ها هو اليوم أمير جد سعيد بتواجده على الشاطئ، يقضي وقتا طيبا، يسبح في مياه دافئة و جو صاف.ِ متناسيا أيامه الروتينية التي يعيشها طوال الوقت. لم يكفه ذلك، بل قرر الغوص وحده بعيدا عن عيون العامة التي لم تكن تلاحظه حتى، لكنه أراد ان يكون حرا.. فعل ما عزم عليه دون كثير تفكير، كان هدفه آنذاك إرضاء فضوله الذي يتمحور حول ماهية الشعور باحتضان الطبيعة دون رقابة الآخرين ؟. شرع بالإلتحام مع مياه المحيط و أمواجه رفقة إحساس لم يسبق له أن عاشه من قبل، راق له كثيرا.. و لم يقو على مقاومته، لذلك لم يرغب في العودة إلى البر أبدا. عشق لحظاته.. و كأنه يسبح بين السحاب في أعالي السموات ضاربا عرض الحائط كل الحواجز التي تمنعه من أن يعيش لحظته الخيالية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فجأة، انكسر ذلك الحلم الجميل عندما تلقى صفعة مؤلمة من السحاب الذي هو بينه .. من موجة قاسية، عاتية آلمت وجهه و جعلته يشعر بالدوار. بينما يحاول أمير تدارك الأمر و استيعاب ما يحدث. إذا بأخرى تصفعه مجددا كأنها تريد الإنتقام لأنه اغتصب عذرية مياهها. يغرق أمير في حريته التي اشتهاها قبيل دقائق، قاصدا قعر المحيط و مستسلما لأمر واقعه. فاقدا للقوة لدرجة أنه لا يستطع تحريك يديه حتى، حينها استحضر عقله ذكريات حياته كلّها في صور مرّت أمامه في ثوان معدودة، أدرك حينها أنه في لحظات عمره الأخيرة. عَلِم أنه الرمق. بعد برهة.. فقد الوعي، و بدأت أنفاسه تنقطع و إذا بأمير يتذكر أول شيء ... أيام طفولته. الطفولة البريئة التي عاشها، لم تكن بالسعيدة، لأن كل طفل أو جلّهم يعيشها بين كلا والديه، و هو عاشها مع والدته فقط التي سهرت و عانت لتربيّه، موفرة له كل شيء بمقدورها أن تقدمّه. لم يغفل ذهنه عن استحضار ذكريات أمه التي انتحبت طيلة الليالي الشتوية الباردة، و لم يكن يغمض لها جفن حتى ينام، و لم تتغذ حتى يأكل بل و لم ترتشف قطرة ماء حتى قدمت له كل ما اشتهى ! يتذكر أول أيامه في المدرسة الإبتدائية، ذاك اليوم الذي لا يُنسى !! كل طفل يمسك والديه بشدة ليتخلص من الفكرة المزعجة التي طالما تخيلها تظهر فجأة من زوايا ممرات المدرسة. يد أمير اليسرى لا يمسكها أحد. فقط اليمنى التي تدفئها أمه بحنين طيباتها. بعد أن قبّلته على خذّه، تركته ليخطو خطوته الأولى نحو طاولته التي ستلازمه طوال العام. إنه في قاعة الدرس. طبعا ستود المعلمة معرفة وظائف الآباء (لتعرف مع من تتعامل) ، هناك من يجيب أن والده شرطي، و الآخر مهندس ، و من في آخر القاعة يجيب أن أباه دكتور. جاء دور أمير ليجيب فقال : "والدتي أستاذة" . ردت المعلمة بأن سؤالها كان عن ربّ البيت، و ليس الوالدة. أجابها بأن والده لم يتمكن من أن يكون ربّ البيت، فقامت أمه بالدور. انتقلت ذاكرته إلى عيد مولده حيث غمر محيطه الجميع، فرحا ببلوغ عامه التاسع، يلتقط صورا طوال الحفلة كأنه يخلّد ذكرى وحدانيته رغم الاكتظاظ حوله، صراخ هنا و ضحك هناك و جري في الأعلى. حتى حانت اللحظة الأهم، تلك اللحظة التي تحتاج أهم شخصين في حياتك أن يكونا أمامك كي تطفئ شموعك، إذا بأمير يشعر بأنفاس أمّه تشجعه على إطفاء شموعه التسعة في أقصر وقت ممكن. أزاح نظره إلى الجهة الأخرى.. لم يجد العنصر المكمل لصورة العائلة المثالية، فارتسمت على محياه ابتسامه ممزوجة بالفرح لحضور الجميع و خيبة أمل لغياب الأهم. فأغمض عينيه متمنيا أن يحضن والده تلك الليلة ، بالرغم من إدراكه أن ذلك لن يحدث . بينما يقترب أمير إلى قعر المحيط اصطدم رأسه بشيء لم يدرك ما هو ؟ ربما بقايا باخرة غرقت مذ عقود.. المهم أنها كانت السبب في إبداء جسده لردّة فعل وهبت الحافز لعقله الباطني لكي يستعيد ذكريات خليلته ميساء، تلك الحسناء الرقيقة. استقرت ذاكرته على يوم كان برفقتها، متأملا جمالها و مستنشقا رائحتها. لم ينسى تفاصيل خصلات شعرها التي كانت تتطاير على وجهها الملائكي. كانا يكتبان على ورقة واحدة أسمى العبارات الرومانسية التي لم يسبق لقيس و ليلى ، أو جميل و بثينة أن نطقا بها يوما. عنت له كل شيء، كانت كيانه .. كانت نصفه الثاني. بل يتذكر نفسه و هو يناديها بتوأم روحي، كان يعدها بالزواج بل و غيّر أهدافه ليعمّر برفتها، لكن وضعه الراهن صعب جدا. تلك الأحلام التي بناها في شهور تنهار أمامه بسرعة البرق في ثوان. استسلم للموت، فقد الرغبة في الحياة ... بل أبى العودة. فجأة .. سمع صوتا يخاطبه من حلكة المحيط الأجاج، لم يميّزه أو عرف صاحبه . إنه صوت حياة جديدة تنادي و يقول "ليس الآن يا أمير لن تفارق الدنيا هذه اللحظة." فكان ذلك الصوت كحافز و ربما قوة، أو شحنة كهربائية أحيت جسده من جديد. قرر أنه لن يلقى حتفه حينها و بتلك الطريقة .. قوت عزيمته، و شرع بالتجديف نحو زرقة المياه الدافئة بشعاع شمس الأمل الذهبية. بلغ السطح، فأخذ نفسا عميقا كُتِبَت مع أوكسجينه صفحة بيضاء. أضحى يسبح بكل قوة يملكها آنذاك، واضعا صوب عينيه رمال البر ليصلها... و ما هي إلا دقائق من الصراعات مع قلة الحيلة و عنفوان الجزر حتى وصل بر الأمان، متطلعا لحياة جديدة. سمّا ما عاناه داخل أنياب الموت ... "بين الرمق و العودة".