الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    "دور الشباب في مناصرة حقوق الإنسان" موضوع الحلقة الأولى من سلسلة حوار القيادة الشبابية        واشنطن ترفض توقيف نتانياهو وغالانت    وفاة ضابطين اثر تحطم طائرة تابعة للقوات الجوية الملكية اثناء مهمة تدريب    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أمن البيضاء يوقف شخصا يشتبه في إلحاقه خسائر مادية بممتلكات خاصة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    رسميا.. اعتماد بطاقة الملاعب كبطاقة وحيدة لولوج الصحفيين والمصورين المهنيين للملاعب    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البعد النفسي و الذاتي في الإبداع الشعري
بين النقد الأدبي القديم و الحديث
نشر في طنجة الأدبية يوم 27 - 06 - 2011

تمهيدا لمناقشة هذا الموضوع، وتمهيدا بالتالي للحديث عن علاقة النفس بالنص الأدبي (الإبداع)، لابد من الإشارة إلى هذه العلاقة من منظور نقدي وبلاغي. ونستهل هذه الإشارة بالقول بأن هذا الموضوع قد شكل ميدانا فسيحا في الدراسات النقدية والبلاغية القديمة منها و الحديثة، واحتوى العديد من الآراء من جانب الشرح والتفسير.
وفي هذا الصدد، اهتم النقاد القدامى كثيرا بدراسة علاقة النص الأدبي بنفسية صاحبه من خلال « البحث في صحة المعاني أو فسادها في الدلالة على حالة الشاعر وملاءمتها لمزاجه وطبعه، وفي العناية بتقويم المحسنات وأساليب الجمال الفني»(1).
وهكذا ،روي عن يونس بن حبيب قوله : « كفاك من الشعراء أربعة امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهيرا إذا رغب، والأعشى إذا طرب، وعنترة إذا كلب»(2). وهذا يفيد في القول ،بأن اختلاف الإنتاج الأدبي له علاقة وطيدة بتباين الأمزجة والطباع. كما يفيد، في القول أيضا، بأن الفروق في تركيب البنية النفسية للشعراء له دور مهم في الاستجابة لدوافع الرغبة و النفور من جهة و دواعي التميز و التفرد . وكان عبد القاهر الجرجاني قد أشار إلى هذا الاختلاف في قيمة الإنتاج الشعري، وذهب إلى القول بأن الشاعر « قد يكون في المديح أشعر منه في المراثي، وفي الغزل واللهو والصيد أنفذ منه في الحكم والآداب»(3) .
وكانت أوضح إشارة نقدية إلى علاقة الأساليب الأدبية والبلاغية بنفسية مستعمليها، هي التي سجلها ابن قتيبة، في كتابه (الشعر والشعراء)، والتي اعتبر فيها« أن للشعر تارات(اوقات) يبعد فيها قريبة ويستعصب فيها رُيّضه، وللشعر أوقات يسرع فيها أتيُّه، ويسمع فيها أبُّهن منها أول الليل [...] ومنها صدر النهار [...] ومنها الخلوة[...]»(4) . كما عبر غيره من النقاد من بعده ،على علاقة البنية النفسية للشاعر بالأساليب الأدبية
(1) تاريخ النقد الأدبي عند العرب، إبراهيم طه، ص : 72.
(2) العمدة ، 1/204 .
(3) الرسالة الشافية، عبد القاهر الجرجاني، ص : 126.
(4) الشعر والشعراء، 1/86-87.
وربطوها بالعملية الإبداعية ربطا وثيقا. وهكذا يقول القاضي الجرجاني : « ثم تجد الرجل منها ( في القبيلة) شاعرا مفلقا، وابن عمهن وجار جنبه ولصيق طنبه بكئا مفحما، وتجد فيها الشاعر أشعر من الشاعر والخطيب أبلغ من الخطيب، فهل ذلك إلا من جهة الطبع والذكاء وحدّة القريحة والفطنة؟ وهذه أمور عامة في جنس البشر لا تخصيص لها بالأعمار ولا يتصف بها دهر دون دهر»(1) . ثم يضيف « والقوم يختلفون في الآخر، ويسهل لفظ أحدهم ويتوعر منطق غيرهن وإنما ذلك بحسب اختلاف الطبائع وتركيب الخلق»(2) . وأكد عبد القاهر الجرجاني من جهته هذه العلاقة ، معتقدا أن العملية التعبيرية الفنية تتحكم فيها أمور غيبية تعلق بالعقل والنفس ، وهي التي تهدي المتلقي إلى إدراك المعاني الدلالية الخفية وقال: « فإذا رأيت البصير بجواهر الكلام يستحسن شعرا أو يستجيد نثرا، ثم يجعل الثناء من حيث اللفظ فيقول، حلو رشيق، وحسن أنيق، وعذب سائغ، وخلوب رائع، فاعلم أن ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف، أو إلى ظاهر الوضع اللغوي، بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده، وفضل يقترحه العقل في زناده»(3)، ثم أضاف عبد القاهر الجرجاني إلى أن معرفة هذه المعاني صعب المنال، لأنها معان خفية، « لا تبصرها إلا ذوو الاذهان الصافية والعقول النافذة، والطباع السليمة والنفوس المستعدة لأن تعي الحكمة، وتعرف فصل الخطاب»(4). وقال الجرجاني في موضع آخر مؤكدا السابق و « اعلم انه لا يصادف القول في هذا الباب موقف من السامع ولا يجد لديه قبولا حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة وحتى يكون ممن تحدثه نفسه بأن لما يومئ إليه من الحسن واللطف أصلا وحتى يختلف الحال عليه عند تأمل الكلام فيجد الأريحة تارة ويعرى منها أخرى، وحتى إذا عجبته عجب، وغذا نبهته لموضع المزية انتبه»(5) .
وقد قفا هذا النهج كثير من النقاد التابعين مثل : ابن طباطبا العلوي ( ت، 322ه) وقدامة بن جعفر ( ت 337ه)، والحسن بن بشر الآمدي (ت 370ه)، وعلي بن عيسى الرماني (ت 384ه)، ويوسف السكاكي ( ت 626ه)، وضياء الدين بن الأثير (ت 637ه)، وحازم القرطاجني ( ت 684ه) وغيرهم... ممن تنبهوا إلى العلاقة بين النص الأدبي، ومزاج وطباع المبدع له.
وبناء عليه ،يمكن القول إن القدامى من النقاد والبلاغيين يعنون بالقضايا النفسية في علاقتها بالأساليب الأدبية من الناحية الفطرية وأن غايتهم لا تخرج عن كونها إشارات وملاحظات مقتضبة تعكس خلاصة تجارب الناقد والبليغ وخبرتهما . واهتمت دراساتهم أساسا بمعرفة أحاسيس الشعراء وانفعالات مشاعرهم وتحديد المؤثرات البيئية
(1) الوساطة، القاضي الجرجانين ص : 16.
(2) نفسه، ص / 17-18.
(3) أسرار البلاغة، عبد القاهر الجرجاني، ص : 3.
(4) نفسه، ص : 50.
(5) دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، ص : 279.
والاجتماعية التي توجه سلوكهم وميولاتهم الفطرية والغريزية، ووصف تعاملهم مع الألفاظ بأوصاف تنسجم وطبيعة كل منهم» أكثر من أي شيء. ومن ثمة أيضا ، كان عنترة بن شداد عندهم مثلا : فارس شجاع، وشاعر مجيد، سهل الألفاظ، رقيق المعاني، على حسب ما يقتضيه كل غرض... وزهيرمثلا ، قاض حكيم، وشاعر فحل، يضع اللفظة موضعها، ويجمع كثير من المعنى في قليل المنطق.... وباختصار، فقد ركز النقاد والبلاغيون القادى في دراستهم لهذه الظاهرة على نقطتين رئيسيتين:
الأولى : معرفة البواعث التكوينية التي دفعت القول الشعري إلى الظهور، وبالتالي معرفة الأسس الفعالة، والمؤثرات العامة التي تكمن وراء كل عمل أدبي، في إطار العلاقة بين الشعور الداخلي والتجارب اليومية والممارسة الفنية وخاصة فيما يتعلق بمعرفة قدرة الشاعر على جعل النتاج الأدبي نوعا من التعويض ينحاز إليه كلما أحس بالنقص (نفسي، أو جسماني، أو اجتماعي)، له انعكاس سلبي على طبيعة حياته اليومية.
والثانية : معرفة الأحوال التي تقف وراء تأثير الأساليب التعبيرية في المتلقي (الرسالة)، إذ كثيرا ما اتجه النقاد والبلاغيون وخاصة في دراسة الصىور الشعرية والأساليب التعبيرية، المباشرة منها وغير المباشرة(1) إلى إبراز دورهما النفسي، ومدى قيمتها الدلالية الوجدانية وتأثيرها في المتلقي .
وأخيرا فقد ركز النقاد العرب القدامى في دراستهم لهذه الظاهرة على ثلاثة عناصر، هي : المبدع، الرسالة، المتلقي.
وإذا انتقلنا إلى الدراسات العربية الحديثة في هذا المجال(2)، فإننا نجد عباس محمود العقاد في طليعة الدارسين الذين ناصروا الاتجاه النفسي في الدراسات الأدبية، وأكدوا على وجود علاقة وطيدة بين الأدب عموما، ومبدعه من الناحية النفسية. بل لقد تأثر العقاد بمناهج ونظريات مدرسة التحليل النفسي الحديثة واعتبرها « أقرب المدارس إلى الرأي الذي ندين به في نقد الأدب، ونقد التراجم، ونقد الدعوات الفكرية جمعاء، لأن العلم بنفس الأدبي أو البطل التاريخي يستلزم العلم بمقومات هذه النفس، من أحوال عصره وأطوار الثقافة والفن فيه، وليس من عرفنا بنفس الأديب في حاجة إلى تعريفنا بعصره وراء هذا الغرض المطلوب، ولا هو في حاجة إلى تعريفنا بالبواعث الفنية التي تميل به من أسلوب إلى أسلوب»(3).
(1) ونقصد بالأساليب المباشرة، أساليب علم المعاني، الطلبية منها وغير الطلبية، وبالأساليب غير المباشرة، المحسنات البيانية والصور البديعية.
(2) ونود ان نذكر في هذا الإطار، أن الدراسات العربية الحديثة، لا تزال متكئة اتكاء كاملا على ما أنتجه الغربيون. ويكفي ان نذكر، علم النفس واستغلاله في دراسة الفن عامة خاصة من طرف : فرويد Sigmond Freud وجاستون باشلار Gaston Bachelard وشار مورون Charles Mouron، وغيرهم...
(3) دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية، عباس محمود العقاد، ص : 112-113.
(1) ونقصد بالأساليب المباشرة، أساليب علم المعاني، الطلبية منها وغير الطلبية، وبالأساليب غير المباشرة، المحسنات البيانية والصور البديعية.
(2) ونود ان نذكر في هذا الإطار، أن الدراسات العربية الحديثة، لا تزال متكئة اتكاء كاملا على ما أنتجه الغربيون. ويكفي ان نذكر، علم النفس واستغلاله في دراسة الفن عامة خاصة من طرف : فرويد Sigmond Freud وجاستون باشلار Gaston Bachelard وشار مورون Charles Mouron، وغيرهم...
(3) دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية، عباس محمود العقاد، ص : 112-113.
وهكذا اقتنع العقاد بوجود علاقة وطيدة بين العوامل البيولوجية والسيكولوجية للشاعر أو الأديب... والعملية التعبيرية خصوصا أو النص الأدبي عموما، كما في قوله مثلا : « لا تعوزنا الأدلة على اختلاف أعصاب ابن الرومي وشذوذ أطواره من شعره أو من غير شعره، فإن أيسر ما تقرأه له أو عنه يلقي في روعك الظنة القوية في سلامة أعصابه، واعتدال صوابه، ثم يشتد بك الظن كلما أوغلت في قراءته والقراءة عنه حتى ينقلب إلى يقين لا تردد فيه»(1) ، ثم أضاف : « وكل ما نعلمه من نحافه وتقزز حسه، وشيخوخته الباكرة، وتغير منظره، واسترساله في الوجوم، واختلاج مشيته، وموت أولاده، وطيرته ونزقه وشهوانيته الظاهرة في تشبيهه وهجائه، وإسرافه في لهوه ولذاته، ثم كل ما نطالعه في ثنايا سطوره من البدوات والهواجس، قرائن لا تخطئ فيها الدلالة الجازمة على اختلاف الأعصاب وشذوذ الاطوار، بل لا تخطئ فيها الدلالة على نوع الاختلال ونوع الشذوذ»(2).
وهكذا ،وجد العقاد أن اختلال أعصاب ابن الرومي، كان له الدور الفعال في إبداعه الشعري، وبالتالي، فإن واقع الشاعر وشعره شيء واحد عند العقاد، « فموضوع حياته هو موضوع شعره، وموضوع شعره هو موضوع حياته»(3).
وقد أكد أمين الخولي من جهته وجود صلة وثيقة بين النص الأدبي وصوره وأسلوبه، بل ومختلف تعابيره من جهة ونفسية مبدعه من جهة ثانية، فحث الدارسين والباحثين على الاهتمام بعلم النفس لتحليل الجوانب النفسية، بل ومختلف الوقائع والأحداث التي رافقت شخصية المبدع، عن طريق « وصل الأديب بأدبه، بحيث نفهم الأدب بشخصية صاحبه، كما نفهم شخصية الأديب بآثاره الفنية»(4).
وبناء على ذلك ،تركزت أعمال الخولي في هذا الشأن على دراسة التكوين الداخلي للمبدع، ومعرفة سلوكه الخارجي، ومختلف تصرفاته، التي تظهر بين الفينة والأخرى في إنتاجه الأدبي، عبر ثنايا الأسلوب(5).
وقد ساند محمد خلف الله تلك الآراء، لكنه دعا إلى دراسة النصوص الأدبية أو الأدب بشكل عام، انطلاقا من مناهج النقد الأدبي القديم ، مبديا في هذا الصدد إعجابه وتأثره، بنظرية عبد القاهر الجرجاني في هذا الشأن، ومعتبرا إياها جزءا « من تفكير سيكولوجي أعم، يطبع كتاب الأسرار بطابعه، فالمؤلف لا يفتأ يدعوك بين لحظة وأخرى إلى تجربة الطريقة النفسانية التي يسميها المحدثون (الفحص الباطني)، وذلك ان تقرأ الشعر وتراقب نفسك عند قراءته وبعدها، وتتأمل ما يعروك من الهمزة والارتياح والطرب والاستحسان،
(1) ابن الرومي، عباس محمود العقاد، ص : 101.
(2) نفسه، ص : 101.
(3) نفسه، ص : 12.
(4) مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب، أمين الخولي، ص : 332.
(5) راجع نفس المصدر، ص : 327 وما بعدها.
ويحاول ان تفكر في مصادر هذا الإحساس»(1) . ثم أكد على أنه من الممكن الاستفادة من نظرية الجرجاني النفسية عن طريق توظيف منهاجها واستغلال أفكارها، لتغذو نظرية حديثة « تنهض بما لم يفطن إليه من نواحي النظرية الأدبية، وتبين ما أجمله من مسالك الأدب إلى النفوس، تعالج ما أشار إليه من ضروب الصور الذهنية [...] منتفعة في ذلك بنتائج الدراسات الأدبية الحديثة، وبما وصلت إليه الفروع الإنشانية المختلفة التي تمت إلى الأدب والفن بأوثق الصلات»(2).
وكتب مستنتجا : « والواقع أن ميدان التحليل النفسي من أخصب ميادين علم النفس، من جهة علاقاته الأدبية، فإن تنقيبه في أعماق النفس الخفية، يقفه وجها لوجه أمام طائفة من المعضلات التي شغلت باحثي الأدب قرونا، ولا تزال تشغلهم»(3).
هكذا دعا محمد خلف الله إلى تبني التحليل النفسي لدراسة الأدب وفنونه بل ودراسة طبيعة الشعر وأغراضه وأساليبه التعبيرية(4).
ولم يخرج محمد النويهي، عن سابقيه في أفكارهم ومناهجهم التطبيقية .وجاءت تفسيراته لهذه العلاقة من خلال دراساته النفسية والبيولوجية لشخصية بعض الشعراء من مثل : ابن الرومي(5) وبشار بن برد، وأبي نواس، انطلاقا من استكشاف العوامل المؤثرة في شخصيتهم وبعض مظاهر سلوكهم ، من خلال أشعارهم و طريقة كتاباتهم و أخبارهم ، معتمدا في كل ذلك على مناهج نفسية حديثة مختلفة، حيث أكد قوله :
« فإنني لم أتبع فرويد هذا الاتباع المذهبي الضيق [...] وإنما تخيرت من شتى الفلسفات النفسية الحديثة الأخرى ما رأيته نافعا في شرح موضوعي الخاص الذي تناولته»(6).
وقد علق أحمد كمال زكي على آراء محمد النويهي في كتابه ( شخصية بشار)(7) وقال : « والكتاب في جملته جاء مظاهرة للتأثير الاجتماعي في الشاعر العظيم»(8).
في حين انتهى محمد النويهي في كتابه الثاني (نفسية أبي نواس) إلى أن هذا الشاعر الذي في رأيه « ولد رقيق التكوين، مشحوذ الأعصاب، بالغ الحساسية، وإلا لم يكن الشاعر الذي نعرفه في حدة شعوره، وسرعة تأثره، ودقة استجابته الشعرية لمؤثرات حياته. ومثل
(1) من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده، محمد خلف الله، ص : 135.
(2) نفسه ، ص : 138.
(3) نفسه، ص : 22.
(4) راجع: المرجع نفسه ، ص :76، وما بعدها.
(5) راجع تعليق أحمد كمال زكي في كتابه : النقد الأدبي الحديث، ص : 184، حول ما جاء به النويهي من آراء في تحليل شخصية ابن الرومي. وانظر الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، عبد القادر فيدوح، ص : 173.
(6) نفسية أبي نواس، محمد النويهي، ص : 185.
(7) راجع: شخصية بشار، محمد النويهي.
(8) النقد الأدبي الحديث، كمال أحمد زكي، ص : 184.
هذا الطفل المستوفز الإحساس يكون عظيم التأثر بأحداث طفولته. فصفحة نفسه غشاء بالغ الرقة تنطبع عليه تجاربه العاطفية انطباعا عميقا، وتهز كيانه هزا عنيفا»(1)، كان يجد في شرب الخمر، و « ارتشافها، ارتضاء لشهوته تلك»(2)، ومحو آثار فقدانه لحنان الأبوة والأمومة (3)، وبالتالي « عجز عن التخلص منها (الخمرة) طوال حياته»(4)، فأقر أن حاجة أبي نواس للخمرة هو كحاجة الطفل نحو أمه وأبيه، وبالتالي رأى أن هذا الشاعر كان يعاني من عقدة نفسية رافقته في نشأته وتربيته الأولى، وتجسدت بجلاء في شذوذه الجنسي(5).
هكذا أثبت محمد النويهي بدوره نجاعة التحليل النفسي الحديث في الكشف عن مختلف البواعث التكوينية التي دفعت الشعر إلى الظهور، وبالأسس الفعالة التي تكمن وراء كل عمل أدبي قام به الشاعر أو الأديب.
وبناء على هذه الآراء والدراسات يلاحظ بجلاء ولا شك، تأثر الدراسين العرب المحدثين بمناهج النظريات النقدية القديمة من جهة وبمناهج التحليل النفسي للدراسات الغربية -علم النفس- من جهة ثانية، واتفاقهم جميعا في القول بأن الشعر كمعطى تعبيري أسلوبي، لا يمكن فصله بأي حال من الأحوال بالبواعث التكوينية والعوامل المؤثرة في شخصية الشاعر، وبأن الشعر بمختلف أساليبه التعبيرية لا يمكن فهمه وتبين ملامحه إلا بالرجوع إلى واقع الشاعر، إيمانا منهم بأن الشاعر ليس سوى نتيجة لهذا الواقع، ومرآة عاكسة له. وبعبارة أدق، يعكس هذا الاتجاه، إيمانهم بأن فهم النص الأدبي، ومختلف أساليبه لا يبدأ من الشعر، بل يبدأ من واقع الشاعر. ومن ثم، جاءت محاولات هؤلاء الدارسين لتحديد خصائص وملامح علاقة الأدب عامة أو الشعر خاصة بنفسية صاحبه، وواقعه المعاش، وكأنها خاضعة لهذه النظرة، أي أنها تخدم أولا وقبل كل شيء فكرة العلاقة الحتمية والبديهية، بين هذا النص وحياة صاحبه.
(1) نفسية أبي نواس، محمد النويهي، ص : 79.
(2) نفسه ، ص : 46.
(3) نفسه ، ص : 80.
(4) نفسه : ص : 52.
(5) راجع نفس المصدر، ص : 55.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.