الوسيلة الثالثة لكسب تعاطف الناس : حدث الناس بما يحبون. (ديل كارنيجي، كيف تكسب الأصدقاء) تربع رشيد نيني لوقت غير يسير على عرش قلوب القارئ المغربي... تربع على قلب هذا القارئ لما كان يخطاب فيه وجدانه العميق ويعزف على وتر أشد الذكريات رسوخا في أعماق شعوره وعلى وتر صور الماضي الأكثر انغماسا في لاشعوره.. يعتمد نيني في جزء هام من كتابته على الحجة العاطفية والبيان الوجداني، ويحدث الناس بما امتلأ به وجدانهم الفردي والجمعي.. فنيني ليس كاتب التحليل العقلاني بل هو مؤلف الحجاج الحدسي العاطفي.. يميز أرسطو بين ثلاث حجج لإقناع الناس وكسب تأييدهم.. الحجة العقلية (اللوغوس) والحجة العاطفية الوجدانية (الباتوس) والحجة الأخلاقية الاجتماعية (الإيثوس)... ولعل نيني يمضي كثيرا في طريق السيطرة على قارئه من خلال اللعب على الحجة الوجدانية في مزيج مع الحجة الأخلاقية الإجتماعية.. ويقول ديل كارنيجي في كتابه الأشهر كيف تكسب الأصدقاء أن من بين السبل للنجاح في في التواصل مع الناس واكتساب عطفهم أن تحدثهم بما يحبون... يحسن رشيد الحديث عن ما يشكل صورا جميلة لخيال المغاربة وعن ذكرياتهم الصانعة لمثلهم وقيمهم – لنقل لنكون أكثر دقة إن الرجل يخاطب خيال شريحة اجتماعية بعينها تقدر ما يكتب وتستمتع به هي تلك التي ترعرعت في المدرسة العمومية من الطبقات الشعبية والمتوسطة، ولعل هذا ما يفسر كون أبناء مدارس البعثات ممن ترعرع في الطبقات البورجوازية لا يتذوقونه لغياب المشترك معه في الماضي الطفولي والذكرى الجامعة التي يركز على استعادتها وجدانيا، حيث أن وجدان هؤلاء تسكنه صور وذكريات وقيم راسخة غير تلك التي رسخت في وجدان طفولة وشباب الأغلبية في مغرب ما بعد الاستقلال ... يخاطب نيني في كتابته اليومية الوجدان الجمعي أكثر من مخاطبته للعقل...وليس في الأمر أي منقصة بل إنه مذهب في الكتابة يتوافق مع وظيفة العمود أو الزاوية الصحفية التي لا يحتمل مجالها ولا تتسع مساحتها للتحليل المنطقي؛ كما أن الرجل لا يقدم نفسه كمفكر في مقالاته ولا كمحلل متخصص بقدر ما يبتغي لنفسه منزلة المتأمل- وتسمية العمود "شوف تشوف" تغني عن كل إيضاح- المستحضر لأبعاد غير تلك التي يذهب إليها صانع التحليل المنطقي الصوري الذي قد يرصد موضوعية الظاهرة وقد تغيب عنه بعض أبعادها المثالية.. هناك إذن سمة هامة في أعمدة نيني اليومية وهي أنها تشكل خزان ذكريات مغربية جمعية تجعل من قراءتها مناسبة استحضار لذكريات الأمس القريب لشريحة كبيرة من الجيل المترعرع بين الستينيات ونهاية الثمانينيات ... يستحضر نيني ويذكر قراءه بصور ذلك الماضي وبأحاسيسه وأجواءه: ذكريات الفن والمدرسة والجدة والحياة والكتاب والفنون والقيم... ولعل النبرة التي يركز عليها في استحضاره لعوالم ماضي طفولة وشباب جيل بأكمله أحساس جمعي في الحاضر المغربي بانتهاء تلك الأجواء "الجميلة" مع تطور الحياة والعقليات والقيم بشكل لم يرض المغاربة رغم أنهم انخرطوا فيه مكرهين محتفظين بذكرى جميلة عن الماضي إن رشيد نيني -كما سبق لنا ذكره- لا يكون في نصوص السير-ذاتية كاتب سيرة فرد بل يكون لسان ضمير متكلم باسم شريحة كبرى؛ فحتى في كتابه "يوميات مهاجر سري" فإن تغيير اسم رشيد نيني ووضع اسم أي مهاجر سري آخر قد لا يؤثر كثيرا على محتوى الأحداث والتأملات والأحاسيس التي يحتفي بها في سيرته الذاتية-الجمعية... ولعل هذا النفس الجمعي في السرد الذاتي يبرزه في أحد عناوينه حيت يوسم عمودا: " أصالة عن نفسي ونيابة عن جيل بأسر" خبر نيني مزاج المغاربة الذي تغير وربما "فسد" بفعل إكراه الدهر وضغوطات المرحلة التاريخية... يحس المغربي أنه كان في الماضي أحسن(ربما كان الشعور إنسانيا) ويحس أن الأمور انحطت والقيم سقطت... هي أمور ملحوظة... فنيني من باب الوعي الحدسي أو الفعلي بهذا الإحساس المر بحاضر لا يرض المغاربة رغم انخراطهم فيه طولا وعرضا، يحيي فيهم نوستالجيا الماضي الجميل والفردوس المفقود.. فالكاتب لا يتردد في نعت سنوات الماضي بالجمال فيفتتح مثلا مقال "تحيا العطلة" "في تلك السبعينات الجميلة.." وكما يمكن أن نقرأ في مقال"رسالة إلى تلميذ ناشئ": " في تلك السنوات الجميلة..." فمن من الناس لا يحس بأن الماضي كان جميلا مهما بلغت درجة المعاناة فيه... يركز رشيد على الحنين لماضي الطفولة والشباب –ويزيد من قوة تأثير الكتابة النينية في القارئ نبرة الصدق في الكتابة، والصدق كما يقول علماء التواصل أحد أسرار النجاح في مخاطبة الناس، فالرجل لا يعزف على وتر الحنين كاستراتيجية كتابية بل يحس القارئ أن الكاتب يستفرغ وجدانا وحنينا صادقين.. نوستالجيا المدرسة: يقف الرجل على المشترك الجميل في ذكريات المغاربة – أو تلك الشريحة الغالبة المشار إليها أعلاه- وأهم المشترك بين جيل ما بعد الاستقلال في المغرب هي تجربة المدرسة العمومية المشتعلة آنذاك بالقيم وبالحماس وبالطموح وبالمثل وبالمبادئ وبالآمال والأحلام والأوهام... يستحضر الرجل أمام المغاربة ذكريات المدرسة العمومية المحبوبة والمحترمة التي عاشها المغاربة في فترة من تاريخ ما بعد الاستقلال... ولعل ذكريات المدرسة تثير في وجدان جمهور واسع صورا فردية طبعت كلا على حدة.. ويلعب نيني في عموده دور الموقظ لتلك الصور الجميلة... نقرأ في مقال" أش قراوكم: قرد بقرة برتقال" كثيرون سيتذكرون تلاوة بوكماخ وعنزة سوغان وباليماكو وهو يتسلق النخلة.... كثيرون سيتذكرون الثرثار ومحب الاختصار والبدوية والمصباح وزوزو يصطاد السمك والشمعة والفانوس وسلمى في المخيم. وحدها في تلك الكتب الرائعة يمكن أن تنام سلمى في المخيم جنب الشمعة ولا تحترق في الليل وتموت.... في تلك السنوات لم يكن للمعلمين من وسيلة إيضاح أخرى يستعينون بها على شرح دروسهم سوى العصا كنا نردد النشيد الوطني امام الراية في الساحة كل صباح قبل ان ندخل أقسامنا الباردة وفي المساء نردد نشيد مدرستي الحلوة قبل أن نغادر القسم ونتراكل في الساحة قليلا مثل بغال صغيرة" ذكريات المدرسة لازمة مكرورة في مقالات نيني الساردة للذكريات التي لا يستحضرها أحداثا فقط بل أحاسيسا ووجدانا على طريقة بروست في نص "الحلوى والشاي" حيث يكون الحدث المسرود بالنسبة للقارئ مناسبة للتحليق بالخيال الوجداني نحو عالم أوسع من الحدث مستحضرا عالم الطفولة والماضي بأكمله... فالتفاصيل والتفصيل وسائل استحضار لهذا الماضي المشترك بين المغاربة في المدرسة العمومية الوطنية إذ يلجأ الكاتب إلى تهييج الذاكرة البصرية والحسية والسمعية لقارئه ليجعل يعيش ذلك الماضي بكل جوارحه ويأسره بذلك في فخ نصه الممتع ، يذكر الكاتب في عمود"تحيا العطلة": "في تلك السبعينات الجميلة كنا نحن التلاميذ عندما نصل إلى قطعة "سلمى في المخيم" في تلاوة "إقرأ" للرائع أحمد بوكماخ،،نعرف أن العطلة الصيفية أصبحت على الأبواب .... ونستحضر طعم بقع الملح المتيبس على أجسادنا الطرية، ونحن نبني فوق الشاطئ قصور الرمل.." وكما يمكن ملاحظته في عمود "أش قراوكم" الآن تحضرني كل التفاصيل التي كانت تزين القسم صورة الجزار الذي يعلق أمام دكانه خرفانا مذبوحة ويبتسم بشارب أسود كث، صورة الصياد الذي يصوب بندقية صيده نحو سرب البط.... صورة الملك وهو يضع أمامه الأسماك التي اصطادها في بحيرة القصر الرسائل الكثيرة التي كان يبعث بهاا المعلم معنا الى المعلمة التي كانت في الدور العلوي، والتي عرفنا في ما بعد أنها كانت رسائل غرام واننا كنا سعاة بريد اشتغلنا في قصة حب بالمجان عندما يأتي فصل الشتاء يأتي ممرضون من المستشفى وينشون في أدرعنا تلك الحقن وعندما تتشارف السنة على الانتهاء ياتي ممرضون آخرون يفرغون انابيب البوماضا في عيوننا التي يوشك العمش على إغلاقها" ويقول في مقال "منبت الأحرار"مستحضرا أجواء العلاقة بالنشيد الوطني : "تذكرت فجأة كل تلك الصباحات الماطرة التي كان يوقفنا فيها المدير في ساحة المدرسة مرتجفين من البرد، لكي نردد النشيد الوطني ونتأمل بعيوننا الصغيرة المعمشة وبطوننا الخاوية رفع العلم... ويذكر في هذا الباب السر المكتوم عند كل واحد من التلاميذ عن الصعوبة في حفظ مقطع ( هواك ثار نور ونار) التي يذكر نطقها الأعوج الواسع الانتشار"هوما كاترى نور ونار " ويصفها ب" كلمات عندي فيها التعكال" نوستالجيا المكتبة: يستحضر نيني مع قارئه ذكريات الكتاب الممتع وذكرى القراءة المسلية.. يقف الرجل عند ذكريات القراءة التي أثرت في وجدان مغاربة مدرسة ما بعد الاستقلال.. يذكرهم الرجل بالقصص التي أحبوها وبالنصوص التي شغلت بالهم وبالكتب التي نسجت أفكارهم والمؤلفات التي رافقت نموهم وبالأعمال التي أشعرتهم بتغيرات ذواتهم وفتحت نظرهم على العالم المحيط... لا يفتأ الرجل عن تذكير المغاربة بسلاسل إقرأ ونظيرتها الفرنسية "بيان لير إي كومبرندر"- تلك السلاسل التي يحن إليها المغاربة كثيرا ولا أدل على ذلك إعادة طبعها مؤخرا وتوزيعها على صعيد واسع رغم انتهاء تداولها في المقررات الرسمية كما يمكن ملاحظته بسهولة في سوق الكتب - يقول نيني عن السلسلة الأولى: "تلاوة "إقرأ" للرائع أحمد بوكماخ" ويذكر نصوصها الشهيرة "تلاوة بوكماخ وعنزة سوغان وباليماكو وهو يتسلق النخلة... الثرثار ومحب الاختصار والبدوية والمصباح وزوزو يصطاد السمك والشمعة والفانوس وسلمى في المخيم. وحدها في تلك الكتب الرائعة يمكن أن تنام سلمى في المخيم جنب الشمعة ولا تحترق في الليل وتموت... لا يكتفي نيني بالقراءات المبرمجة بل يذكر قراءه من الجيل المذكور –وأحسب أن هذا الجيل يشكل غالبية الجمهور القارئ في المغرب- بل يذكر بالقراءات الموازية المنصوح بها آنذاك والمحرمة. ففي "مذكرات مراهق سابق"يقف عند القراءات التي صنعت ثقافة وأدب جيل بكامله ولا يقف عند ذكرها بل يذكر مضامينها وميزتها: "نتذكر أول رسالة غرامية كتبناها بمساعدة كتاب قرأه كل مراهقي تلك السنوات وعنوانه أربعون رسالة في الغرام... نتذكر الكتب التي قرأنا روايات إحسان عبد القدوس حيث قصص الحب تبدأ من كلها من أول نظرة، وروايات نجيب محفوظ حيث اللصوص والكلاب والعشاق يجتمعون في قصر واحد من الشوق وروايات جرجي زيدان حيث نساء الشام يتهيأن فوق هوادج تحملها الجمال في صحار لا متناهية، قصص محمد عطية الأبراشي حيث الرسل والأنبياء والمعجزات نتذكر الكتب الممنوعة التي قرأنا تحت جنح الظلام كتاب الروض العاطر في نزهة الخاطر حيث يتجاور الأدب وقلة الأدب في ود وسلام، كتاب تاج العروس وخاصة الفصل الذي يتحدث عن ليلة الدخلة ورواية الخبز الحافي للراحل محمد شكري الذي فعل مكاننا في مراهقته كل الاشياء التي كانت تتلاطم في مخيلاتنا" وفي "رسالة إلى تلميذ ناشئ" يذكر رشيد نيني مغاربة ذلك الجيل بالمجلات القادمة من شرق الوطن العربي التي راودت ذوقه طفولتهم ومراهقتهم وشغلت بالهم ونسجت جزءا من ثقافتهم : "في تلك السنوات الجميلة كان حتى مول الزريعة يكتري لنا الأفلام المصورة والقصص بخمسين سنتيما.. في الوقت الذي كنت نشتري ماجد ونقضي اسبوعا نجمع الريال على خوه لكي نتدبر ثم طابع بريد الإمارات ونرسل أجوبتنا على مسابقة ابحث عن فضولي.. أتذكر المزمار ومجلتي التين كانت تأتيان من العراق.... أتذكر روايات عبير المليئة بقصص الحب وكيف كنا نتسابق عليها مع الفتيات.. أتذكر قصص الأنبياء يوسف علية السلام موسى كليم الله نوح وفلكه زينب الغزالي وكتابها أيام من حياتي الذي كان يبكيني كل مرة أقرأه. جرجي زيدان وأبطاله التاريخيون" وقد عنون الرجل أحد مقالاته في باب العزف على وتر ذكرى القراءةالجميلة"إبحث عن فضولي" نوستالجيا جهازي الراديو والتلفزة: جيل ذكريات رشيد نيني تأثر كثيرا بالانتشار المتزايد لأجهزة الراديو والتسجيل والتلفزة وقد طبعت هذه الشريحة التي ربطت معها علاقة وجدانية متينة .. شكل عمود نيني مناسبة لاستحضار الجمهور للموسيقى والأغاني والبرامج التي أثرت في هذا الشعب تأثيرا بليغا انغرس في أعماق تصوراتهم ونفوسهم.. يذكر نيني برامج فعلت فعلتها في المغاربة. يقول رشيد نيني عن التفسير الإذاعي الشهير للمرحوم المكي الناصري: "عندما يبدأ المرحوم المكي الناصري تفسيره الربع الاول من الثمن الثاني في الحزب السادس عشر من القرآن الكريم أعرف أن الفجر سيعلن بعد قليل.... فأسبح مع المكي في تفسيره العجيب للقرآن وأتخيل قوم نوح الذين عذبهم الله وأتصور الجنة وما فيها من فواكه ووديان والنار وما فيها من أفاعي وأشجار كأنها رؤوس شياطين.... ولا أعود إلى الأرض إلا عندما يبدأ رشيد الصباحي برنامجه الصباحي" كما يذكر بالموسيقى التي شغلت شباب الفترة وارتبطت بحسهم وإحساسهم فيذكر في "موكب الشموع"أغنية تغنى بها المغاربة شيبا وشبابا ويقول: " "كثيرا ما رددنا مع جيل جيلالة أغنيتهم الشهيرة حول الشمعة الحزينة التي يسألونها عن سبب بكائها في جوف الليل بينما هي تذرف دموعها ولا ترد عليهم..." ويجمع ذكريات ذوق الزمن المتنوع في" مذكرات مراهق سابق": " نتذكر كات ستيفنس واغنيته فادر أند صان ونتذكر دولي بارتن وأغنيتها المشهورة حيث الاجوبة معلقة في الفضاء. نفتح دفتر الذكريات حيث صور الغيوان ملصقة إلى جانب صور بوب مارلي ومايكل جاكسون عندما كان زنجيا قبل أن يقطع الضفة نحو السادة البيض" لا تقتصر الذكرى على المسموع من الفن بل على المشاهد منهوالمصور، فينتقل رشيد نيني بالحنين الفني للقارئ إلى الأفلام والمسلسلات التي تحلق حولها المغاربة خلال السنوات الأولى للانبهار بالتلفزيون فيذكر الغربي منها والعربي، كمسلسل غزو الغرب الشهير حيث نقرأ في تحيا العطلة: "كانت تسليتنا الكبيرة هو مسلسل غزو الغرب، الهنود الحمر يقطعون الانهار فوق قواربهم بخناجرهم بين أسنانهم بحثا عن رعاة البقر ليسلخوا لهم فروة رؤوسهم.. وفي الصباح نلعب مع أبناء الجيران ... أدوار الهنود ورعاة البقر مسددين نحو بعضنا البعض سهاما من القصب المزود برؤوس حادة مصنوعة من فيتشات قناني المشروبات الغازية" وفي "رمضان كريم"نتذكر عوالم المسلسل الشهير عن الرسول صلى الله عليه وسلم: " أتذكر مسلسل محمد يا رسول الله وحروبه الطاحنة بين المسلمين والمشركين" ولا ينسى ذكريات المشاهدة الطفولية حين يذكر أننا بعد المدرسة كنا" نذهب إلى بيوتنا لنتابع سكوبيدو" نوستالجيا ثقافة ومجتمع: يجعل رشيد نيني قارئه يحن لماض ثقافي انتهى.. يستحضر الرجل مع جمهور ذكريات بداية الشباب وطقوسه المكرسة اجتماعيا... يصير مع العمود وثيقة تؤرخ لزمن بعاداته وثقافته.. فنكتشف ونستعيد في"مذكرات مراهق سابق" سلوكات الماضي: " نتذكر أول يوم قررنا فيه أن نمشط شعرنا إلى الخلف على طريقة كوب طاليان... نتذكر أنبوب ستيف وذلك المرهم الباهظ الذي يرطب الشعر لأسبوع كامل...نتذكر السراويل التي كنا نشتريها من البال ونذهب بها إلى الخياط..نتذكر سراويل الكولون التي كانت تلبسها فتيات الثمانينات.. نتذكر أول لفافة تبغ دخانها خلسة في مراحيض المدرسة، وأكثر ما نتذكره هو ذلك السعال الحاد الذي يعقب حصة التدخين تلك، وبعدها نشتري حلوة فليو لكي نمصمصها حتى لا تتشمم امهاتنا رائحة التبغ الرخيص في لهاتنا.." كما يقف عندما ممارسات ثقافية بائدة فنجده في موكب الشموع يذكر هذا الحدث الذي عاشه أغلب الاطفال: " ذكرتني الحكاية بحكاية أخرى كنا نرددها ونحن أطفال عندما تسقط لنا سن من أسناننا، فنرمي بالسن تجاه الشمس ونقول لها: أشميشا هاكي سنة الحمار وعطيني سنة الغزال" مع رشيد نيني نستحضر أيضا لحظات مجتمعية انتهت ولم يعد لها أثر بارز في العلاقات الحالية.. فالرجل لا يفتأ يذكر من خلال سيرته الخاصة قصصا مماثلة عاشها جمهور من المغاربة تبرز طبيعة العلاقات الاجتماعية ولا يمكن للقارئ إلا أن يشده الحنين اليها مع اشتداد الفردانية وانحصار لمبادئ التكافل. مع هذه الذكريات نستحضر ماضينا المشترك: "عندما كانت تنتهي العطلة كنا نعود محملين في الحافلة بسراويل كثيرة تبرع بها علينا أخوالنا وخالاتنا، سيكون علينا أن نأخذها إلى الخياط لكي يصممها على قاماتنا... وكل سنة عندما تأتي العطلة تجمع لنا أمهاتنا الصرة التي تلف ملابسنا القليلة وتأخذنا إلى المحطة لكي تبعثنا إلى بيت عائلة في مدينة ما.." " نتذكر أول يوم صمناه تحديا للكبار، ونتذكر تلك الفرحة الطفولية بانتصارنا على جوعنا الطفولي " نوستالجيا فردوس مفقود ومعان أعدمت: إن عوالم الماضي التي يقف عندها رشيد نيني عوالم فردوسية رومانسية أقرب إلى صورة طهارة الأصول قبل أن يصاب الكون بلوثة الفساد.. الماضي مثالي وجميل.. وهذا الجمال هو ما يخلق لدى قارئ الحاضر تلك النوستالجيا وذاك الحنين لما مضى.. فلعنا لو تأملنا هذا المقطع من "تحيا العطلة"لوجدنا الرجل يصف الماضي كأنها فردوس السعادة والهناء حيث تتعايش المخلوقات : "آنذاك كان الناس يسبحون جنبا إلى جنب مع الأسماك... كانت الأمواج عندما تأتي لتسيح على الرمل تخلف وراءها بعض الأسمال المتنطعة فنجمعها في أكياس من البلاستيك لنقضي ساعات طويلة ونحن نتأملها وهي تنظر إلينا بعيوننا الثابتة محركة ذيولها في كل الاتجاهات..." هي نوستالجيا لعالم كان يحيا في ظل قيم ومعان راقية وجميلة أعدمتها أياد آثمة. نيني يذكر المغاربة من الغالبية الشعبية طبعا بماضيهم "الجميل" قبل أن تموت فيهم المعاني.. يذكرهم بما كان يجمعهم وبما كان يصنع لحظات سعادتهم في مغرب ما بعد الاستقلال يوم كان المواطن مازال يحمل من الأمل والحلم ما يجعله يعيش بعض السعادة وسط الحرمان قبل أن تخور كل تلك الأوهام ويصير المغربي مريضا عليلا معتلا متعلقا بمادة لا يصله منها إلا القليل، وفاقدا للمناعة الاجتماعية والثقافية والأخلاقية والدينية التي تجعل المرء يحقق توازنه النفسي والأخلاقي، فصرنا نسمع عن جزار وزبانيته يذبحون عائلة بأكملها في مكناس دون رحمة، وعن الأم التي تقتلها ابنها ، وعن الابن يدس خنجره في الأم والأب، وعن الزوج يقتل زوجته ليهرب مع حبيبته، وعن الزوجة تقطع زوجها إربا إربا طمعا أو انتقاما... ينجح نيني من خلال كتابة في وضع الإصبع على الجرح المجتمعي ويبرزه ، ويذكر بتلك المعاني التي صارت في خبر كان... ولا يفتأ في اتهام النسق السياسي والثقافي الحاكم بقتل تلك المعاني وإعدامها. يقول في "عندما تموت المعاني"متأسفا يقول على لسان الفيلسوف الذي يخاطب نيرون: "إذا احترقت روما فسيأتي من يعيد بناءها، وربما .. لكن الذي يحز في نفسي أنني أعلم أنك فرضت على شعبك تعلم شعر رديء فقتلت فيهم المعاني... وهيهات إذا ماتت المعاني أن يأتي من يحييها من جديد..." ويضيق مفسرا الحكمة ورابطا إياها بحكاية الوطن: " الامر على طيلة ثلاثين سنة من القمع والرعب قتل المسؤولون عن أمننا الكثير من المعاني.. قتلوا الوطنية وحولوها إلى مجرد وسام تافه يعلقه بعض المخصيين وعملاء الاستعمار.. قتلوا النخوة والكرامة في النفوس.. وأرادوا تحويلنا إلى مجرد قطعان يسوقونها نحو المراعي قتلوا الحب في النفوس.. وتعهدوا بالرعاية حبا واحدا لا شريك له هو حب المال... كم هم مشغولون بالبناء والتشييد وترميم الحيطان والأسوار.. جدار المعاني ياسيدي الملك. الشعب لا يحيا فقط بالخبز والماء وإنما أيضا بالمعاني...إن وزراءكم فرضوا على الناس تربية رديئة فقد معها المواطنون الكثير من المعاني.... لقد كرهوهم في أنفسهم وكرهوهم في وطنهم وكرهوهم حتى في الهواء.. لذلك تراهم يجمعون حقائبهم ويرحلون" قراءة عمود رشيد نيني تصبح تصفح ألبوم ذكريات جيل ووطن... قراءة عمود نيني رصد لثقافة وعادات أغلبها انقرضت إلا ما ندر.. قراءة عمود نيني استحضار نوستالجي للجميل المشترك بين جيل بأكمله.. رشيد نيني نوستالجيا جيل ورمانسية وطن.. [email protected]