لا يزال العالم يراوح مكانه تجاه الأزمة المالية التي نزلت بثقلها وابعادها الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية طبعا ولا تزال الدول والحكومات تغذي المصارف والمؤسسات المالية بمآت الملايير من الدولارات ومع ذلك فالكل يتوجس ويخاف مما يحمله المستقبل من أزمات أشد، وما يتبع ذلك من عواقب في مجال النمو الاقتصادي ومجال التشغيل والحفاظ لبعض الناس على ما الفوه من رفاه وللآخر على الأقل المتوفر الذي يسد به الرمق، إذ مع كل صباح ومساء تنعقد المؤتمرات واللقاءات وتصدر البيانات والتصريحات مهدئة للأوضاع وهي تارة شبه متفائلة وفي الغالب متشائمة وأصبح الناس يرون من يقدر عدد من سيفقدون موارد العيش بالملايين خلال الشهور والأيام المقبلة والى حين ان يجد الناس المعنيون من حكومات وهيآت اقتصادية دولية وإقليمية وجهوية الحلول الناجعة نتابع في حديث الجمعة موقف رجال الشريعة والاقتصاد من النقود والربا ودور المعاملات الربوية في الدورات التي يعرفها الاقتصاد العالمي. في الحديث الأخير من هذه الأحاديث تحدثنا عن الربا وموقف الشرائع السماوية من التعامل به وتحريمه من كل تلك الشرائع ووقفنا عند موقف القرءان الكريم والحديث الشريف من كل معاملة فيها الربا كان خفيا او جليا دون أن ندخل في تفصيل أقوال العلماء في ذلك، كما اقتبسنا بعض أقوال علماء الاقتصاد من الغربيين الذين لهم صيت عالمي في مجال الاقتصاد والمال وسنواصل الكلام من حيث انتهينا، ولكن قبل ذلك أود تصحيح آية اندمج بعضها في بعض في حديث الجمعة الأخير وهو اقحام (يا أيها الذين آمنوا) قبل قوله تعالى (الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس). وإذا كان الربا انما يتأتى بالدرجة الأولى من المعاملات المصرفية وفي التعامل بالنقود. والسيولة النقدية الآن هي لب الأزمة الحالية كما كانت دائما هي محور الأزمات السابقة إذ الأزمة الحالية ليست هي الأزمة الأولى ولن تكون الأزمة الأخيرة إذا استمر تعامل الناس بالربا المحرم وما يترتب عليه من استغلال الناس بعضهم لبعض وامتصاص البعض لدماء البعض الآخر فطبيعة الرأسمالية التي يقولون انها لن تنتهي وإنما هم بصدد إصلاح وضعها وتجديدها الانتقال من أزمة لتنتهي إلى أزمة أخرى بعد ذلك وفي هذا الصدد يقول الدكتور (لبيب شقير) في كتابه تاريخ الفكر الاقتصادي ص164: » عرفت الرأسمالية الصناعية، منذ أخذت في النمو والازدهار، أزمات متتالية، كان النشاط الاقتصادي يتحول عندها من الزيادة والارتفاع الى الهبوط والركود، وقد بدأت هذه الأزمات منذ بداية القرن التاسع عشر، على اثر انتهاء حروب نابليون. ففي كل من السنوات: 1810، 1814 ، 1825 ، 1836، 1847 ، 1857، 1864 ، 1873 ، 1882 ، 1890 ، 1900 ، 1907 ، 1913 ، 1920 ، 1929، حدثت أزمة في بلد أو أكثر من البلاد الرأسمالية النامية، وكانت لا تلبث أن تنتقل عدواها إلى البلاد الرأسمالية الأخرى. وكانت الأزمة دائما بدءا لركود أهم ما كان يلاحظ فيه ظهور البطالة بين العمال وتزايدها، وتستمر تلك الحال حتى يأخذ الركود في الانتهاء، ويعود الاقتصاد من جديد للانتعاش، فيزداد النشاط لاقتصادي، وتقل البطالة شيئا فشيئا«. نلاحظ من خلال هذا السرد التاريخي للأزمة انها تقع أزمة اما كبيرة أو صغيرة خلال كل عقد من الزمان ويمكن ملاحظة ذلك من خلال القرن العشرين وبالأخص العقود الأخيرة منه وهذا الوضع هو الذي يجب البحث عن علاج له ولا يمكن العلاج إلا بأساليب ووسائل ليست هي نفس الأساليب والوسائل التي أدت إلى الأزمة. وهذا هو ما يحاول الدكتور محمود أبو السعود ان يطرحه من خلال نظرية النقود المزكاة ومن طبيعة الحال فان الدكتور أبو السعود ينطلق من وضعه باعتباره أستاذ للاقتصاد ومستشارا اقتصاديا لعدد من الحكومات الإسلامية والعربية ومؤسسات دولية وسنعود لمرافقته واستكمال وجهة نظره في دور الربا والنقود في الأزمات الاقتصادية. إن مشكلة العالم الاقتصادية هي أنه يعاني أولا وقبل كل شيء من تلك القوة السحرية التي تسمح لممسك النقود بفرض جزية على المتعاملين، وليس لذلك مدلول سوى أننا نسمح للنقود بأن تستعمل في غير ما خلقت له، ولم تخلق النقود كما كررنا القول إلا لإتمام الصفقات، ولن تتم الصفقات إلا إذا أعقب كل بيع شراء بيع، والنقود _ وخصوصا الورقية منها _ من صنع المجتمع وتستمد معظم قوتها من السلطان _ والسلطان إرادة المجتمع نفسه _ فإذا أسيء استعمال النقود فعلى السلطان أن يتدخل معاقبا المسيء. وعليه أن يضمن حسن استعمال هذه الوساطة الحيوية لرفاهة المجتمع، فإن قصر ولي الأمر وقبل المجتمع هذا الأمر فلا يلومن إلا نفسه، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه. الربا والجزية الحديثة ولقد عجز علماء الاقتصاد عن تبرير (الفائدة) وهي ليست إلا (الجزية) التي تحدثنا عنها وبينا أسبابها، ولم يجرأ على مهاجمتها إلا قليل منهم وإن كانوا في طليعة الاقتصاديين المحدثين، وبالرغم من أن المقرر هو أن انخفاض سعر الفائدة أمر ملازم للتقدم الاقتصادي فما زال هذا السعر مرتفعا تارة منخفضا أخرى، وقد عجز الاقتصاديون في بعض الحكومات الغربية مع أنهم يبذلون الوعود بذلك والسر في عجزهم في نظر أبي السعود هو أنهم لم يدركوا أن الفائدة ناشئة عن معنى النقود الخاطئ وقوتها المستمدة من الوهم والخيال وسوء الاستعمال. فإن أرادت البشرية أن تتخلص من آفاتها الاقتصادية فليس أمامها إلا أن تستمع وتنصاع إلى قانون الفطرة الطبيعي وإلى منطق البديهة القرآني، وإنما قدمناه من شرح للأوضاع الاقتصادية يشير إلى ما قدمه في كتابه من أفكار ونظريات يمكن الرجوع إليها لمت أراد ليبين بكل جلاء أنه لو أرغمت النقود على خدمة المجتمع، ولو اضطر البائع إلى الشراء، ولو ظل الطلب مجبرا على الاستمرار في إشباع الرغبات ولو ظلت النقود دائما في التداول، وظلت سرعتها في تزايد يوازن بين مجموع الطلب الفعلي والعرض الفعلي، عند السعر العادل ... نقول لو جعلت النقود مسودة لا سيدة وسخرت لما جعلت من اجله لجردت من قوتها وحرمت من حق سيادتها ولما استطاعت فرض جزية أو اقتضاء فائدة ربوية . يجب أن لا يسمح بإمساك نقد ... فذلك اكتناز. ويجب أن لا تتداول النقود بالنقود ... فذلك منهي عنه ومنطق سقيم. ويجب أن لا تدفع للنقود فائدة ... فذلك ظلم وربا حرام. ويجب أن لا تكون للنقود قداسة ... فذلك مدعاة للشرك الخفي. ويجب أن لا تكون النقود سيدة للإنسان ... فالإنسان سيد المخلوقات. ولكن ما السبيل إلى ذلك كله؟ ليست النقود المزكاة سوى النقود الخالية من الآفات السالفة، وبعبارة مختصرة هي: النقود التي لا تحتمل الاختزان ولا تطلب الفائدة. يقرأ المرء آيات الزكاة والصدقات والحث على الإنفاق، ويستمع إلى أحاديث محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام يحدد أركان هذا الدين ويجعل الزكاة أحدها، ويستعرض آراء الأئمة والفقهاء المجتهدين فلا يجد خلافا في أن الزكاة من دعامات الإسلام الحنيف ، ولئن ترك الشكل الظاهر للزكاة من غير تحديد دقيق فلا شبهة لدينا في أن حقيقة الزكاة مقررة واضحة ومعالمها ظاهرة بينة، وما علينا إلا أن نتمسك بهذه المبادئ الراسخة ونتطور بالوسائل حسب التطور الحضاري، فنحقق أهداف هذا الدين الحنيف ونتبع أمر الله والرسول. يقول تعالى في كتابه الكريم (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون). وهناك العديد من الآيات تنهى عن إمساك المال والحض على إنفاقه، يقول الحق تبارك وتعالى (آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) ويقول (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية) ويقول (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) ويقول (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) ويقول (لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما أتاه الله، لا يكلف الله نفسا إلا ما أتاها، سيجعل الله بعد عسر يسرا). إني لأقرأ هذه الآيات الكريمة وكأني أرى نورا يشع هاديا إلى الحق: (آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) هذا المال هو عطاء الله يجب أن ينفق، لا لمجرد الإنفاق، ولا لمصلحة الآخرين فحسب، ولكن لمصلحتنا نحن المنفقين » وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون« » وما تنفقوا من خير فلأنفسكم« والاكتناز عاقبته عذاب أليم والله يأمر عباده الذين آمنوا أن يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقهم سرا وعلانية، والإنفاق هنا مرادف للزكاة بلا مراء، وهو جل شأنه يأمرنا أن ننفق في سبيل الله ولا نلقي بأيدينا إلى التهلكة، وفي عدم الإنفاق هلكة للفرد والمجتمع لا محالة فلا بد من الإنفاق، فليتفق ذو سعة من سعته، أي لينفق الغني من غناه، وأما الفقير الذي قدر عليه رزقه فلا بد أن ينفق أيضا بأمره سبحانه وتعالى، لينفق مما آتاه الله، لينفق من القليل الذي بيده.. يجب أن يظل المال أبدا في التداول، ولن يظل كذلك إلا بالإنفاق.. إنفاق الغني والفقير، الإنفاق الدائم للنقود هو المنجاة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. المال وسيلة. وإذن فيجب ان لا يستعمل غاية، لذلك يتفق الإسلام مع الديانتين المسيحية واليهودية في تحريم الربا أضعافا مضاعفة. وحينما يقول الناس: (انما البيع مثل الربا) يجيب القرآن بأن الأمر كذلك لو ترك الناس وفقا للطبيعة دون اعتداد بما تقتضيه الإنسانية ن مراعاة الحقوق وعدم أكل أموال الناس بالباطل، ولكن الرحمة الإلهية تأبى أن تترك الغني يستغل الضعيف، فلذلك (أحل الله البيع وحرم الربا). ويقول الغزالي: »ان معاملة الربا ظلم لأن الدراهم والدنانير خلقا لغيرهما لا لنفسهما. إذ لا غرض في عينهما. فإذا اتجر في عينيهما فقد اتخذه مقصودين على خلاف وضع الحكمة: إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم، ومن معه ثوب فهو معذور في بيعه بنقد آخر ليحصل النقد فيتوصل به إلى الطعام، فهما وسيلتان إلى الغير وموقعهما في الأموال كموقع الحرف من الكلام كما قال النحويون: ان الحرف هو لذي جاء لمنى في غيره، وكموقع المرآة من الأوان فأما من معه نقد فلو جاز له أن يبيعه بالنقد فيتخذ التعامل على النقد غاية عمله لبقي النقد متقيدا عنده وينزل منزلة الكنوز. وتقييد الحاكم والبريد الموصل إلى الغير ظلم كما أن حبسه ظلم، فلا معنى لبيع النقد بالنقد الا اتخاذ النقد مقصودا للادخار وهو ظلم». وهكذا نرى فيلسوف الإسلام يوضح الغاية من تحريم الربا، وهي عدم استجماع المال وادخاره وامتلاك البنوك وصناديق الحديد له دون ان تعم الاستفادة منه في الأمة، فلكي يحال بين الوقوع في هذه الأزمة، أزمة الادخار، حرم الإسلام الربا. وفيما هو واقع اليوم من تكديس المثل القومي في البنوك وعدم استفادة الأمة منه دليل عملي على صدق الديانات في تحريم الربا. هذا النص في النقد الذاتي استدل به كذلك الأستاذ علال الفاسي في مقاله الذي نشره في نهاية الخمسينات من القرن الماضي في مجلة دعوة الحق ثم نشر ضمن كتاب المذاهب الاقتصادية بعنوان (الإسلام ونظرية (جيسل) حول التداول النقدي) وسنحاول في الحديث المقبل ان نلم بالأفكار الأساس لهذه النظرية وكيف عالج الإسلام الموضوع مقارنة مع المقاربة التي عبر عنها (جيسل) وليس المهم من هي النظرية السائدة أو التي تفرض نفسها إذ المهم في الدراسة هو صوابية النظرية وقدرتها على إيجاد الحلول أو المساهمة في إيجادها اما ان تكون السيادة لنظرية معينة رغم خطائها أو مخاطرها فذاك أمر آخر إذ طالما قاوم الناس الحق إذا كان لا يساير أهواءهم وعبر المفكرون عن هذه المفارقة: مفارقة جعل القوة حقا عند العجز على جعل الحق قويا.