يقلبون الأجوبة التي سيقدمونها لعائلاتهم وأصدقائهم وأتباعهم ومويديهم في ما يتعلق بأدائهم كحماة للقضية الوطنية». قبل الانتفاضة يستعرض المؤلف، بعد ذلك، أطوار نشأة ونشاط الزعيم الروحي لحركة حماس الشيخ الشهيد أحمد ياسين، وأثر الحركة الإسلامية المصرية (الإخوان المسلمون بقيادة الشهيد حسن البنا) في إنشاء حماس. يقول: «لكن بعد عام 1967، عندما اقتنصت إسرائيل غزة من مصر، أصبح نظير منظمة الإخوان في فلسطين أكثر نشاطا، فدأب على نشر إيديولوجيتها وعلى زيادة تأثيرها داخل المجتمع الفلسطيني. لقد نجح في إنشاء جمعيات خيرية وتأسيس مدارس دينية وحضانات للأطفال عادة ماكانت مرتبطة بالمساجد، اتسع نطاق هذه النشاطات أكثر فأكثر في العام 1973، عندما أنشأت منظمة الإخوان وغيرها من المجموعات الإسلامية المويدة لها، جمعيات إسلامية في غزة والخليل ونابلس والقدس. ملتزما أفكار وتعاليم منظمة الإخوان، أسس الشيخ ياسين جمعية إسلامية في العام 1976، برزت الحاجة الى قيام مؤسسة أكبر وأفضل تنظيما، لترويج القيم الإسلامية داخل المجتمع الفلسطيني، الأمر الذي يعتبره الإسلاميون مرتبطا ارتباطا عضويا بمقاومة إسرائيل. في ذلك العام ساهم ياسين في إنشاء مؤسسة أخرى أطلق عليها اسم «المجتمع الاسلامي». (ص 39). «كان من المفترض أن تتركز نشاطات المجمع الإسلامي، وفقا لما تحدده رخصته، على الرياضة، لكن عمليا، ووفقا لما اعترف به ياسين، «أننا ننشر رسالة الإسلام، نحفظ القرآن، نبني المساجد والمدارس والعيادات الطبية». عندما أدرك الإسرائيليون طبيعة الأعمال التي التزم المجتمع القيام بها، فرضوا قيودا قوضت نطاق المسموح بممارسته. رغم ذلك، سرعان ما أصبح المجمع أكبر مؤسسة في غزة». «لم تتوفر لدينا فعليا البنية التحتية الضرورية لتنفيذ عمليات عسكرية»، كما شرح ياسين في لقاء معه في منزله في محلة جورة الشمس في كانون الثاني/ يناير 1999. «لكن في الثمانينيات، كانت قد زادت قوتنا وبدأنا بتجميع السلاح. العديد منا سجن بسبب ذلك، ولكن عند إطلاق سراحنا عام 1985، كنا قد طورنا استراتيجية مجددة المعالم. حضرنا أنفسنا وبدأت الانتفاضة». (ص 41). بعد ذلك، وصف مؤسس حماس، في مقابلة صحفية أجراها مع المؤلف، مسيرة تطور حركته وفقا لأربع مراحل محددة بوضوح. تمثلت المرحلة الأولى ببناء مؤسساتها فتشكلت اللجان الخيرية والاجتماعية التي فتحت أبوابها للصغار والكبار، أي لكل من هو قادر على لعب دور في مقاومة المحتل. كانت هذه مقدمة لمواجهتهم العدو الاسرائيلي في الانتفاضة التي أكد الشيخ ياسين أن حماس أطلقتها لوحدها، من دون أي مساهمة من الفصائل الفلسطينية الأخرى، في المرحلة الثانية، جرى العمل على ترسيخ جذور المقاومة داخل كل معقل في الضفة الغربيةوغزة، وعلى تعزيز مصداقيتها السياسية. في المرحلة الثالثة، تطورت قدراتها العسكرية، فارتقت من فعل الرشق بالحجارة وإطلاق زجاجات ألمولوتوف، الى استخدام الأسلحة والقنابل اليدوية ومتفجرات أخرى. وكما قال ياسين «أي شيء قد يؤرق الإسرائيليين» في المرحلة الأخيرة، تجاوزت حماس البعد الفلسطيني وأرست قواعد حوار مع جيرانها العرب والإسلاميين، لأنه، ودائما وفقا لياسين، فإن «عدونا يستدعي مواجهة من قبل قوة أفعل، والحصول على دعم دولي هام بالنسبة إلينا». وأعلن أن القضية الفلسطينية «يجب أن تذهب أبعد من شعارات منظمة التحرير الفلسطينية»، الأمر الذي ذكر الدول العربية والإسلامية بضرورة دعمها القضية الفلسطينية (...) كانت حماس تنظر الى نهج عرفات على أنه متهور، على اعتبار أن القضية الفلسطينية هي أيضا قضية عربية وإسلامية. (ص 42). ثم يتساءل المؤلف: هل أطلقت حماس الانتفاضة أم أنها تفاعلت معها؟ ويجيب: «كل من كان معنيا بالسياسة الفلسطينية حاول أن يستحوذ على فضل إطلاق الانتفاضة في أواخر الثمانينيات. في ذلك الوقت، كانت منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الأردنية على خلاف عميق. لقد أراد كل منهما أن يقدم تفسيره الخاص عن الانتفاضة. فادعت منظمة التحرير الفلسطينية أنها هي من أطلقها بغية الاستئثار بالشرعية التي كانت الحركة تحظى بها، فيما هدفت الحكومة الأردنية الى إنكار أي علاقة للانتفاضة بمنظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تصفها بالهامشية، حتى تواصل ادعاءها أنها الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، أو على الأقل، الممثل الوحيد لهؤلاء المقيمين في الضفة الغربية. أراد ياسين أن يعطي الانطباع بأن حركته لعبت دورا قياديا في الأيام الأولى للانتفاضة. فقد أصر على أنه هو بنفسه كتب البيان الذي أطلق الانتفاضة في 14 كانون الأول/ ديسمبر 1987، بعد أسبوع من بدايتها، ووقعه بحروف «ح.م.س»، أي التصغير العربي لحركة المقاومة الإسلامية «لم يخطر ببالي آنذاك أن هذه الحروف تمثل لفظة أخرى باللغة العربية»، كما سيتذكر ياسين «لكن، مع صدور بياننا الثالث، اقترح إخواني في النضال أن نسمي أنفسنا «حماس»، منذ ذلك الحين صار هذا اسم حركتنا». (ص 48-47). تسمية الأقسام قبل قيام الانتفاضة، كان كل جناح من أجنحة حماس يعمل بشكل مستقل عن الآخر، دون تمتع أيّ منها بأسماء أو أجندات محدّدة. بعد الاجتماع التأسيسي في 8 كانون الأول/ديسمبر 1987، باتت تلك الأجنحة منضوية ضمن هيكلية تنظيمية موحّدة وقد خصّص كل واحد منها بوظائف معيّنة تشمل مجالات السياسة والاتصالات والأمن والشباب والانتفاضة والسجناء. أُسِّسَ الجناح الأخير بعد ارتفاع ملحوظ ومثير للقلق في أعداد الأعضاء المعتقلين في السجون الإسرائيلية، فيما حظي جناح الانتفاضة بالمقام الأرفع. إنتهج هذا الجناح سياسة التحفّظ في الكشف عن العمليات العسكرية حماية للمقاتلين وحصر ادّعاءات المسؤولية بإشارات مموّهة إلى هذه المهمّات في نشراته الداخلية. أمّا جناح الشباب أو الأحداث، فتم تأسيسه في بداية الانتفاضة لتوفير أقصى درجات المشاركة من قبل العموم في الإضرابات والتظاهرات وتم تأسيس جناح الإعلام قبل انطلاق الانتفاضة، ولكن على إثرها، أصبح هذا الجناح أكثر نشاطاً. فقد تولى مهمة كتابة الشعارات وإصدار بيانات باسم القيادة تغطي بالتفاصيل أخبار الانتفاضة في الضفة الغربية وغزّة، وتمرّر معلومات عن واقع الأمور للمراسلين المحليين والصحافيين الأجانب. في العام 1983، شكل الشيخ أحمد ياسين الجناح العسكري الذي أنيطت قيادته حينها بصلاح شحادة، وسمّي هذا الجناح «المجاهدون الفلسطينيون» وضم مجموعة من الخلايا المترابطة بشكل وثيق. تحوّل قتال الشيخ عزّ الدين القسّام ضدّ الاحتلال البريطاني مصدر إلهام لحماس في معركتها الخاصة ضدّ قوات الاحتلال الإسرائيلي. وقسّمت حماس تنظيمها إلى وحدات قيادة منفصلة عن بعضها بعضاً. كل واحدة منها تتكفل بإتمام وظائف عدّة، تماما كما فعل القسّام الذي اعتمد اسمه كنية لجناح حماس العسكري. تعرّضت قيادة حماس لضغوط مارسها عليها المنضوون الجدد في الجناح العسكري. فقد أصرّ هؤلاء على بدء المواجهة ضد إسرائيل في حين كانت القيادة متردّدة خوفاً من تكرار تجربتها السابقة غير النّاجحة، المتمثلة باعتقال معظم أعضاء القيادة، ما كاد يتسبب بالقضاء على ا لحركة. شكلت علاقة حماس بالقيادة الموحّدة للانتفاضة بزعامة ياسر عرفات عائقاً أساسيا في وجه حماس النّامية. أصبحت هذه العلاقة متشنّجة بعدما وجدت فتح أن حماس تقف في الموقع المنافس لها، وأنها تحظى بدعم الكثيرين. إندلعت الصراعات بين أنصار فتح وحماس في مختلف المدن الفلسطينية. ووفقا لصلاح شحادة، فقد وقع العديد من الأحداث التي كادت أن تؤدي إلى انهيار الانتفاضة وتمنح إسرائيل إمكانية السيطرة على الوضع. وتحدّث المؤلف، بعد ذلك، عن كتائب عز الدين القسام، ورجالها، وجهادهم، ونموّ المنظمة، والدور العظيم الذي أدّاه «المهندس» يحيى عياش صانع القنابل والمتفجرات «كانت مجزرة الخليل الحافز وراء تصعيد عياش حملته المناهضة لإسرائيل. (...)لقد شعر عياش بالغضب الشديد، جرّاء المجزرة، وأقسم أمام رفاقه بأنّ انتقامه سيشعر كل الإسرائيليين وحكومتهم بندم عميق، فردّ على هذه المجزرة المروعة في 6 نيسان / أبريل من العام 1996. يومها أصبح رائد زكارنة أول استشهادي من حماس. فقد حمل عبوة ناسفة جهزها عياش، إلى محطة للحافلات في «العفولة» وفجّرها، ما أدّى إلى مقتل ثمانية إسرائيليين وجرح أربعة وأربعين آخرين. عياش الذي حزن لخسارة رائد، وإن قدم خدمة للقضية، تعهّد بأن هذه العملية ستكون جزءاً صغيراً من المخطط الشامل الذي أعدّه. وعلى خلفية ذكرى الأربعين لمجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل، أطلق عياش العنان لسلسلة من الهجمات المتتالية. بعد استشهاد عياش حُمل نعشه عالياً فوق بحر جامح من المؤيدين الذين قدّر عددهم بربع مليون شخص. كان قادة حماس يتعرّضون الواحد تلو الآخر للاغتيال، بمن فيهم الأب المؤسس لحماس، الشيخ أحمد ياسين، والعديد من إخوانه مثل الدكتور الرنتيسي وصلاح شحادة وإبراهيم المقادمة والدكتور إسماعيل أبوشنب، إضافة إلى عدد كبير من الأعضاء في الحركة. لكن هذا الأمر لم يحد من نشاطها ولم يقوّض جناحها العسكري. فالمنظمة السرية التي كانت قد بدأت عملياتها في 1 كانون الثاني/يناير من العام 1992 بمجموعة صغيرة من المقاتلين الشباب المسلحين برشاش قديم فقط لاغير، تمكنت أن تبرهن للعالم بعد أربعة عشر عاماً، أنها قادرة على إنتاج أسلحة متطوّرة وأساليب حربية عديدة لمواجهة الجيش الأفضل تجهيزاً في الشرق الأوسط. الجواسيس يرى المؤلف أنّ حركة حماس لم تنجح في تطوير قدراتها الذاتية وتوسيع نطاق عملها ولم يتمكن جناحها العسكري من تفعيل قدرته على تنفيذ العمليات العسكرية. فقد نجحت الاستخبارات الإسرائيلية في خرق أجهزة الحركة، من خلال دس عملاء في صفوفها، ومخبرين داخل المجتمع الفلسطيني. «خطط صانعو الاستراتيجية الإسرائيلية للقضاء على قادة حماس النافذين والمؤثرين جماهريا، لما لهم من دور في الحفاظ على تماسك الحركة. فتمت تصفية صلاح شحادة والشيخ ياسين والمهندس وعبد العزيز الرنتيسي، بناء على معلومات استخباراتية وفرها عملاء فلسطينيون. لقد كشفت روايات هؤلاء العملاء عمق الخرق الذي حققته الاستخبارات الإسرائيلية، وطبيعة الأساليب والتكتيكات التي استخدمتها أجهزتها الأمنية، طوال ثلاثة عقود من الوجود الإسرائيلي في غزة، وفي ظل الاحتلال المستمر للضفة الغربية، لتجنيد فلسطينيين. وتقدّر المنظمات الأمنية الفلسطينية عدد المتعاونين مع إسرائيل خلال هذه المدّة بما يزيد على عشرين ألفاً. على إثر الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزّة، اضطر كثيرون منهم للجوء إلى داخل إسرائيل خوفاً من التعرّض للانتقام، فأقاموا في قرى بنيت خصيصاً لإيوائهم (ص93). الرغبة الجامحة في الاستشهاد لعل ما حققته إسرائيل من اختراق لحماس أتى نتيجة عمل استخباراتي دؤوب وإصرار متماد لامثيل له في العالم. إلا أنّ تفاني مقاتلي كتائب عز الدين القسام في خدمة قضيتهم حال دون نجاح إسرائيل في الحدّ من ظاهرة الاستشهاديين المنتمين إلى حماس. فمن غير الممكن إهمال عنصر الاندفاع الذي ميّز هؤلاء الشباب في أي تقويم لفعالية أداء حماس العسكري. في العام 1997، نفذت عملية استشهادية لم يتبناها أي من الأجنحة العسكرية المعنية عادة في مثل هذه العمليات، أكانت كتائب القسّام أم كتائِب الأقصى أم الجناح العسكري للجهاد الإسلامي. لقد أثارت هذه العملية البلبلة لأن منفذها كان قد بدّل انتماءه، منتقلا من صفوف الجهاد الإسلامي إلى الجناح العسكري لحماس. أما السبب الذي حدا به لترك منظمة الجهاد الإسلامي فكان بسيطا للغاية: نظراً للعدد الكبير من المقاتلين الراغبين بالاستشهاد، المسجلة أسماؤهم قبله على لائحة الانتظار، صمّم الشاب تقريب تنفيذ مهمته، فبانتقاله إلى صفوف حماس، ضمن إمكانية تحقيق أمنيته بالاستشهاد قبل سواه من إخوانه السابقين في الجهاد الإسلامي.