ذ. محمد السوسي تحدثنا في الحديث الأخير عن الوضعية الاجتماعية المتدنية التي تعيشها المجتمعات الإسلامية رغم ما تتوفر عليه دولها من الإمكانيات الطبيعية والمالية والاقتصادية، كما تحدثنا عن الجهود التي بذلها القادة والدعاة والمصلحون من أجل صياغة نظرية اقتصادية من خلال ما راكمه الفقهاء والعلماء المسلمون من تراث فكري وعلمي، ومن خلال التعاليم التي جاء بها الإسلام، وخلصنا في الحديث إلى تساؤل هل هناك من علاج فيما خلفه الأجداد، وما كان سببا في سعادتهم وتحقيق العدالة الاجتماعية فيما بين الناس، ووعدنا بالبحث ومحاولة اقتراح بعض الأمور ان لم تكن علاجا لعل فيها بعض معالم العلاج. لقد عالج القادة والمصلحون أوضاع الأمة الإسلامية كما أشرت في الحديث الماضي وكان الجميع ينتظر ان يأتي الاستقلال لتتحرر الأمة من الفقر والعوز والظلم، ولكن عدنا إلى واقعنا القديم هذا الواقع الذي عبر عنه الشاعر محمد إقبال في قصيدته (شكوى) والتي جاءت تعبيرا عن واقع الأمة آنذاك والذي لا يزال قائما ويقول فيها: قد هاج حزني ان أرى أعداءنا بين الطلا والظل والألحان ونعالج الأنفاس نحن ونصطلي في الفقر حين القوم في بستان وفيها يقول: ملأ الشعوب جُناتها وعُصاتها من ملحد عات ومن مغرور إذا السحاب جرى سقاهم غيثه واختصنا بصواعق التدمير هذه الأبيات كما قلت جاءت في قصيدة شكوى لمحمد إقبال وهو يصور فيها ما يعيش فيه الغرب من نعيم وسعة العيش والحرية وما يعيش فيه المسلمون من بؤس وحرمان، ويتساءل من خلال القصيدة أهذا ما تستحقه الأمة وهي التي جاهدت وقاتلت وضحت من أجل نشر دعوة التوحيد، والوصول بالإسلام إلى ما وصل إليه من فتوحات وبناء الحضارة التي تعتبر من أزهى الحضارات وأقواها بين الحضارات التي عرفتها الإنسانية. وفي هذه القصيدة يقول مخاطبا الملأ الأعلى عاقبتنا عدلا فهب لعدونا عن ذنبه في الدهر يوم عقاب ويتضرع: أشرق بنورك وابعث البرق القديم بومضة لفَراشك الظمآن وفي جواب شكوى التي اعتبرها جوابا من السماء للشكوى التي انتقد فيها ما يعانيه المسلمون من محن وأهوال وشقاء كما مر، يتصور إقبال أن الأمر سبب ذلك هو فساد أخلاق المسلمين وتخليهم عن القيم والمثل التي جاء بها الإسلام: فالجواب قد جاء واضحا: هذا ما دونه محمد إقبال وكثيرا مثله في بداية القرن الماضي، وهو يتحدث عن أحوال الإسلام والمسلمين، وان أوضاعهم جاءت نتيجة لتصرفاتهم التي حادوا بها عن النهج القويم، حيث أهملوا الأسباب التي كانت منشأ قوتهم وعزتهم وأصبحوا في وضعيتهم تلك التي وصفها شعرا ووصفها غيره نثرا. وكان الأساس الذي انطلق منه نقدهم لهذه الحالة هو أن الفرع ليأخذ حكم الأصل يجب ان يتساوى معه في العلة إذ الحكم يدور مع العلة وجودا و عدما حسب تعبير الأصوليين، ولذلك فإن شروط استعادة المجد القديم هو أن يكون الخلف على منهج السلف، في الثوابت التي انبنت على قواعد من السنن التي أوجدها الله في الكون، والتي بدون التقيد بها والالتزام بأحكامها لا يمكن تحقيق التقدم والرخاء، وتحقيق الرفاه والعدل الاجتماعي، لذلك فإن دعاة النهضة وأعمدتها من القادة والمصلحين سعوا بكل ما أوتوا لتعيد الأمة سيرتها الأولى، وان يتجه المسلمون إلى ماضيهم التليد، لا ليبكوا على أطلاله، ويشيدوا بها جامدين لا يتحركون، ولكن ليستلهموا ويندفعوا لا يلوون على شيء من أجل بناء مجد جديد، وفق قواعد العصر وسنن التطور والتقدم، لأن بدون الأخذ بما يأخذ به الناس من الأسباب لا يمكن تحقيق أي شيء. الرأي ليس شريعة ويمكن أن نقول انه من حسن حظ الأمة ان لها مثالا يمكن أن تحتديه وتسير على نهجه، هذا النهج الذي هو نهج قويم وسليم، وعلى هذا الأساس يمكن أن نقول إن هذه الأمة لها قدوة يمكن أن تأخذ بنهجها وتسير على هديها، ولقد أشار القرآن إلى هذا فقال جل من قائل «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر» وإذا كان الاقتداء بالرسول أمرا مطلوبا من الناس فإن الرسول في مجال تحقيق العدل الاجتماعي من أفضل وأحسن ما يتأسى به الإنسان ويقتدي، لأنه ضرب المثل الأعلى في تحقيق العدالة بين الناس بقطع النظر عن كل شيء ويمكن هنا أن نشير إلى أمرين اثنين وهو انه صلى الله عليه وسلم حضر حلف «الفضول» الذي اقر فيه العرب حماية الضعيف والأخذ بيده وهذا قبل بعثته صلى الله عليه وسلم ولما بعثه الله أشاد بهذا الحلف وقال لو دعيت إليه في الإسلام لأجبت، والأمر الثاني هو تلك الوثيقة التي وضعها صلى الله عليه وسلم بمجرد دخوله المدينة مهاجرا. والافتداء لا يعني جمودا دون الاجتهاد وإعمال الرأي فقد كان أبو بكر وعمر وهما من هما في الاقتداء يجتهدان رأيهما ولا يرون في ذلك بأسا وفي اجتهادهما يعتبران الرأي رأيا وليس شريعة ولا حكما يلزم الغير، فقد ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب كاتبا له في مسألة هذا ما رأى الله ورأى عمر فقال له بئس ما قلت، اكتب هذا ما رأى عمر فإن يكون صوابا فمن الله وان يكن خطأ فمن عمر، تم قال السنة ما بين الله ورسوله لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة. العدالة الاجتماعية والديمقراطية وعمر رغم اجتهاده وتمسكه بالرأي فإننا نجده في مسألة السواد بالعراق (السواد هو تلك الأراضي الزراعية التي آلت إلى المسلمين بعد فتح العراق) يلتزم الشورى. وتمثل هذه القضية معلما بارزا في التزام الخلفاء الراشدين بمصلحة الأمة والأجيال المقبلة منها، ويمكن أن تستفيد الدول الإسلامية التي تملك ثروات طبيعية ومعدنية من نفط وغيره وتستنزفها ليتحرك اقتصاد دول أخرى وتنفق إيرادات هذه الثروات في التبذير والنفقات الهامشية أو حتى استثمارات محدودة الأفق اقتصاديا دون ان تفكر في مصير الأجيال المقبلة، مع ان هذه الثروات إذا روعي التدبير الجيد فيما تدره من مال وأرباح يمكن ان تضمن المستقبل الجيد للأجيال المقبلة، هذه الأجيال التي ستجد نفسها في يوم من الأيام وجها لوجه أمام صعوبات اقتصادية ومالية أكثر وأشد مما هو حاصل الآن، ولو أن الحكومات التي يعنيها الأمر تأملت ما قام به عمر في هذه النازلة سواء من حين أسلوب الذي سلكه حيث استشار ذوي الرأي من المسلمين قبل ان يقدم على تنفيذ ما اعتبره مصلحة للمسلمين، ثم نفذه حين استوثق من تأييد أهل الحل والعقد من الأمة إذا لم يكن الجميع فالأغلبية منهم ويكون من المفيد ونحن نتحدث عن القدوة لتي يجب أن يعطيها المسؤولون من أنفسهم أن نتابع النص التالي الذي رواه أبو يوسف في كتاب الخراج يقول: «... وحدثني غير واحد من علماء أهل المدينة، قالوا: لما قدم على عمر بن الخطاب جيش العراق من قبل سعد بن أبي وقاص؛ شاور أصحاب رسول الله صل الله عليه وسلم في تدوين الدواوين. وقد كان اتبع رأي أبي بكر في التسوية بين الناس، فلما جاء فتح العراق، شاور الناس في التفضيل ورأى: أنه الرأي، فأشار عليه بذلك من رآه، وشاورهم في قسمة الأرضين التي أفاء الله على المسلمين من أرض العراق والشام، فتكلم قوم فيها، وأرادوا أن يقسم لهم حقوقهم وما فتحوا. فقال عمر: فكيف بمن يأتي من المسلمين؟ فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت وورثت عن الآباء وحيزت. ما هذا برأي. فقال له عبد الرحمن بن عوف: فما الرأي؟ ما الأرض والعلوج الا مما أفاء الله عليهم. فقال عمر: ما هو الا كما تقول، ولست أرى ذلك والله لا يفتح بعدي بلد فيكون فيه كبير نيل، بل عسى أن يكون كلا على المسلمين. فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها، وأرض الشام بعلوجها، فما يسد به الثغور، وما يكون للذرية. والأرامل بهذا البلد وبغيره من أرامل أهل الشام والعراق؟. فأكثروا على عمر، وقالوا : تقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا، ولم يشهدوا ولأبناء قوم، ولأبناء أبنائهم ولم يحضروا. فكان عمر رضي الله عنه لا يزيد على أن يقول: هذا رأيي. قالوا فاستشر. قال: فاستشار المهاجرين الأولين، فاختلفوا. فأما عبد الرحمن بن عوف فكان رأيه: أن يقسم لهم حقوقهم. ورأي علي، وعثمان، وطلحة: رأي عمر رضي الله عنه. فأرسل إلى عشرة من الأنصار، خمسة من الأوس، وخمسة من الخزرج؛ من كبرائهم واشرافهم. فلما اجتمعوا: حمد الله واثنى عليه بما هو أهله، وقال: اني لم أدعكم إلا لأن تشركوا في أمانتي فِيمَا حُمِّلْتُ من أموركم، فاني واحد منكم، خالفني من خالفني، و وافقني من وافقني، ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هو هواي. معكم من الله كتاب ينطق بالحق فوالله لئن كنت نطقت بأمر أريده؛ ما أردت به إلا الحق. قالوا: قل، نسمع يا أمير المؤمنين. قال: قد سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا اني أظلمهم واني أعوذ بالله أن أركب ظلما، لئن كنت ظلمتهم شيئا هو لهم، وأعطيته غيرهم: لقد شقيت. ولكن رأيت أنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى. وقد غنمنا الله أموالهم، وأراضيهم، وعلوجهم، فقسمت ما غنموا من مال، أو رثة بين أهله، وأخرجت الخمس، فوجهته على وجهه.. . وقد رأيت: أن أحبس الأرضين بعلوجها، وأضع عليهم فيها الخراج، وفي رقابهم الجزية يؤدونها، فتكون فيئا للمسلمين؛ للمقاتلة والذرية، ولمن يأتي من بعدهم. أرأيتم هذه المدن العظام كالشام، والجزيرة، والكوفة، والبصرة، ومصر لابد لها من أن تشحن بالجيوش. وإدرار العطاء عليهم. فمن أين يعطي هؤلاء، إذا قسمت الأرضون والعلوج؟. فقالوا جميعا : الرأي رأيك، ونعما قلت وما رأيت. ان لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال، ويجري عليهم ما يتقوون به؛ رجع أهل الكفر إلى مدنهم. فقال: قد بان لي الأمر. فمن رجل له جزالة وعقل يضع الأرض مواضعها، ويضع على العلوج ما يحتملون؟ فاجتمعوا له على عثمان بن حنيف، وقالوا: تبعثه إلى أهم ذلك؛ فان له بصرا وعقلا وتجربة. فأسرع إليه عمر، فولاه مساحة سواد العراق. هذه القصة أو هذا المحضر المتضمن للقرار الذي اتخذه عمر في وقف أرض سواد العراق. ويمكن من تدبر النصر الخروج بكثير من الفوائد والملاحظات نقتصر منها على: 1 – الالتزام بالشورى مع ذوي الرأي من الأمة الإسلامية مهاجرين وأنصار وإنفاذ الرأي بعد ذلك. 2 – ان عمر لا يقول هذا شرع الله ولكنه يقول هذا رأي رآه ويبحث له عن سند وموافقة لدى المسلمين. 3 – ان الأموال المتداول حولها هي مما غنمه المسلمون ولكن عمر مع ما لديه من سلطة تقديرية «أمير المومنين» رأي المصلحة في وقفه. 4 – أن عمر أوقف ذلك للاستثمار من أجل تقوية وتنمية مداخل الدولة للإنفاق على الجيوش وحماة الثغور حالا واستقبالا. 5 – ان عمر استشار حتى في رجل يصلح لتولي مهمة الإشراف على هذا الوقف وقبل اقتراح من استشارهم. 6 – التفكير في الأجيال المقبلة وقد أشرت إليه سابقا بشيء من التفصيل. 7 – ان عمر عندما استشار انطلق من كونه حُمِّلَ أمانة تدبير شؤون المسلمين ويريد من هؤلاء ان يعينوه بالرأي لا أن يتركوه وحده على عكس المستبدين من حكام المسلمين. 8 – أن هؤلاء لم يتخلوا عنه بالرأي وتأييده بعدما اقتنعوا بوجهة نظره وسداد رأيه. هذه الملاحظات وغيرها مما يمكن استخلاصه تفضي إلى نتيجة أساس ومحورية في موضوعنا وهو أن للقضاء على الأزمة الاجتماعية والاقتصادية يجب التوفر على قيادة حكيمة تتصف بفضيلة الشورى والديمقراطية وتكون قدوة في السلوك القويم ونظافة اليد، والابتعاد عن محاباة الأقارب والمحاسب وغير ذلك وهو أمر مع الأسف لا نكاد نجده في القيادات في المجتمعات الإسلامية، ومن هنا نخلص إلى أن انعدام القدوة الحسنة سبب أساس من أسباب تبذير الثروات وإنفاقها على غير وجهها الصحيح، ولعل الحديث المقبل يتناول جانبا من جوانب المؤثرة في الأزمة الاجتماعية في العالم الإسلامي.