14نهاية عطلة المهرجان وبداية الدراسة في يوم الاثنين ،وخلال فترة الاستراحة الصباحية كانت ساحة المدرسة تعج بالتلاميذ الذين لم يكن من حديث يشغلهم سوى الحديث عن المهرجان وكل تلميذ بيده بعض المفرقعات أو اللعب التي استقدمها منه، فهاهي ملاك الآن تتباهى ببعض الصور التي التقطتها رفقة بعض الأطر والسحرة المرموقين في حين أن التلميدة شيطا تتباهى بكونها استطاعت أن تأخذ صورة على متن بغلة القبور. فصاحب بغلة القبور ينتقل من مهرجان لآخر لاستئجار بغلته للراغبين في أخذ تلك الصور مقابل بعض القطع النحاسية، ومن هنا نفهم ما قاله مجنون عيشة عندما عاتب صاحبه قائلاً:(( وله فيها مآرب أخرى)) . كانت البغلة تنتفض في الصورة وتوهوه حتى أن ملاك لم تستطع أن تأخذ تلك الصورة بين يديها. وظهر عاشور شاحب الوجه وقد احترق شعر رموشه وحواجبه و السبب هو انه طفق يشتغل قريبا من مقلة الإسفنج!.وكان يجد نفسه مجبراً على الاقتراب من الموقد بين الفينة و الأخرى، إلا أنه كان مسروراً بمجسم صغير لتنين أهداه إياه أحد أصدقاء أبيه، ظل التنين ينفث النار بين الفينة والأخرى والتلاميذ يبتعدون عنه ويقهقهون ،استغل (جهبور) فترة الاستراحة وشرع يغرس بعض الشتائل التي استقدمها معه من المهرجان وهو يفتخر على أنه يعمل على تنويع المغروسات بحديقة المدرسة ،وإن بدت بعض أشجار الحديقة غيورة من الفسائل الجديدة، ويتباهى كذلك بأن هذه الفسائل أهدتها له (الأم تريزا) وقد باركت له عمله هذا. لم يكن بوجا حاضرا بالساحة رغم انه تماثل للشفاء و رغم أنه بإمكانه الآن متابعة دراسته فمادامت الشهادة الطبية تخول له البقاء في منزله حتى اكتمال فترة النقاهة، فمن الأحسن أن يبقى في حجرته فالطبيب أدرى بما يفعله لم يفكر أحد من أصدقائه في زيارته، رغم أنهم علموا بالإصابة والسبب هو عقدة القفص. حتى أنه يتذكر أن التلاميذ كانوا يبتعدون عنه كأنه مجذوم، وحتى عندما يسأل أحدهم عن شيء لم يفهمه، فان ذلك المجيب كان يحرص على الإجابة بصوت مرتفع وهو مبتعد منه! عرف أن الشهادة الطبية تمنحه حق متابعة دروسه عبر الشبكة السحرية . صفق راحتيه فظهرت على الحائط شاشة واسعة تظهر فيها الصور بأبعادها الثلاثة وبدأ يحرك فأرة الحاسوب ليتابع درس مادة التشفير ،حيث بدأ التلاميذ يدخلون وهم يجمعون لعبهم في محفظاتهم ، عضته فأرة الحاسوب ،و تذكر أنه نسي تعويذة التلطيف، رددها وهو يخيط جرح أصبعه بلسانه ، وبدأ يتابع الدرس غير آبه لذلك وهو يشاهد على شاشته الأستاذة شفورة ضفدوعة وهي تبدو منهكة وتعبة . وقفت من على مقعدها واتجهت نحو السبورة ، وتثاءبت ورددت:« درسنا اليوم سيكون هو التدرب على القيام بعمليات حسابية ذهنية في أسرع وقت ممكن. إذن فليقم كل واحد منكم بجمع عددين مختلفين، يتكون كل واحد منهما من رقمين في البداية.وعندما يرى أنه تمرن على ذلك، فلينصرف إلى جمع عددين يتكون كل واحد منهما من ثلاثة أرقام ثم من أربعة، وقفوا عند هذا الحد، فلا أريد إجهاداً ولا أدمغة تحترق، ونفس الشيء أفعلوه مع القسمة والضرب والطرح... هل فهمتم؟. لديكم نصف ساعة من التمارين، وفي النصف الآخر منها، سوف نرى من استطاع أن يقوم بأعقد العمليات بطريقة سريعة.و إذا وجدت منكم من هو جديرٌ بالاهتمام ،فإنني سأساعده للمشاركة في المباريات الخاصة بالدخول إلى موسوعة موغا للأرقام القياسية» . ظل هذا هو الأسلوب المميز للأستاذة في عملها فهي دائما تحث التلاميذ على الجد والاجتهاد بطرق تحفيزية، وساد الصمت وبدأ التلاميذ يركزون كما لو أنهم يمارسون درسا من دروس "اليوغا".إلا شيطا التي شرعت تحول أصابع يدها إلى أقراص وخشيبات إذ يبدو أنها تعاني من ضعف كبير في هذه المادة ،جلست الأستاذة فوق مكتبها ودفنت وجهها بين كفيها لبضع ثوان ، ثم فتحت محفظتها وبدأت تخرج كتبها وتضعها فوق المكتب :"تاريخ الجنيات السبع"، "السيرة الذاتية للقاضي زوبعة"،"الطرق الست للخياطة السحرية"،الميثاق التعاضدي للساحرات الشقيات". وأخيرا كتاب" أناشيد مالدورو" الذي ينتمي إلى كتب العامة ،أنا لست متفقا مع ملاك التي تقول الآن ما معناه: إن اهتمام الأستاذة بالكتب السوريالية، هو تجل لظاهرة العدوان لديها، وأنها تستأنس بهذه الكتب للتخفيف من وطء العذاب والتعاسة التي تعانيها من قدرتها"الأنيماجوسية"،على التحول إلى ضفدعة، فملاك تعتز بانتمائها إلى طبقة السحرة ذوي الدماء النقية وهي ترى أن القدرة على التحول إلى حيوانات أكثر دناءة وحقارة،هي بلية ونقمة أكثر مما هي نعمة. رددت الأستاذة مشمئزة في وجه ملاك:« تابعي تمارينك أيتها البليدة ولا تتطرقين إلى مواضيع تبدو أكبر منك فذهنك مكشوف كما لو كان داخل قنينة زجاج». حدج جهبور ملاك بنظرة وميضية احترقت معها بعض أطراف قميصها،وهو يهددها بشكل مسموع:« أتمنى ألا يحاكمونني هذه المرة بالاشتغال مجانا في بعض دور الأيتام ،كمهتم بجمع حُفَاضات الأطفال فقط لأنني صفعت تلميذةً متعجرفة ، في مثل هذه الحالة أتمنى أن أقوم بجريمة توصلني إلى سجفنارت « . وتابع جهبور توعده وهو يخبط جبهته مع الطاولة. بدأت ملاك ترتعد في مكانها بسبب هذا التهديد، وتابعت بصوت مشروخ:« معذرة يا سيدتي إن الذهن أحيانا يفكر في أشياء دون أن تكون لصاحبه الرغبة في ذلك «. ردت الأستاذة بعد ابتسامة حزينة وخاطفة « حسناً أنا أعرف ذلك...إيه جهبور لا تكن عنيفاُ وثوريا أكثر من اللازم ، أنا معجبة ببعض خصائص شخصيتك ، إلا أنني لا أريد أن يرتكب أحدا بعض الحماقات من أجلي «. ندم بوجا على عدم حضوره هذه الحصة الشيقة، وبدأ يُمني نفسه أنه لو كُتِب له أن يحضرها لحصل على نتائج جيدة ، فقد كانت أستاذته تكلفه والتلاميذ الذين انتخبتهم للمشاركة في المهرجان بتمارين شبيهة بهذه ، وكان غالبا ما يوفق في ذلك، وبدأ بدوره يتمرن على تلك العمليات الحسابية، كان صدوق عاشور يختلس النظر من كتاب "كيف تتعلم السحر في خمسة أيام وبدون معلم!"، و ينتهز فرصة انشغال الأستاذة عنه، ليهيء وصفة تطويل شعر الرأس والرموش .إلا انه غالبا ما كان يفشل في ذلك، فيحصل على شعر بلون آخر.أو رموش من الريش ولم تكن شيطا تستطيع كبت رغبة الضحك عندما ترمقه في هذا الحال أو ذاك. بيد أن ما أثار انتباه بوجا ،هو أن الأستاذة الآن تعاود مراقبة أوراق الامتحان التي كانت قد كلفتهم به في الشهر المنصرم ، وهي تحول نقط هذا الامتحان إلى سجلها الخاص، كلما ضربت مكان النقطة بسبَّابتها. بيد أنها عندما وصلت ورقة امتحانه هو ، لم تكن هنالك أية نقطة ، فقط علامتي استفهام كبيرتان وفتحت الأستاذة ورقة بوجا وبدأت تقرأ الإجابة التي أجاب بها عن السؤال الأول المتعلق بتاريخ الخياطة السحرية ،حيث كان قد كتب :« إن الخياطة السحرية للجروح لها تاريخ عريق ، حتى يحكى أن السحرة القدامى استلهموها من محاكاة بعض الثعابين . فالثعبان الذي يصاب بجرح في ذيله ،غالبا ما يدخل هذا الذيل في فمه ،ويصوم عن الأكل حتى يلتئم ذلك الجرح ويندمل ، ولو اقتضى منه ذلك أن يصوم مدة طويلة، لقد كان العامة في البوادي يعتقدون أن الثعابين إنما تفعل ذلك لتحمي الجروح من هجوم النمل، ومهما يكن فنحن معشر السحرة نعتقد أن الثعابين بفعلها ذاك توفر ظروفا مثالية لالتئام الجرح وهذا هو المعنى الحقيقي للخياطة السحرية «. توقفت الأستاذة عن متابعة المراجعة و بدأت تهز رأسها مثل يمامة استشعرت باقتراب طفل طائش منها و غمغمت في خاطرها:« أنت أيها الأبله.(وارتفع صوتها كالصرخة )، أتعتقد أيها الساذج أني لم أشعر أنك تتجسس علي عبر الشبكة السحرية؟ هيا ابتعد أيها الأبله و إلا حرمتك من متابعة هذا الدرس». ارتعدت فرائصه وشعر بالخجل والخوف، لقيامه بهذا العمل المقرف ،وأحس كأن أذنيه أصبحتا طويلتان كأذني حمار لقد أغواه حب الاستطلاع على نقطة امتحانه ،ليتجسس على الورقة وهي بين يديها ولم يخطر على باله أن الأستاذة ستضبطه متلبسا هكذا. تمنى لو ابتلعته إحدى الحفر ،وأكثر من ذلك فلو حدث له هذا مع أستاذ آخر لكان الخطب هينا شيئا ما ، أما أن يحدث هذا مع الأستاذة شفورة ،التي كان لها فضل كبير عليه فرغم ما سمعه من الطبيب ، رغم ذلك فهو يكن لها احتراما خاصا وحفاظا على ماء وجهه غادر الموقع برمته وحتى يتفادى الاصطدام معها مرة أخرى كذلك . خطر بباله أن يزور المواقع السحرية للجرائد حيث أن معظمهن غطين أحداث المهرجان،بدأ يقرأ الجريدة النصف شهرية "سحر هاروت وماروت "وهي بالمناسبة جريدة يقرؤها قدماء السحرة والمتقاعدون ودوي التكوين الرديء ،وصل بوجا الآن إلى الموضوع الذي يخص قضيته قرأ عند هذا الحد :«بوجا فاز بجائزة المسا يف المثالي ،إلا أنه لن يستطع تسلمها ، ولو تسنى له ذلك لكان مبلغها كافيا، لإرجاع الأموال التي سرقها من خزانة أستاذه،فضيلة الشيخ الأستاذ حربوء بن شراهيا ، ولتمكن كذلك من دفع غرامات المحكمة». تأفف من هذه الطريقة التي تناولت بها الجريدة موضوعه، انتقدها في نفسه كيف يحق لها البث في شيء لم تفصل فيه المحكمة بعد،غادر موقع الجريدة وأبحر تجاه موقع جريدة "سحر النانو" الجريدة اليومية الشهيرة، التي يتابعها جهابذة السحر وفطاحله، فهي تهتم بمستقبل السحر ،وتغطي إنتاج التعاويذ الدقيقة واللعنات المجهرية .الجريدة التي يكتب فيها سَحَرة عظماء من قبيل نجُّوم ترو تسكي كتبت الجريدة في موضوع التسمم :« رغم محاولتها لتغيير الحامض النووي لبوجا وتغيير اسمه لم تفلح قلعتنا في إخفائه عن أعين جواسيس النمرود وجنوده، فهذا الأخير كان قد أرسل أفعى دست آلة سحرية،دقيقة تحت أنف بوجا . فيما يعرف بحادثة الأفعى والضفدعة . لقد كان والدا بوجا بالتربية يعتقدان أن الأفعى كانت تود لدغه وثم فهم العملية على أنها عملية طبيعية مما يحدث عندهم إلا أن الأفعى دست تلك الآلة الدقيقة، وأتقنت عملها بإحكام والتي بواسطتها استطاع عملاء النمرود أن يتعرفوا عليه عندما كان بالمهرجان، فالآلة تبعث إشعاعا سحريا على بعد مأتي ياردة وقد سهلت عليهم محاولة التسميم تلك. التحاليل وحدها ستبين ما إذا نجحوا في تسميمه بالشوكو إنترنيتو ،إدا نجا هذا التلميذ فقد يكون نجا بأعجوبة . وعليه أن يكون حذرا في المستقبل فهو على رأس قائمة المطلوبين وعلى القلعة أن تتحمل ما تتعهد به في بنودها أي حماية المستظلين تحت ظلها». لم ينه قراءة هذا المقال، حتى بدأ يسمع نبضات قلبه، ويمسح نقط العرق التي تنساب من جبينه كالدموع فكر في الانصراف لقراءة مواضيع أخرى، غير أنه استحسن ألا يعرف شيئا آخر ففي بعض الأحيان يصبح الجهل رحمة، حداه شعور غريب حيث بدأ يفكر في فعل شيء ما، لماذا لا يقرأ كتابا ؟ لماذا لا يدون ذكرياته ؟ ضاق صدره فلا يفتأ يفتح كتاباً حتى يغلقه وينصرف لشيء آخر . فكر في تصبين ملابسه وتصفيفها في الدولاب ،بتعويذةٍ سحريةٍ واحدة ، بدأت تجف الملابس والبخار يتصاعد منها .لازال هنالك وقت طويل ،فكر في الخروج إلى الحديقة المجاورة ، خطر بباله أنه إذا شاهده أحد من أساتذته سيقول له:«إيه...أيها اللعين أنت في صحة جيدة ،ولم تأت لمتابعة دراستك ،أنت إذن تتمارض سوف أخصم خمس نقط من معدلك «. والآن فكر في الفكرة الجهنمية التي كان ينتزعها من ذهنه غير ما مرة، وهي الاطلاع على موقع سجفنارت. فإذا كانت كل المؤشرات تشير إلى أنه سيدخل إلى هذا السجن، فمن الأفضل أن يكتسب فكرة ما عنه. فتح الشاشة السحرية شاهد أول صورة، تسجل حارسا عملاقا شبيها بمجنون عيشة. تحولت يده إلى مطرقة كبيرة، وبدأ يخبط رأس أحد السجناء بعدما وضعه فوق سندان أحمر متوهج. والشرر الأخضر يتطاير بعد كل ضربة . لم تكن هنالك دماء تنهمر ،بل كان رأس السجين يتعوج وينضغط كأنه قطعة حديدية حتى أن ملامح الوجه بدأت تختفي ، انسدت عيناه وخرج معجون أبيض من أذنيه ، وبدأ انفه يختفي تحت أسنانه التي أصبحت مشتتة في الوجه كله كأنها بيادق زليجية ملتصقة على سطح سارية. وظل السجين يصرخ بكل قواه وهو يردد:« إذا أضفتم ضربة واحدة ستقفلون أنفي ومسامي، كفوا عن ذلك أيها الجبناء «. إلا أن الحارس استمر يخبطه بشدة، حتى جعله على شكل أسطوانة بحجم قزم. وبدأت الملامح تظهر كأنها مرسومة على الاسطوانة بقلم رصاص . ثم جعله في أنبوب نحاسي و أطبقه عليه والضحية يئن ويطلب النجدة،وأنينه يخفت كما لو ألقي به في بئر عميقة ومده إلى حارس آخر كان قاعدا مقربة موقد ناري، تسمع فيه طقطقات الحطب والأحجار المحترقة ، فزج به الحارس في النار وأنينه الوهِن لا زال يسمع بين الفينة و الأخرى. ثم أجابه هذا الحارس وهو يرش النار بسائل يضاعف من أجيجها وَوَهَجِهَا:« اصبر يا ولدي فنحن نشتغل لمصلحتك...إننا نريد أن نقتل فيك فيروس "الشوغو إنترنيتو"...تجلد يا بني إن عذاب ليلة واحدة لا محالة زائل « . ما إن سمع بوجا هذه العبارة حتى انتفشت شعيرات رأسه وظهره وابتعد عن الشاشة مثلما لو خشي أن تبتلعه ،حقا لقد أخطأ في الإبحار لا شك أنه داخل موقع مستشفى الرازي للأمراض السحرية وليس بموقع سجفنارت. 15عيد ميلاد ملاك مَرَّت ثلاثة أسابيع ،واليوم ستطفئ ملاك شمعتها الرابعة عشرة وقد دأب والداها على دعوة أصدقاء مهمين في القلعة ولإرضاء نجلتهم كذلك فقد اعتادوا على استدعاء زملائها في الدراسة و أساتذتها ، ورغم أن والدها كان على علم بقضية بنته مع بوجا إلا أنه بدأ يقنعها باستدعائه . وهو يذرع الصالون جيئة وذهاباُ، رشف رشفة من ذلك الكأس الذهبي الذي بيده،وألقى به في الهواء ليأخذه عشرة عفاريت كانوا ينتظرون ذلك. وبدأ يتحدث بصوت إلزامي: « أرى أنه من باب الإنسانية ألاّ ندعوَّ زملاءه ونتركه هو، ثم إن قضيته أصبحت مغطاة إعلاميا، وعلينا أن نأخذ هذا بعين الاعتبار». استجابت لرغبة أبيها ،وبما أنها لم تكن قد هيأت الاستدعاء الخاص بهذا الضنين وبعثت به عبر أثير الشبكة السحرية ، فقد اقتطفت ورقة من أغصان شجرة الحديقة التي كانت تتدلى من بعض النوافذ وحولت سبابتها إلى ريشة ، ثمَّ نفخت في الرسالة لتطير نحو حجرة بوجا . تمعن الولد في الرسالة كثيراً وعقرب إرادته يتردد بين الإقبال و التردد، فهو يشعر بالخجل عندما يظهر في بعض التجمعات العمومية بقفصه .إذ طفِقَ دائماً يتمنَّى لو كانت له قُبّعة ُ إخفاء، فكلما مرَّ مقرُبة جماعةٍ ألاَّ و اعتقد أنهم يتداولون قضيته. ومن جهة أخرى ذكَّرته هذه المناسبة بعيد ميلاده هو، فهو لا يعلم اليوم ولا الشهر الذي ولد فيهما. وكلما كان يحدث أمه رقية في الموضوع إلاّ وكانت تقول له:« ولدت في اليوم الذي سقط فيه حمار أيت علال في البئر». وهو بعد ذلك كله يشعر بالراحة والهناء، لأنه بجهله ليوم وشهر ميلاده، يستريح من عادة قراءة الأبراج والإيمان بها. كانت الهواجس تتقاطع في ذهنه وهو يردد تعويذة على البراد .فيحوله تارة إلى مقراج و أخرى إلى مهراز، غير أنه أفرغ ذهنه من تلك الهواجس التي كانت تُشَتِّتُه . وبدأ متضجراً وهو يعوِّذ فتحول البراد إلى مكواة، وبدأ يكوي السروال والقميص اللذان سيحضر بهما. كان القميص متآكلاً من بعض الجهات التي تحتك بقضبان القفص. مرر عليه لسانه فضحك شبح الجدة من ورائه وهو يُنَطِّعُ ساريا على ارتفاع ياردة واحدة :« خياطة جيِّدة لولا تلك الرشوم البادية!». ردَّ عليه دون أن يأبه به:« لا بأس لدي تعاويذ كثيرة لإخفاء الرشوم،ما خطبك ؟». علَّق الشبح بسرورٍ:« أسرع فالضيوف بدءوا يستقرون بمقاعدهم، دخولك متأخراً قد يزيد من انتباههم إليك (ضَحَكَ) عقدة القفص». خمن الوقت الذي سيستغرقه في الطريق مستعملاً قبقابيه. رغم ذلك سيكون من المتأخرين . فكر في قضية الإسراء، تذكر تلك الأيام التي قضاها في الحديقة متدرباً على ذلك. لم يكن يسري أكثر من بضع ياردات حتى يسقط على وجهه. كان يرى الأستاذ عبقور يسري وكان يغريه ذلك حيث كان يعتقد أن أستاذه لم يكن يبذل أي مجهود ... أما طريقة الانتقال الآني التي انتقل بها في المهرجان رفقة أحد الحراس، فلو فكر فيها فسيكون مثل شخص أمي زعم أنه يستطيع قيادة طائرة صفق يسراه على يمناه وهو يردد:« جَلب خريطة . بوشام أخضر ظهرت فوق راحته خريطة القلعة بها عدسة بلّورية تلمع مشيرةً إلى منزل ملاك حيث وجهته وجد أن أقصر الطرق إليه ، يعبر من منتصف الغابة المشئومة . بيد أنه فضل أن يمشي في الطريق الجانبي. فهو لا يعرف المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها بدخوله للغابة المذكورة ، ورغم أنه عبرها معية الحراس ساعة عودتهم من المهرجان ، إلاّ أنهم مسحوا ذاكرته ، حتى لا تعلم الوزارة بخرقهم للقانون من خلاله. وفي المرَّّةِ التي وقع فيها بقفصه أنقذه جنوت . فضل المُضي في الطريق المحاذي لسياجها ، وهو مسلك ضيق يصعب المشي فيه بسبب الصخور المتكورة هنا وهنالك، فما بالك بالانزلاق ، على جهة اليمين تتدلى أغصان الدِّفلى ، تظهر جذورها من تحث مثل أفاعي ملتوية على بعضها ، ومن جهة اليسار سياج الغابة المكون من السدرِ والطلح .حيث يضطر أحياناً لرفع الأغصان حتى لا تتشابك بقفصه. وهو يتذكر عندما وبخته الأستاذة ضفد وعة بخصوص هذا الموضوع . بدأ يشم رائحة غريبة لم يسبق له أن شمَّها، لم يٌعِرها اهتماماً، هو الآن يفكر إلاَّ في هدية لملاك، رمق ورودا جميلة وراء أشجار السِّياج، إذن هذه فرصته سيجمع باقةً منها. تسلّل من بين أشواك السدرِ وهو يتمتم بالسِّحرِ والأشواك تتمايل يميناً وشمالاً لتترك له ممرّاً . ملأ ذراعه بالورود، التي شرعت تتفتح عن أكمامها وتنغلِقٌ، وألوانها تتغير باستمرار. أبصر عصفوراً جميلاً كالعندليب ، كان العصفور يعزف سمفونيةً رائعة سيكون من الأفضل لو أهداه لها، يا لها من هديةٍ متميزة بدأ يتربص به غير أنّ الطائر طار ليحط غير بعيد ، تذكر الطائر الأحمق الذي حدثته عنه الأٌستاذة في بداية السنة ، غير أن رغبةً قوية كانت تدفعه للأمام ، تضاعفت قوة الرائحة التي استنشقها آنفاً. رائحة شبيهة برائحة نبيذ فاسد، لم يشعر متى توغل في الغابة ، اختفى الطائر . فتح خريطته وبدأ يبحث عن أقرب مسلك يقوده نحو فِيلاًّ ملاك. شقّ طريقه عبر أحد المسالك، إلا أن القنافذ السحرية هاجمته، قنافذ كثيرة تتطاير أشواكها كالسهام صوبه،و من ورائها تظهر تلك الضرابين التي كانت سهامها أطول، استعمل قبقابيه بأقصى ما يمكن من السرعة، وهو يسمع صوت الأشواك متساقطة وراءه كالبرَد، انعطف في مسلك آخر اختفت القنافذ إلا أن الرائحة بدأت تتأجج ، بدأ يرى مصدرها إنه الضبع السحري ، كانت شيطا قد حدثته عنه عرضا :« عندما يتبول عليك الضبع السحري تفقد وعيك وتتبعه ضاحكاً ثملاً، دون أن تشعر إلى أن يصل بك إلى وِجَارِهِ أو إلى كمين ما . فكر فيما استرجعه من كلام شيطا هل يستطيع الرجوع إلى الوراء ،رجع بضع ياردات وهو يكلم نفسه:« ها أندا أستطيع الرجوع ، إذن أنا في كامل قواي النفسية « . ثم سار في طريق منحدر، واأسفاه! لقد وجد نفسه مجبراً على عبور طريقٍ يمرٌّ وسط أشجار العناكب ظهر الذعر في عينيه، لقد سمع عن هذه الأشجار أنها تصطاد ضحاياها بطريقة العناكب فما أن يلمسك أحد أغصانها حتى يلتوي عليك. ولن تستطيع فكه حتى يلتوي عليك غصن آخر.ودَّ الرجوع إلاَّ أن المنحدر صُمِّمَ بطريقة يصعب التراجع عبره. اتضحت الرؤية أكثر حيث يرى تلك الأغصان الرقيقة والمتشابكة.و بها ذئاب وقردة نافقة تظهر كالذباب في أعشاش العناكب .وهنالك حيوانات وطيور أخرى لا زالت تنتفض ورؤوس الأغصان المشوَّكة تنغرز فيها وتمتص دماءها. اتجهت نحوه أغصان كثيرة وهي تطُول وتَطُول، احتمى بصخرة مرتفعة عن الأرض بياردة إلاّ أنها لم تنفعه فقد بدأت الرؤوس الأوُلى من الأغصان تلتف بقدميه بدأ يردد تعاويذ التخلص من الأغصان إلا أنها لم تؤت أُكلها. فعلى كل غصن من أشجار العناكب يوجد رقم طويل عليه أن يردده بعد كلِّ تعويذة، الأغصان كثيرة ومتشابكة وبالتالي يصعب تمييز تلك الأرقام. فكر في جنوت ،عفواً جنوت اليوم منشغل بعيْد مخدومته ملاك. فيرنان القلعة مفهوم في هذه الحالة ،دخول الغابة المشئومة محظوراً و القانون لا يحمي المتهورين.كان هناك أسد يزأر وسط الأغصان وينهشها بأنيابه .إلاَّ أنها بدأت تلتفٌّ حوله بقوة وأشواكها توخزه بسرعة . تخلى بوجا عن فكرة تحويل سبابته إلى سيف ، حيث تعلم من حالة الأسد ألاَّ يبدي أيَّة مقاومة ،بدأ يسمع أنيناً قريباً منه تحث بعض الأغصان كابد كثيراً ليتجه نحو مكان الأنين .حيث كان كمن يجر أوتاراً تتمطط. بدأ يرفع بعض الأغصان ليظهر من تحتها صديقه جهبور.وقد أغمي عليه ،تذكر خاتم ميمون ، فأخرجه من محفظته وهو يصارع الأغصان التي بدأت تلتف حول صدره.بدأ يخبط رأس جهبور بالخاتم . خبطات خفيفة ،استفاق جهبور من غيبوبته وبدأ يتكلم بصوت يقطعه الشهيق والفواق :« أنت الذي أنقذتني ،إذن نجينا». رد بوجا بصوت مشروخ «كلاَّ بل وقعنا «. عقب جهبور وهو يعتصر رأسه بين راحتيه كأنه يتخلص من بقايا الدٌّوار: «رائحة الضبع هي التي أثرت علي، أما أشجار العناكب فأحسب نفسك تخلصت منها «. قفل جهبورأذنيه بأصابع يده .وبدأ يصرخ بصوت مرتفع حتى أن رجع صوته كان يسمع بعيداً . حول بوجا راحتيه إلى مكبر صوتي ليساعد صديقه ،وقربهما منه وبدأ الصوت يرتفع أكثر :«أنا جهبور ،صاحب الرقم القياسي لغراسة الفسائل.غرست الكثير من أعشاش العناكب ،أفسحوا لي الطريق». بدأت الأغصان تنحل عن عنقه ،وسائر جسمه. بقي صديقه مكبلاً لوحده ،تدارك جهبور الأمر ،وهو يتمتم لقد نسيت ،وبدأ يصرخ من جديد « وهذا صديقي لن أذهب بدوووونه». انفكت عنه بعض الأغصان وبقيت أٌخرى حتى أنها بدأت تلتوي عن بعضها البعض. فهم بوجا أن بعض الأشجار استجابت للنداء وأخرى رفضت. بدأ يبحلق في جهبور دون أن ينبس ببنت شفة ،تذكر جهبور حدثاً مهماًّ وصرخ مستجمعاً كل قواه :« إيه لقد ساعدني يوماً في غراسة الفسائل .في ذلك اليوم غرسنا كثيراً من أعشاش العناكب». أنفسح المسلك أمامهما. بدءا يمشيان وهما مسروران،تساءل جهبور وهو يمسح وجهه :« كيف استطعت معالجتي ،أتملك خبرة في هذا الميدان». عقب بوجا متنهداً :«يقال إن الساحر هو الحدس اليوم عرفت معنى هذه الكلمة ...كان ميمون الطيار قد أهداني خاتمه .وقد استطعت اختراق عقله آن ذاك وهو يفكر : «رغم أنه يحتوي على بعض المنافع، إلاَّ أنني لم اعد في حاجة إليه». وفي ذلك اليوم بالضبط ،عندما عبرت معهم الغابة المشئومة .كان هو وحده الذي ينتزع أشواك القنافذ من جسده . ورأيت أحدهم يخبطه ببعض الصفعات على وجهه كأنه يُمازحه .واليوم عندما طاردتني القنافذ السحرية .كانت أشواكها تتساقط ورائي دون أن تصيبني ، كما أن رائحة الضبع لم تؤثر فيَّ. فهمت أن السر يكمن في هذا الخاتم .وخمنت أن الحارس الذي كان يصفع ميمون الطيار، إنما كان يعالجه دون أن يشعرني حيث كان يصفعه بالخاتم. فقد مسحوا ذاكرتي حتى لا تكتشف القلعة من خلالي أنهم خرقوا القانون ... أرأيت كم أنا ذكي؟..المشكلة أنني استخفَفْتُُ هذا الخاتم ، فحتى وقت قريب كنت أرغب في التخلص منه .وبالمناسبة ما سبب وجودك هاهنا؟». - هذا الصباح وعدت ملاك أن أزين حفلها بجميع أصناف أغصان الأشجار.حيث كنت أضع الغصن في كأس واردد عليه تعويذة، يظل يدور تحت تأثيرها أمام مائدة الضيف. بقي كأس فارغ في المقعد المخصص لشيطا. أفتى علي جنوت أن أضع فيه غصناً من أغصان العناكب (وضع بوجا رأسه بين راحتيه). فسأله جهبور :مابك؟. - أممم ... لقد نسيت مشموما كنت أزمع إهداءه لملاك خبط جهبور راحته اليسرى على اليمنى،وهو يضحك ،ليظهر شيئا في الهواء :« ها هو لقد بدأ الطريق يتضح أمامي الآن ، سوف أكون ساحراً متميزاً في كل ما يتعلق بالنباتات». وصلا أمام باب فيلا ملاك، الذي انفتح بطريقة عجيبة حتى أنهما لم يعرفا أين اختفى، تقدم جهبور وهو يمشي فوق رصيف من زجاج تظهر من تحته أسماك صغيرة مختلفة ألوانها ، وكانت تلك الأسماك تبتعد من المكان الذي تقع عليه أقامهما ،لم يهتم جهبور لذلك مثلما اهتم بوجا. وعلى الجانبين رشاشات الماء البادية كديَّكَةٍ منتفخة.. وصلا أمام باب الصالون، ألقيا جنوت الذي كان مشرفاً على الاستقبال،والذي تظاهر بأنّه لا يعرف بوجا من قبل ، وهو يضحك ويربت على صدر جهبور:« كيف حالك أيها الشجاع؟ هل أحضرت أغصان العناكب ؟ اعتقدتُ أنًّك لن تعود أبداً فالغابةُ خطيرةٌََََََُ للغاية». ردًّ جهبور مُعتزاً بنفسه :«هيّا أعطيني القطعة الذهبيّة لقد ربحت الرهان ،هاهو الغصن (والتفت نحو بوجا) لقد قامرتُ معه «. دلفا إلى الداخل، كان جلُّ المدعوين جالسين بمقاعدهم، تقدم جهبور وبيده أغصانه ،ثمّ أخد من بوجا هديّته ووضعها فوق طاولةٍ كبيرةٍِِِِِِ كانت تعجّ بالهدايا، ثم سارا في اتجاه الرُّكن الذي يجلس فيه أصدقائهما. أزال كلُُّ منهما تمثالا أزرقا صغيرا من فوق كرسيه وجلس. كانت شيطا على يمينهما تتسلُّى بإضحاك طفلين صغيرين يبدوان أنهما أخوي ملاك وهي تريهما الصورة التي التقطتها على متن بغلة القبور،وغير بعيد كان عاشور يُحاول استدراجهما إلى جانبه ،وهو يُريهما تنينه النافث للنار ويهمسُ لأحدهما:«هيا أعطيني تلك الحلوة التي بيدك،أُريك كيف يأْكل الجمل حلوته».غير أن شيطا نهرته وهي تقول لهما :«كلاّ أنا من سيعلمكما كيف تأكل بغلة القبور حلوتها « .وضاعف بوجا سمعه ليسمع ما كان يقوله أربعة سحرة طاعنين في السن ،حيث همس أحدهما دون أن يُحرك رأسه أو شفتيه :«أنظروا إلى ذلك الفتى إنه ابن الساحرة شامة تلك التي دمر النمرود عائلتها، أظنك تعرف القصة كاملةً يا هارون». كانت الأغصان ،التي وضعها جهبور في كؤوسٍ على الطاولات تدور في أماكنها كالمروحيات وكان الغصن الذي أمام شيطا يتطاول أحياناً ليشحط وجهها ،ولم يكن يُسمع سوى حفيف دوران هذه المزهريات،وصوت موسيقى هادئة كل ضيف يعتقد أنّه يَسمعها وحده . اعتدل بوجا بمكانه عندما شاهد أساتذته على مائدةٍ خُصصت لهم ، اعتقد في البداية أنه يرى صوَّرهم منعكسةً على زجاج إحدى السواري ، وفيما بعد بدأ يساءل نفسه هل كانوا هنالك من قبل ولم ينتبه إليهم ،أم أنّهم وصلوا بعده .كان الأُستاذ حربوء يُناقش الأستاذ حسُّوب حول موضوع الزيادة في أجورالأساتذة ،الذي تحدثت عنه بعض الصحف ،وفيما إذا كانت تلك الزيادة ستشمل أصحاب السلَّم العاشر...وكان عبقور إلى جانبهما يقول : إنه لا يتنبأُ بأخبار سارّة في الموضوع ،فالقلعة تنفق أموالا كثيرة في محاربة إرهاب النمرود.وإن كان يظهر أن الأستاذان لم يهتما بتنبؤاته وإلى جانبهم بدت الأُستاذة ضفدوعة ،وهي في أبهى ثيابها،منهمكة في خواطرها. نحنحت الأستاذة و بدأت تُمَشط الصالون بعينيها الخضراوين ، محاولةً ألاّ تثير انتباه الحاضرين ثم قوست حاجبيْها،تعجبا من الأثاث الفخم الذي أُفرش به الصالون انتظرها الأستاذ صنوع حتى نظرت نحوه ليقول بصوتٍ هامس:«جو معتدلٌ...فيما أعتقد...كيف حالكم؟» . ردت الأستاذة ضفدوعة وهي ترفع شعرها الأسود عن عينيها:« بخير...سوى أنّ أمي هذه الأيام أصبحت تعاني من مرض نفسي ، لقد أمست تتفوه بكلامٍ غريب من قبيل: أنني لست ابنتها (ضحكت) ...في الحقيقة زارها تلاميذ وسحرة كثيرون، سوى انتم أصدقائي في هذه المهنة ،إنكم تتحيّزون ناحية حربوء. عقَّب صنُّوع متظاهراً بهدوءِ أعصابه:«في الحقيقة لم أفهم لماذا كلُّ هذه الضجة حو ل موضوع تافه ؟. تلميذ من العامة يسرق خزانة أستاذه بات من الأفضل أن تتنازلين عن مؤازرته فلن تجنين من وراء ذلك سوى المتاعب... ستجرين عليك عواقب معاداة النمرود». ردت وهي تستوي في قعودها :« المشكلة يا سيدي أن معظم المحامين يبتعدون عن الملفات التي يكون أحد أطرافها مطلوبا للنمرود، من سيدافع عن هؤلاء المساكين؟ إذا كان كل واحدٍ منا يخاف على نفسه .المسألة يا سيدي مسألة مبادئ...إيمان...». تخلّصت شيطا من الطفلين اللذان كانت تلاعِبهما ،إذ أرعبتهما بتحويل أنفها إلى خرطوم فيلٍ وتدخل عاشور الذي كان ينافسها في استجلابهما :« أكلت ما بحوزتهما من حلوة وتخلصت منهما أيتها المشاكسة». اقترب الصغيران من بوجا وبدءا يتعلقان بقفصه ويرددان«لماذا ترتدي أنت هذا الشيء؟....تكلم... أليست لديك ملابس؟».زأر في وجهيهما زئيرا لأسد وهو يتفادى إثارة انتباه الضيوف فابتعدا عنه. شرع العفاريت الخدام يضعون الحلويات والفواكه اليابسة فوق الموائدِ ويوزعون كؤوس الشاي على السحرة،كؤوسٌ من البلار نقش عليها اسم العائلة لكز جهبور بوجا بيده وهو يضحك:« أما أنا فلدي كأس من الطين استعمله لشرب الشاي والماء والحليب ولي فيه مآرب أخرى،وحتى موهبتي في التحويل ضعيفة. فرغ الضيوف من احتساء الشاي، وطلب منهم العفاريت أن يفكروا فيما يشتهون اشتهى بوجا وجبة كسكس مغربي إلا أنه لم يستطع التفكير فيه مغربي. كان يجاهد نفسه ويجمع تركيزه إلاّ أنه يجد نفسه مجبراً على التفكير في وجبة الطاجين. لم تمر سوى بضع دقائق حتى وزع العفاريت الخدام جميع وجبات الضيوف رفع بوجا غطاء (الطاجين) فوجد به دجاجة محمرة، ومزينة ببيض الحجل( المصلوق)، والمقطع على شكل دوائر.( وصلصة) البصل والطماطم المفرومة بالزبيب واللوز المقلي. تذكر أن هذه هي الطريقة التي كانت تحضر بها والدته رقية الطاجين خلال فصل الربيع. كانت شيطا تبكي رغم أن طاولتها مكتظة بالطلبات، فهي تريد قنفذا مشويا اعتذر لها جنوت بأنه لا يستطيع توفير وجبة قنافذ، احتراما للسيد الحارس العام المشهور بحبه للقنافذ، بقيت شيطا مصرة وهي تئن وتبكي كالرضيع. بدأ العفاريت الأقزام يجرون مائدة كبيرة ومستديرة من المطبخ نحو الصالون. حيث يظهرون من بعيد كديلم نملٍ يجر جرادة كبيرة، سووا المائدة وسط القاعة وشرعوا يرددون بعض التعاويذ لتظهر شجرة حلوى كبيرة، كتب عليها اسم ملاك بطريقة رائعة. كانت الشجرة مصممة تصميما هندسيا رائعا. فمن الجدع يتفرع اثنا عشر فرعا على شكل شموع ذهبية اللون. يتفرع كل فرع بدوره إلى ثلاثين غصنا على شكل شموع بنفسجية صغيرة. وعلى كل شمعة من هذه الشموع تظهر كتابات تتغير حروفها من لغة إلى أخرى باستمرار، كما لو كان الأمر يتعلق بلوحة إشهارات. فهم بوجا أن الأمر يتعلق بذكريات ملاك لهذه السنة.حول إحدى عينيه إلى مجهر ليرى تلك الكلمات المكتوبة على الشموع الصغيرة بدأ يبحث عن الشمعة التي تََهُمُّهُ. مرت الشموع في عينه كأنه يقلب أوراق دفترٍ بسرعة. توصل إلى الشمعة بفارغ الصبر وبدأ يقرأ:« في هذا اليوم بالضبط أعطيت لبوجا "كتاب تشفير الإشفير" لمجهول بن معروف ، وعندما اتهمني بأنني أعطيته ذهباً ، أنكرت كلَّ شيء دفعة واحدة . أراد بوجا إتمام قراءته ، غير أن الكتابة صارت بلغة أخرى ،ربما اللغة الهيروغليفية وتذكر أن لديه كتابا بخزانته الخاصة ، يستطيع بواسطته فك رموز هذه اللغة فحول العين الأخرى إلى آلة تصوير وبدأ يصور هذه الشمعة. غير أنه سمع صرخة جازرة :« ممنوع التصوييير». اقشعر بدنه وارتعشت فرائصه ،ثم تنفس الصعداء لأن الصرخة كانت موجهة لشيطا التي كانت تصور الشجرة برمتها بواسطة آلة قديمة ، اقترب جنوت من شيطا وانتزع منها آلتها وصار يفككها وهو يردد :«تمنيت لو لم تحضرين هذا الحفل ، ففي السنة الماضية سرقت من حفلنا كؤوساً ،وسكاكين كثيرة .وعندما تتبعناها بواسطة الإنترنيت السحرية وجدناها بمنزلك !». ردت شيطا بعنف :«أممم أهو ذا حفل جدتك . إنه حفل صديقتي وسأفعل ما أريد . (ولوحت بأصبعها ) انظرواْ إليه ...إنه وزير ويملأ جيوبه بقطع الحلوة فما بالي أنا شيطا بنت الشويطنة ... أمي علمتني كيف أستحوذ على العقول ، فلو كنت أنتَ هو ملاك لجعلتك تستدعيني لحفلك دون أن تشعر أنا شخصيا أركز على الأطر فأجعلهم يحبونني وأتلذّذ بكراهية محيطهم لي !». بدأت الشجرة تقْصُرُ ثم تقصر وتحولت إلى أربعة عشر شمعة تتغير ألوانها القزحية، اقترب الضيوف من الطاولة وبدأت ملاك تقطع الحلوى بسبابتها التي تحولت إلى سكين ذهبي لامع . كانت أنامل ملاك لطيفة بحيث أن السكين الذي أعطته كان يرتج. ثم بدأت تطفئ الشموع وشرع الضيوف يطفئون معها ويأكلون، إلاّ شيطا فقد كانت تبتلع شمعة مشتعلة كأنها تبتلع قفازاً وهي تغمغم:« تعاويذ إطفاء النار توجد بمعدتي». انتهى الحفل وأقبل السحرة يغادرون المنزل، كل حسب قدرته السحرية. تقدمت شيطا عند أساتذتها وطلبت من جهبور أن يأخذ لها صورة معهم. مانع( حربوء) وانصرف بسرعة وأمرت الأستاذة ضفدوعة جهبور أن يلتقط الصورة. تقدم عاشور وملاك ليلتقطا صورا بدورهما، أراد بوجا أن يتقدم إلاّ أن يدا من ورائه ربتت على كتفه، فالتفت فإذا بالعفريت جنوت وراءه. همس هذا الأخير في أذن التلميذ:« هيا تعالى معي لذي معك كلام خاص». سار الجني في اتجاه المطبخ، وتبعه هو والحيرة تتملّكه واختفيا ولم تعد تسمع سوى جلبة خفيفة للضيوف وهم يودعون بعضهم البعض، أو يودعون عائلة ملاك. فقطع جنوت خواطر التلميذ زاجراً إياه:« لماذا تهوّرتَ ودخلت الغابة المشئومة، من حسن حظك أن الأمور سارت كما توقعتُ فأنا من أرسل جهبور وهو لا يدري لكي ينقدك دون أن يشعر. الأقدار وحدها جعلت الأمور تسير كما خططتُ لها». رد الولد بصوت متلعثم:« لم أعرف كيف؟. في البداية رغبت في مشموم ورد. وعندما شاهدت عصفورا جميلا رغبت فيه. تذكرت الطائر الأحمق وعرفت أنه هو إلا أنني لم أستطع التراجع. كأن قوة ما ، كانت تدفعني( نحنح جنوت قائلا إذن هو)... من هو؟».رد جنوت بعدما أفرغ جيوبه من المخاط الأخضر:«النمرود النمرود وعملاؤه، يخططون لاختطافك. لذلك فهم يمارسون عليك تعاويذ التحكم عن بعد. ليدخلونك إلى المناطق المحظورة، حتى يسهل عليهم اختطافك. لأن القلعة لا تهتم بحماية الداخلين إلى هذه الأماكن كما أنهم يعملون كل ما بوسعهم ليزجون بك في السجن وهذه قصة أخرى». استرجع بوجا أحداث السنة بكاملها، معاناته مع الكتب المستعارة والحفر.. لم يكن يرى التشوير الطرقي حيث غالبا ما كان يجد نفسه في المناطق الخطيرة . لاشك أن أحدا كان يمارس عليه تعاويذ تحكم عن بعد كثيرة». غير جنوت الموضوع بسرعة:« لا تهتم، فاليوم لذي إليك مفاجأتان ،الأولى هي أنّ الطاجين الذي قدمته لك هو من صنع أمك رقية ، لقد أبذلته لها بطاجين يعتبر نسخة طبق الأصل ومارست عليك تعويذة لم تستطع معها التفكير في وجبة أخرى لاشك أنك كنت تفكر في (الكسكس) المغربي... أمك المسكينة لازالت تبكي وتقول :« لا أصدق أن إبني ميت حتى أرى جثته «أما والدك عمر فقد ظلّ يقنعها بموتك ويأمرها بالصبر ، وإن بدا هو بدوره غير مقتنع بكلامه» . عقب بوجا وهو يرمش حتى لا تنسكب دموعه خارج محجريهما:« تقصد والدي بالتربية، لقد علمت هاهنا أن والديَّ الحقيقيين اختطفا من قبل النمرود، لاشك أن أبي ميت وأن أمي تتعرض لأبشع أنواع التعذيب.سوف أفعل مستقبلا كل ما بوسعي لأجد أمي، قيل لي بأنها لازالت حية، أما أبويَّ بالتبني فلازلت أكن لهما احتراما خاصا، فهما لم يشعرانني يوما أني ابنهما بالتبني. مع أنني ألومهما لإخفائهما الحقيقة عني، إنه خطأ يقع فيه الكثير من الناس، فالحقيقة تشق طريقها نحو الظهور، ولا يمكن، بطبيعة الحال، حجب الشمس بالغربال « - حسناً أنا أعرف أمك الحقيقية.. اسمها:شامة، وهي آخر من اختطفه النمرود من عائلتك شخصيا أعتقد أنها ساحرة موهوبة ،ولديها جميع الإمكانيات لتنجو بحياتها بيد أنني عشت بمنزل والديك بالتربية أكثر من ست سنوات. وغالباً ما كنت أسمع حواراتهما دون أن يبصرانني، لم يحدث يوماً أن قالا عنك إنك ابنهما بالتبني. لاشك أن هناك لبس في القضية». دفن الولد وجهه بين كفيه وأحنى ر أسه قليلا ثم رفعه وشرع يتفرس وجه مخاطبه إن التجاعيد الرأسية في وجه جنوت،وحاجبيه المحترقين اللذان لم يبق بهما سوى زغب شبيه بزغب الكتاكيت .وعيناه الشبيهتين بعيني خروف. وجيوب أنفه المقلوبة. والتي يضطر معها بين الفينة والأخرى لينحني حتى يفرغها من المخاط الأخضر.وعندما تتساقط الأمطار فجأة يجد صعوبة كبيرة في إفراغ أنفه من الماء، خلاصة الفراسة تذل على أن جنوت من ذلك النوع الذي عانى ولا زال يعاني كثيراً في حياته . ويبدو أن ذلك هو ما يجعله أكثر استعداداً لمساعدة الآخرين، قطع الجني خواطر الولد بقوله:« لننتقل إلى موضوع المفاجأة الثانية، لقد شاهدتك تصور الشمعة الخاصة بذكريات ملاك لذلك اليوم البئيس. إن واحدة من علامات النباهة هي أن تدرك الميدان ، وبسرعة،الذي أنت فيه. لاشك أنك ساحر واعد( وربت على كتفه). فلم يشاهدك أحدٌ غيري وأنت تصور الشمعة(نحنح). وأنا لم أرغب في إثارة ضجة حولك ، خاصة وأنك متهم ،(وأخرج الجني شريط الصور من أذن بوجا وتابع):إني أعرف مضمون الكلمات .إن ملاك فتاة لطيفة وذات حس مرهف .وهي لن تستطيع تحمل عذاب (سجفنارت) لذلك فقد نفت الأمر برمته.والداها استأجرا سحرة رفيعي المستوى ،لمحو جميع الأذلة التي يمكنها أن تثبت أن فلذة كبدهم أعطتك الكتاب . لذلك فالقضية أصبحت أكثر تعقيداً . إنهما الآن يخشيان أن تتهمهما المحكمة بالتكتم و بإتلاف طريق الحقيقة كما أنهما أضحيا يعتقدان أنهما اشتغلا ضدك. وأتلفا بعض الحقائق التي ستقود إلى تبرئتك. وأنهما أربكا الأستاذة ضفدوعة في تحرياتها. حيث استعصى عليها فك خيوط القضية لذلك فإنني اعتذر إليك باسمهما. وأطلب منك ألا تعطي هذه الصور لهيئة المحكمة». رد الولد باستغراب :« وبراءتي ألا تهمك في شيء؟ ... فلأول مرة أجد دليلا قد يقود إلى براءتي». شرع الجني يذرع غرفة المطبخ جيئة وذهابا، وهو يضرب شريط الصور على راحة يسراه واقترب من أحد مواقد المطبخ حيث كانت النار تزأر وهمس:« اسمع باستطاعتي أن أحرق هذا الدليل غير أنني لن أفعل ذلك. فأنا أريد منك وعداً بأنك لن تخبر المحكمة ولا الأستاذة ضفدوعة ولا أي كان أعدك بدوري أنني سأبقى بجانبك، تذكر كم مرة أنقدتك». تنهد الولد وقال بتذمر:«وعد» وخالف أصابعه مع أصابع الجني. وهو يتحسس أنفاسه ويُقاوم اصطكاك أسنانه. فلأول مرة راوده شعور بأنه يعمل ضد نفسه. سمعا وقع أقدام تقترب منهما وضع عليه جنوت قبعة إخفاءٍ وهمس:« اصمت لقد تأخرنا قليلا لا شك أن المنزل أمسى فارغا من الضيوف». اقترب منهما والد ملاك وهو يتكلم بصوت مرتفع:« يا جنوت...أرى أن الضيوف رحلوا ألاّ أنني لا زلت أشم رائحة الآدمي، أشك أن أحدهم بقي مختفياً بأحد الأقبية هيا شغل نظام التفتيش عفاريتا وكلابا». رد الجني جنوت مرتعدا:« عفوا سيدي رائحة الآدميين تبقى بالمكان حتى بعد خروجهم منه بساعة كاملة، سنفتح الأبواب والنوافذ وسنعمل على تغيير هواء المنزل». ولوَّح لبوجا أن ينصرف من إحدى النوافذ. (يتبع) 1) الأم تيريزا من مملكة العباقرة. تهتم كثيراً بالبيئة. لها شهرة شعبية كبيرة . كشهرة "بريجيت باردوا "عندنا.