هناك مفارقة عجيبة في مجتمعنا العربي. فبقدر ما تُسرف شعوبنا في استهلاك الصور وبشراهة، تتعامل النخبة المثقفة لدينا مع الصورة ووسائطها بالكثير من الحيطة والحذر، وأحيانا بتجاهل. وإذا كان البعض يتفادى التلفزيون، خصوصا القنوات الوطنية، بسبب شُبهة تماهيها المطلق مع الخطابات الرسمية، فإن من مثقفينا العرب من يرى أن التواصل عبر التلفزيون من حيث المبدأ يشكل إساءة إلى نبل الكلمة ونيلا من شرف الثقافة. هكذا تحافظ هذه الفئة من المثقفين على نقائها باتقاء الظهور على الشاشة دون أن تطرح للتفكير إمكانية المراهنة على هذا الوسيط الحيوي في معركتها الأساسية، معركة دعم دينامية التثقيف والتحديث داخل المجتمعات العربية. لقد انتقلت شعوبنا العربية مع الأسف من الشفاهية إلى استهلاك الصورة قبل أن تكتسب عادة استهلاك الصحيفة والمجلة والكتاب. لأجل ذلك سرعان ما اكتسح التلفزيون المشهد ليصير المرجع الأول لدينا، بل والوحيد بالنسبة للفئات الأمية من مجتمعنا العربي. وحينما يغيب المثقف عن هذا المعترك، فإن الجوّ سيخلو طبعا لغيره، وكلنا يعرف من يصول ويجول على شاشاتنا العربية اليوم ومن اكتسح المشهد. وإذا كانت فئة من المثقفين تتحاشى الظهور التلفزيوني، فإن المثقف الذي اقتنع بأهمية هذا الوسيط وأولوية التواصل مع الناس عبره لا يجد الطريق معبّدة نحو عقول المشاهدين. فزمن الثقافة في التلفزيون محدود أصلا، ومقصي إلى فترة الجزء الثاني من السهرة وأحيانا إلى منتصف الليل بعيدا عن فترات الذروة التي ينذرها التلفزيون لفئات أخرى محظية عادة ما تستفيد من الزمن التلفزيوني بحاتمية لافتة: ممثلين وفكاهيين حتى ولو كانوا مبتدئين، مطربين ومطربات حتى ولو كانوا من الدرجة الثانية، سياسيين وحزبيين حتى ولو كانوا مجرد تجار انتخابات. لكن منطق التلفزيونات العربية قدَّر أن هؤلاء أقرب إلى الوجدان العربي وأقدر على مخاطبته من نخبة ثقافية وأدبية وفكرية "متحذلقة" تدّعي أنها هي من يصنع الوجدان. هكذا يخصِّص التلفزيون العربي لمحظيِّيه مساحة البث الكافية ليتواصلوا مع مشاهديهم الأعزاء في أوقات الذروة، وهو أمر بقدر ما يحبط الأدباء والمفكرين والفاعلين الثقافيين في بلادنا العربية يعكس توجيها للمشاهدة وتبخيسا لصُنّاع الوجدان من أدباء ومبدعين ومثقفين. وعموما التلفزيون اليوم سلطة حقيقية وسط مجتمعات يجب أن نعترف بأن قدرتها على التمييز محدودة وحسّها النقدي ضعيف. لذا فالنماذج التي تسوَّق في فترات الذروة هي بالتأكيد، في تقدير العموم، أهمّ من تلك التي لا تظهر إلا في منتصف الليل. بغضِّ النظر عن الفكرة والخطاب والرؤية، فزمن البث ومساحته سلطتان حاسمتان تُرجِّحان الكفة لصالح فئات ضد أخرى. لكن، من سمح للتلفزيون بأن يُعلي من قيمة المشتغلين بالتمثيل مثلًا ويقلل من شأن المثقفين عبر اختيارات البرمجة والبث؟ طبعا للتلفزيون حساباتُه المشروعة، فالمنافسة على أشدِّها بين القنوات، والمُشاهد ملول متبرِّم وشدُّ انتباهه وضمان ولائه يحتاج إلى مجهود جبار. لأجل ذلك تبذل إدارات التلفزيونات العربية قصارى جهدها لكي تظل دائما عند حسن ظن "مشاهديها الأوفياء". ولأن الوفاء اليوم صار قابلا للقياس، فللمتابعة نِسَبٌ معلومة والمُعلِنون يتعاملون مع المحطات التلفزيونية بناء على هذه النسب لتتطور الأمور باتجاه مقاربة تشاركية صار معها المعلنون ينتجون برامجهم أحيانا أو يفرضون نجومهم خصوصا في الدراما والكوميديا الرمضانية، وكل ذلك في سياق عربي نعرف أعطابه السياسية والاقتصادية وتردي وضعه التربوي والاختلالات التي طالت منظومة القيم لديه. إن التلفزيونات التي نحكي عنها عمومية في الغالب ويسري عليها ما يسري على المرفق العمومي، لذا فهي مطالبة بما نطالب به باقي المرافق العمومية من خدمات يجب تقديمها للمواطنين لتبرير وجودها وتسويغ ما تحصل عليه من دعم مالي حكومي مموَّل من جيوب دافعي الضرائب. لذلك نتجرأ على طرح السؤال التالي: ماذا عن دور الوسيط التلفزيوني في بلدان تحتاج إلى تأهيل حضاري وتنمية بشرية كبلداننا؟ أوليس مطالبا بالاضطلاع بمهام الإعلام والتربية والتثقيف، إلى جانب الترفيه طبعا؟ السؤال مزعج والتحدي صعب، لذلك فضلَتْ أغلب القنوات العربية التعامل معه بمنطق "كم من حاجة قضيناها بتركها". هكذا تحوَّلت الشعوب والمجتمعات إلى "مشاهدين أعزاء" الكل يخطب ودهم بالحق والباطل، وتكرست هيمنة شركات الإعلان وشركات الإنتاج المرتبطة بها موطدة حضورها في كواليس المحطات العربية لتفتح إنتاجنا التلفزيوني على أفق تجاري محض. فتغيرت المعايير لتُتوَّج نسبة المشاهدة قيمة القيم، بل هي التي تحدِّد قيمة المنتوج التلفزيوني، ليصير المضمون الجاد والعمق الفكري والوظيفة التربوية مجرد كلام فارغ لا يصمد أمام ديكتاتورية نسبة المشاهدة وحمِيَ وطيس المنافسة بين القنوات وها نحن نلهث جميعا باتجاه المجهول. وحتى الآن ما زلنا لم ننتبه إلى أن هذه المنافسة تتم أصلا في المعترك الخطأ. فالتنافس على الرفع من نسب المشاهدة بجميع الوسائل والمواد حتى لو كانت خردة مسلسلات مكسيكية رخيصة أو مجموعة من السيتكومات الملفّقة، والفوز بأكبر نصيب ممكن من كعكة الإعلانات حتى ولو جاء ذلك على حساب هوية القناة والتزاماتها إزاء المجتمع، مثل هذه المنافسة لا نجد فيها رابحًا. لأننا ببساطة قد نكسب المزيد من المشاهدين وبالتالي المزيد من الإعلانات لكننا نخسر الإنسان. وأعتقد أن قنواتنا الوطنية والعربية، خصوصا تلك المُلزَمة بواجب الخدمة العمومية، معنية بمصاحبة المشروع المجتمعي الشامل في مجال التنمية البشرية. إذ لا يمكن للدولة أن تفتح أوراشا اقتصادية وتنموية، خصوصا على مستوى التنمية البشرية، دون أن يساهم الإعلام- والتلفزيون بالخصوص- في مصاحبة هذه الأوراش بمجهود محسوس في مجال تأهيل الإنسان على المستوى الثقافي والتربوي والقيمي. وهنا لا أتصور أن بإمكان المسلسلات المكسيكية أن تفي بالغرض مهما علت نسب مشاهدتها. لا بد من إنتاج أصيل أولًا، ولا بد من مواد وفقرات أكثر جدية ومسؤولية: دراما وطنية عميقة وذكية تنصت لتحولات المجتمع وتفتح مشاهديها على خيارات هادفة وتُروِّج من خلال أبطالها لقيم إيجابية سواء انتمت إلى المنظومة القيمية القديمة كقيم التكافل والتآزر والقناعة، أو إلى المنظومة الحديثة بكل ما تكثفه من قيم المواطنة والحرية والاختلاف واحترام الآخر. برامج إخبارية تقارب مادتَها بموضوعية ومهنية وبروح تحليلية نزيهة. وبرامج ثقافية تصدُر عن اقتناع بأولوية الثقافة في معركة التنمية البشرية وبناء المواطنة الفاعلة وتأخذ بعين الاعتبار أهمية وحساسية دور الوسيط التلفزيوني في تثقيف المجتمع خصوصا مع اكتفاء الغالبية العظمى من مواطنينا بالتلفزيون كوسيط يقدم الأخبار والمعرفة في ظل ما ذكرناه من تراجع للقراءة التي لا يتجاوز متوسطها لدى الفرد العربي ست دقائق سنويا مقابل 200 ساعة بالنسبة للفرد الأوروبي. لأجل ذلك أعتبر تعزيز البرمجة الثقافية في التلفزيون مطلبا حيويا. فيجب أن تكسب الثقافة مساحات جديدة على الشاشة لأن التلفزيون كوسيط صار يلعب اليوم دورا محوريا في صناعة الرأي العام والوجدان الجمعي. وعلينا أن نختار، هل نريد شعوبا يقظة لها حد أدنى من المعرفة والوعي والقدرة على التمييز؟ أم نريد كائنات استهلاكية هشة لا مناعة لها ومستعدة لابتلاع أي خطاب مهما كان سطحيا وحتى لو كان خطيرا وتتلقى الفرجة السطحية والتفاهات برضى وتسليم؟ عمومًا حاجة التلفزيون إلى الثقافة وأهمية الوسيط التلفزيوني في الترويج للثقافة والخطاب الثقافي يفتحنا على نقاش طويل وجدي نحن مهزومون فيه إذا ما واجهَنا خبراءُ نسب المتابعة بمنطقهم وحساباتهم وما يبرِّرون به اختياراتهم التجارية المحضة من إكراهات. لذلك نحتاج وباستعجال إلى قرارات سياسية شجاعة من طرف الحكومات إذا كانت لهذه الأخيرة مشاريع مجتمعية حقيقية وكانت تحتاج شعوبها فعلا في معارك المستقبل وفي تحديات بناء إنسان المستقبل. لقد شاهدنا كيف لعبت بعض الفضائيات العربية لعبة الإعلام السياسي التحريضي ونجحت في ذلك سياسيا وتجاريا، وكيف ردت عليها فضائيات أخرى مهمة بالمسلسلات المكسيكية الماراطونية المدبلجة وهو ما وجدت فيه بعض الأنظمة السياسية الهشة والقنوات الرسمية التابعة لها فرصة لاسترداد المشاهدين خصوصا من النساء وفئة الشباب. لكن، ألم يحن الوقت لكي نجرب الطريق الآخر: طريق الفرجة الهادفة والعمق الثقافي والنقاش الديمقراطي ما دمنا جميعا نهفو إلى أفق ديمقراطي؟ فلماذا لا يجرب التلفزيون العربي طريقا ثالثا لا تحريض فيه ولا استبلاد؟ إن الثقافة هي عنوان هذا الطريق الثالث. لكن جزءا مهما من الإعلام المرئي العربي يعيش في انفصال تام عن أية خلفية ثقافية، وبدأ يبتعد بالتدريج عن مقاربة قضايا السياسة والمجتمع والفن انطلاقا من منظور ثقافي. رغم أن للثقافة دورا جوهريا في تأطير المجتمع وتخليق الحياة العامة وتحصين المجال السياسي من التطرف والمذهبية المنغلقة، وكذا في إضفاء المعنى والروح والدلالة على الإنتاج الفني بمختلف أصنافه. والإحساس بأن بإمكاننا اليوم أن نتطور ونتقدم ونساهم في تحديث الفن والمجتمع والعمران والسياسة بدون حاجة إلى الثقافة وبدون خلفية ثقافية تؤطر ذلك كله أمر يدعو فعلًا إلى القلق. هناك هوة سحيقة اليوم بين النخبة الثقافية والمجتمع. والتلفزيون العمومي الذي يفترض فيه أن يضع إمكاناته ومساحات بثه في خدمة المواطنين لا المعلنين مُطالبٌ بفسح المجال أمام المثقفين للمساهمة في تأطير المجتمع وتوعيته فكريا وتحصينه ثقافيا وتفتيح مداركه وتعزيز قدراته على النقد والحوار. هذه مسؤولية التلفزيون العمومي وواجبه كمرفق يقدم خدمة للمجتمع. فلماذا نجد كل صعوبات الكون في تنبيه التلفزيونات العربية إلى أدوارها البديهية، وفي إقناعها بأنها مطالبة باحتضان مثقفي الأمة وإعطائهم الفرصة ليطلوا عبر شاشتها ويُسمِعوا أصواتهم من خلالها؟ إن الإعلام بشكل عام، وليس التلفزيون فقط، يتحمل مسؤولية كبرى في لعب دور الوساطة ما بين الثقافة والأدب من جهة والمجتمع من جهة أخرى. لكن المشكلة هي أن الإنتاج الرمزي لا يحظى بالاعتبار اللازم في قنواتنا العربية لأن منطق الاستهلاك لا يعترف بما هو رمزي. والإنتاج الثقافي والإبداع الأدبي يدخلان في إطار الإنتاج الرمزي الذي يساهم في صناعة الوجدان العام ويرفع من تحضُّر المجتمعات. والأدب بالخصوص ما زال مظلوما في مجتمعاتنا العربية. فلا أحد من خبراء نسب المشاهدة يبدو مستعدا لاستيعاب أولوية أن يساهم التلفزيون في دعم الأدب والإنتاج الأدبي وأن يعتبر ذلك جزءا من دوره في بناء مجتمعات متزنة، منفتحة، بل وحالمة أيضًا بالمعنى المنتج الخلاق لهذه الكلمة. وإذا كان المثقفون العرب اليوم من مختلف الدول والأقطار يطالبون بمضاعفة المادة الثقافية وتعزيزها بمساحات أوسع في خرائط البرمجة وأيضا بتوقيت أفضل يتيح لهم التواصل مع أكبر عدد من مواطنيهم، فإن الحاجة إلى الثقافة في التلفزيونات العربية تتعدّى هذه المطالب إلى تحديات أكثر جوهرية. فما نحتاجه اليوم باستعجال هو توسيع مجال الثقافة أولاً لتتجاوز حدود الأدب والإنتاج الفكري والفلسفي. نحتاج فعلا إلى إخراج البرامج الثقافية من شرنقة النظرة الأدبية الضيقة إلى الأفق الثقافي الواسع. فإضافة إلى الانشغال بالأسئلة الأدبية والإبداعية والفكرية، يجب أن تتحول البرامج الثقافية إلى منابر يمارس من خلاله الفاعلون الثقافيون في البلاد العربية حوارهم مع المجتمع وقضاياه. فتبنّي المقاربة الثقافية لقضايا المجتمع يجب أن يحتل مكانه في صلب السياسة التحريرية لبرامجنا. نحن في أمس الحاجة إلى صوت المثقف ليدلي بدلوه في الشأن السياسي والديني والاقتصادي والاجتماعي، وليقترح تحليله الخاص لمختلف الظواهر السياسية والاجتماعية. وهناك اليوم العديد من الموضوعات المطروحة للنقاش المجتمعي في العالم العربي نتصوّر أن المقاربة الثقافية قد تُنْصِفها أكثر مما تفعل لغة السياسة وذرائعية السياسيين. بل حتى ونحن نعيش الحراك العربي الراهن، نحتاج إلى صوت المثقف لصناعة رأيٍ عامٍ يعرف ما يريد أيضًا وليس فقط ما لا يريد. إن الديمقراطية أفكار ورؤى ونقاش، وهي تصدر عن الفكر وتأتي من الكتب مهما تغزَّلنا بحيوية الشارع. إن الديمقراطية حوار أفكار وصراع مشاريع مجتمعية وبناء مؤسسات، قبل أن يكون غضبا وشعارات. والتلفزيون الذكي هو الذي يستطيع في هذه الفترة الدقيقة إتاحة المجال أمام النقاش المعرفي بطريقة تخدم إعمال العقل وتعيد للتفكير النقدي موقعه داخل الفضاء التلفزيوني العمومي وداخل المجتمع، والمراهنة على الحوار لكي نذهب به أبعد من الشعار. إن هناك طلبا متزايدا على السياسة في التلفزيون في ظل الربيع العربي الحالي، وعلى المثقفين ألا يتركوا المجال فارغا في هذه اللحظة بالذات، لأنهم أقدر من غيرهم على تفكيك الشعارات وتشريح الخطابات وفضح الملفق منها. وإذا كان أغلب السياسيين يفضلون التماهي مع الوجدان العام والتملق إلى الجماهير بخطابات شعبوية، فإن دور المثقف بالذات هو تعزيز الحس النقدي للمجتمع ودعم قدرته على التمييز. إن هناك طلبا ذا صبغة استعجالية على الديمقراطية في العالم العربي، وهنا أيضا نحتاج إلى مصاحبة المثقف لكلا تتحول الديمقراطية إلى مجرد انتخابات وتصويت وأمور تقنية. فالديمقراطية ثقافة بالأساس، وللعمل الديمقراطي بُعد بيداغوجي تظل النخبة الثقافية أقدر من غيرها على ترسيخه. على المثقفين أن ينتبهوا إلى أن هناك في القنوات العربية من يريد عزلهم داخل غيتوهات تلفزيونية يتحاورون داخلها بالشفرات والرموز بطريقة تعمِّق اغترابهم عن مجتمعاتهم. لأجل ذلك عليهم أن يتحرّكوا هم أيضا باتجاه التلفزيون للمطالبة بحقهم المشروع في التواصل مع قرائهم، الذين لا يقرؤون، عبر الوسيط المتاح والأكثر ديمقراطية، التلفزيون، بلغة رشيقة لا تتعالى على المشاهدين، وأن يبذلوا مجهودا تواصليا لجعل السؤال الثقافي والسجال الأدبي والموقف الفكري في المتناول. فعبر التلفزيون لا الكتب والندوات يمكننا أن نحوِّل الشأن الثقافي اليوم إلى شأن عام، وعبر التلفزيون والإذاعة قبل الصحف والمجلات يمكن للمثقف أن يساهم في خلق نقاش عمومي حقيقي في المجتمع. لنكن واضحين، لا يمكن للبلدان العربية أن تتقدم نحو المستقبل فقط بنخبتها السياسية. فالنخبة الثقافية تبقى ذات دور أساسي. المثقفون يُنتجون الأفكار التي تحرك المجتمعات. ومن الضروري تحقيق نوع من المصالحة مابين منتجي الأفكار ببلادنا والتلفزيون الذي يبقى القناة الأكثر فعالية في مجال الترويج للأفكار وتقريبها من مدارك المواطنين. لذا فردم الهوة بين المثقف والمجتمع يجب أن يُعتمَد هدفا مركزيا لكل القنوات الحريصة على خدمة مشاهديها وعلى استقرار بلدانها. إن الطابع الاستعجالي لمطلبي تعزيز البرمجة الثقافية في التلفزيون، وإتاحة المجال أمام المقاربة الثقافية لقضايا المجتمع يجب ألا ينسيانا أن حاجة التلفزيون إلى الثقافة هي أكبر مما حاولنا الإحاطة به في هذه الورقة. إن التلفزيون، باعتباره آلية تنشئة اجتماعية ذات دور حاسم في المجتمعات الحديثة، يحتاج إلى أن تخضَع برمجتُه من ألفها إلى يائها إلى تصور ثقافي واضح. والنقاش منذ البداية لا يمكنه أن يكون إلا ثقافيا. ويجب أن يبدأ بمعرفة طبيعة الإنسان عندنا، تركيبته النفسية، شرطه السوسيولوجي، قيمه وتطلعاته، وكذا ثقافته السياسية ونوعية المستقبل الذي نريده للبلاد دولة ومجتمعًا. وحينما تتشكل لدينا تصورات واضحة عن الفرد والمجتمع يمكن إذّاك لدورتي الإنتاج والبرمجة أن تنطلقا بسلاسة ووضوح. حينها فقط سنكتشف أن اختيار فقرات سهرة نهاية الأسبوع الفنية هو في العمق مسألة ثقافية. وأن اختيار سلسلة لرسوم الأطفال المتحركة قرار يستحيل اتخاذه دونما تنسيق مع رجال التربية في البلد. وأن الدراما، سواء أنتجناها في استوديوهاتنا المحلية أو استوردناها من أصقاع بعيدة، تظل في صلب مسألة القيم ويمكنها أن تلعب دورا خطيرا في بلبلة قيم المجتمع ما لم نناقشها بجدية انطلاقا من تشخيص سوسيولوجي واضح للتحولات التي طالت وتطال منظومة القيم لدينا. لم تعد الأسرة ولا المدرسة ولا الشارع ولا غيرها من فضاءات التنشئة الاجتماعية تمارس نفس التأثير الذي كان لها في السابق على نفسية الطفل وسلوك المراهق. لم يعد المسجد والمقهى والسوق وفضاءات الاجتماع التقليدية تمارس على الكبار نفس التأثير الذي كان لها في السابق. فقد صار التلفزيون اليوم الآلية الأكثر تأثيرًا على البشر: صغارا وكبارا، أفرادا ومجتمعات. ووحده التصوّر الثقافي العميق الواضح يمكنه أن يتحكّم في آلية بهذه الخطورة ويكبح جماحها. ومع ذلك مازال بيننا من يرى أن التلفزيون سيفقد بريقه ووهجه إذا ما ذكرت داخل استوديوهاته، ولو عرَضًا، كلمة ثقافة.