إن المتأمل في الأساليب الإنشائية في شعر عنترة بن شداد العبسي و زهير بن أبي سلمى يلاحظ أن كل شاعر حاول ان يستخدمها استخداما خاصا، خاضعا لتنظيم معين وحاول أن يصوغها بالقدر الذي يمكنه من خلق نوع من التواصل الفني بينه وبين المتلقي حسب القدرة التعبيرية لكل شاعر وحسب بواعثه النفسية. لقد حاول كل شاعر من وجهة استخدامه لهذه الأساليب، الكشف عن صور التناقضات في ذلك العالم المحيط به، فتفاعلت شاعريته بكل مظاهرها، كما تفاعلت بالأحداث التي وقعت فيها، وتكونت منها تجارب وعواطف وانفعالات نفسية، عبر عنها في قصائده بقالب إنشائي؛ هذا الإنشاء يكشف عن هذه الحقائق النفسية والذاتية ويكشف أيضا عن خصائص فنية مناسبة تزيد التعبير الإنشائي قيمة جمالية ذوقية قادرة على إنجاح التجربة، كما تزيده حلاوة وروعة في نظر المتلقي وتجعله قادرا على الفهم. ومن ثم كانت الدلالات الفنية، إلى جاني الدلالات النفسية، تشكل كتلة موحدة لقراءة عميقة وواسعة للأساليب الإنشائية وفي تفسير أدق لمعانيها المتولدة. وعلى العموم يمكن تبين الدلالات الفنية للأساليب الإنشائية عند الشاعرين من عدة نواح نستطيع أن نحددها في مظاهر: « التعبير بالجملة (الإيقاع)، والتكرار والإيجاز...»(1). وهكذا تتجلى لنا الدلالة الفنية للنظام الإنشائي أول ما تتجلى في كونه مظهرا من مظاهر التعبير بالجملة(2) (الجملة الإنشائية) والأصل الذي يتصل به هذا المظهر هو أن الغرض من التعبير بالجملة الإنشائية، هو إظهأر فكرة تامة في إطار التنسيق بين الشكل والمضمون وإيصال ما في النفس من عواطف، وإحساسات للمتلقي، في قالب خطابي جميل ومنظم ومؤثر. وبالنظر في أشعار الشاعرين وفي دراستنا للأساليب الإنشائية، رأينا أن الجملة الإنشائية على اختلافها تعبر عن حالات نفسية لكل شاعر، وبذلك تكون قادرة وبنجاح كبير على نقل كل حالة بأمانة ودقة متناهية، وهذا هو هدفها العام والأصيل، غير أن التركيب الفني للجملة الإنشائية ينضاف إلى هذه الدقة وتلك الأمانة ويمنح الجملة قوة تأثيرية إضافية. ولتوضيح الصورة أكثر، نتمعن في قول عنترة: يا دَار عَبلةَ بالجَوَاء تَكَلّمِي وعِمِي صَبَاحاً دَار عبْلةَ واسْلمِي(1) وفي قول زهير: فَلمّا عَرفْتُ الدّارَ قُلتُ لِرَبعِهَا ألاَ عِمْ صَبَاحاً أيُّها الرَّبْعُ واسْلَمِ(2) حين نقرأ هذين البيتينن نتلمس رسما وتراصا وتتابعا منظما للجمل الإنشائية (يا دار عبلة تكلمي عمي اسلمي / عم أيها الربع واسلم) بحيث تكوّن إيقاعا موسيقيا خاصا يتماشى ومشاعر الشاعرين لحظة وقوفهما على ديار محبوبتهما، على اعتبار ان كل واحد منهما يسعى إلى ترتيب الأحداث حسب درجات الانفعال ( من الاستقرار إلى الشدة والضعف)، وهكذا فنداء الشاعرين لا يكاد ينفلت من لسانهما ويرتفع هياجه، حتى ينخفض إيقاعه مع الأمر، وكذلك مشاعر الشاعرين، فهي أيضا لا تكاد تنفجر وتتقوى حتى يخفت صداها مستسلمة لأثار الحسرة والأسى والحزن على واقع تلك الديار. وغايته كل شاعر من ذلك لا شك، تهيئة المتلقي لاستقبال تركيب الجمل الإنشائية في أحسن ترتيب وتشكيل. والحق ان تساق الجمل الإنشائية بهذا الشكل، هو في حد ذاته تعبير فني له قيمة جمالية تطاوع رغبة كل شاعر في التعبير عن مكنونات صدره، وتكون عونا له في الكشف عن هذه المكنونات. والمخاطب بهذه الجمل وفي هذا النسق الكلامي المتزن والجميل يزداد إقبالا ونشاطا، بل يجد فيها منبعا فنيا وإيقاعا متكاملان ونغما صوتيا رائعا. ومن هنا كان التعبير بالجملة الإنشائية ذا دلالة فنية تقوم على تقوية مضمون الكلام في نفسية السامع من جهة التركيب والإيقاع. ثم إن الدلالات الفنية للنظام الإنشائي تقوم أيضا على عنصر التكرار. ولعل التكرار عند النقاد مظهر من مظاهر القوة في الإقناع والتأثير، وعاملا من عوامل جدب المتلقي للرسالة اللغوية. على أن اهمية تكرار الأساليب الإنشائية في شعر الشاعرين تتمثل في الإيضاح والبيان وإثارة الانتباه وتاكيد المعنى. ولعلنا لا نخرج عن جادة الصواب إذا قلنا ان من مظاهر تكرار هذه الأساليب في شعر الشاعرين هو تراكم وتتابع مجموعة من الأساليب الإنشائية في وحدات عضوية ومواضيع معينة على حساب مجموعة أخرى. وهكذا لاحظنا ان الاستفهام والأمر والنداء هي أكثر الأساليب تكرار وشويعا من النهي والتمني، في شعر الشاعرين ومن ثم ،نستنتج ان الأساليب الإنشائية الأكثر استعمالا تكثر وتتكرر بصفة عامة في مواقف تجد فيها الشاعران يعبران عن الشعور باضطرابات نفسية وذاتية، بل وعن الرغبة الأكيدة في انتزاع التأثير من المتلقي (الفخر) عند عنترة والمدح والهجاء عند زهيروتقل حيث تخفت هذه الرغبة لتعكس الإحسساس بعدم الشعور بالضعف او الحزن ( المدح والرثاء عند عنترة، والفخر والتهديد والتحذير عند زهير). ومن هنا كان التكرار أيضا من اهم الدلالات الفنية للأساليب الإنشائية في شعر الشاعرين. كما ان الدلالات الفنية للنظام الإنشائي في شعر عنترة وزهير تقوم أيضا على عنصر الإيجاز. ولعل الإيجاز عند النقاد من اهم الأبعاد الفنية التي تثير في نفس السامع حب المتابعة والتلقين وتبعد عنه الملل والنفور ومن تم يكون التعبير الموجز أكثر قدرة على الإقناع والتأثير. هذه الأهمية الفنية للإيجاز تقوم على أساس أن الغرض من الأساليب الإنشائية هو خدمة المعنى الإنشائي وتوضيحه بألفاظ قليلة(1)، « وهذا من شأنه أن يفتح مجال الاتساع أمام نفس المتلقي في تخييل الدلالة الإيحائية للألفاظ، وتصور المعاني المحتملة، (مما) يؤدي بالتالي إلى تحقق الغرض الذي يرمي إليه المبدع في توكيد المعنى وترسيخه في نفس المتلقي وإقناعه به»(2) . وخير شاهد على ذلك قول عنترة: ولقد شَفى نَفسي وأبْرَاَ سقمها قِيل الفوارسِ ويْكَ عنترة أقدمِ(3)
فلفظ الأمر (اقدم) يحمل جميع المعاني المرتبطة بطلب الإقبال من شجاعة وإقدام وبطولة، وتأكدي الذات، والسمو والقوة... وقول زهير: فلما عَرفتُ الدّار قلت لربعِها ألا عِمْ صباحا أيُّها الربع واسلَمِ(4) فلفظ الأمر في ( عم واسلم) يوجد أيضا عدة معان منها التحية والدعاء بالنعيم واستنزال الرحمة والسلامة والحلم بالولادة الجديدة والحب والأمان والاطمئنان... ويتجلى الإيجاز أيضا في خاصية الحذف(5) مثل ما نجده في حذف أداة النداء، يقول عنترة: اصْبِر حُصينُ لمن تركتُ بوجهِه أثراً فإني لا إِخالك تَصبرُ(6)
فالشاعر حينما حذف حرف النداء واكتفى بذكر المنادى (حصين) يكون قد منح أسلوب النداء قيمة فنية، تتمثل في الإيجاز والاختصار بهدف إلفات ذهن السامع بسرعة من جهة، وتعويض الأداة بالتنغيم(1) من جهة ثانية. وهكذا كان الإيجاز أيضا من أهم الدلالات الفنية للأساليب الإنشائية في شعر الشاعرين.
ولعلنا الآن ، نكون قد خرجنا بصورة واضحة عن الدلالات الفنية للأساليب الإنشائية، في شعر الشاعرين، واهم ما يمكن الإدلاء به أن هذه الدراسة الدلالية كشفت لنا عن دور الأساليب الإنشائية في النظم الشعري القديم من جهة، وعما توحيه هذه الأساليب من اضطرابات وتوترات وانفعالات نفسية عند كل شاعر من جهة ثانية، وعن قيمة هذه الأساليب الفنية في شعر الشاعرين من جهة ثانية. ومن تم ،استطعنا أن نتعرف على الغايات والأهداف والأبعاد التي تكمن وراء استعمال الشاعرين للأساليب الانشائية في شعرهما.