علي أن أمشي حسب ماخططت له سلفا . إذا قابلتني هلامية الأشياء أنسحب للتو وأترك الذئب يلعب الدور المنوط به . إذا تعاملت معهم بسذاجتي وبداوتي فالذي سوف يتحمل النتائج هو أنا . أنا لا غير . فبعد أن استلمت بطاقة الخدمة الوطنية من الدركي وبين يديي كتاب يحكي قصصا قديمة كنت في هذا المكان والزمان بالذات و فكرت . طويلا طويلا كنت فكرت . ثم من أنا حتى يقيمون لي وزنا أكبر وأجدر مني . مجرد شاب كان نسيا منسيا . أكياس القمح والحنطة تعرف هذا . إذا ألقيت نظرة على ظهري تتراجع خطوة أو ثلاثا إلى الوراء . تتأسف . تتأفف . تركبك حالة غرائبية كالتي نشعر بها ونحن قبالة مريض نعتاده في مستشفى ما . لم آت إلى هذا المكان بإختياري . فالحرية والإختيار قيمتان أخلاقيتان حلمت بهما منذ يفاعتي . ومانفع الزيت في العجينة . كنت أشعر بكثير من فحولتي ورجولتي كلما أوقظ وتدي وأنصب خيمة بين فخذي وأروح أحلم بأيما إمرأة رأيتها في النهار لتلقى نفسها تحتي . أضاجعها بمخيلتي خطفا . تستطيع أن تتفق معي في الكثير من الفواصل والمراحل التي اجتزتها . وربما لا تتفق معي بسبب ماسوف أسرده لك بعد قليل . مع أني واثق كل الثقة أنك ستشاطرني الرأي وتكلل جبهتي بالغار والقبل . فنحن في زمن كنا منحنا له قلوبنا فرجعت مشروخة مدماة . نبضها تغير . والله العظيم تغير كثيرا . يوم ركبت في سيارته شعرت بخوف يركبني من أصابع قدمي إلى الزبيبة التي في رقبتي - خذ المفتاح و أحمل الاولاد إلى المدرسة . هل تعرف العاصمة جيدا ؟ ويلي . ماذا أقول له لو نفيت . سوف ينفيني إلى أبعد نقطة في الصحراء . أنا لا أريد أن أعيش في الصحراء . لا أحبها . أمقتها . ثلاثة او أربعة أيام سوف أقضييها حتى أصل إلى بيتنا . أنا لا أريد أن أصل إلى بيتي متعبا مكدودا . يالطيف . كيف يستطيع أولئك السفر بين الشمال والجنوب مسافة ثلاثة أيام أو أربعة . لا . لا . أنا أعرف السياقة . تعلمتها في الجرّار . كل فلاح كان يأتي بقناطر القمح . الصلب منه واللّين و الحنطة و الفول على جرّاره . أطلب منه على جناح السرعة كي يتركني أتدرب دورة أو دورتين قرب حينا "كرطي الرق" .. رطّبت حلقي بريق جفّ معظمه . وحللت العقدة التي كنت زويّتها بين عيني وأرخيت عضلاتي كلها وقلت : - أعرف العاصمة جيدا أعرفها زاوية زاوية - جميل تركت المفتاح ينام في راحة يدي . عليّ الآن أن أفكر . قليل من التفكير يلخص لي كل ماوقفت قبالته دهشا مشلولا . لعل وعسى . لم يمنحني فرصة كي أسأله متى أذهب بالأولاد . فالجندي الذي دخل مطأطيء الرأس . ذليلا . خائفا . عيناه تترقصان تحت نغمة حزن شجية . حال دون ذلك . لذلك بخطى مسرعة مرتجفة خرجت . العاصمة تمساح . غفلة واحدة ويترحمون عليك . لذلك كان لي من رباطة الجشأ والصبر مايكون بيني وبين المصائب لا قدر الله مسافات طويلة . ومع إحساسي بسذاجتى وبداوتي وغفلتي عن بعض الطواريء والمحطات . شعرت بمسيس الحاجة إلى الحذر واليقظة رغم أني ماكنت حذرا أو يقظا طول السنوات التي عشتها كعامل في المطحنة . كأن تستطيع الحكم علي أني أحيا على نيّاتي ثم لماذا دائما و أبدا يختار القدر واحدا من أمثالي ليضعه في التجربة ؟ أنا أريد الحياة بوجهها الطبيعي . بعفويتي . بتلقائيتي ألست إبن القرية ؟ - العيد تعال هه . زلزال آخر . هذا مالم يدخل في حساباتي . ياربي . أنجو من السدرة يتلقفني القرداش . ترى إين تسير ياالعيد الكومندون وأوامره وحالته الهستيرية التي تركبه من يوم إلى آخر . زوجته كذلك . لم يتبق سوى أبناءه . قبل أن أهم بإغلاق باب السيارة تساءلت : هل أقدّم لها التحية كما أقدمها لزوجها مرات عديدة سحابة النهار ؟ لا . العيد خارج الثكنة الآن . لكن لماذا لم يعلموننا هذه الأخلاقيات والضوابط أثناء الدروس التي نهضمها مع الركلات والصفعات كل يوم ؟ إمرأة مثل هذه ولا أؤدي لها التحية سيقبرني زوجها . يمسحني من الوجود . هه . إنها تناديني للمرة الثانية . اسرع . اسرع يالعيد.. - هأ هأ هأ هأ تضحكين عليّ . معليهش . ضحكتك ولا غضبك . حمدًا لهذه الورطة . مع ذلك لم أستسغ موقفها . من يدري . نساء المسؤولين يتقلبن مثل الزيت على الماء - التحية ليست هنا ياالعيد . هل تحسب نفسك في ثكنة . هنا بيت وأولاد وزوجة .. هأ هأ هأ ... إبتسمت بدوري . مخفيا لعنة أبدية تحت لساني . ثم سرعان ماأطلقتها عليها في خلدي . - خذ الولد صالح إلى المدسة وارجع إلى هنا استجبت لأمرها بإنحناءة . لم يكن صالح ثرثارا أو مشاغبا . ظل صامتا حتى باب المدرسة . في عودتي نسيت الطريق الذي أتيت منه . وبمساعدة سائق سيارة أجرة ضبطت الطريق . كنت أعرف طرقات العاصمة لكن بقدمي . فقد كنت أزورها من مرة إلى أخرى . يوم كان أبي مريضا . لذلك سرعان ماسترجعت ذاكرتي بعض مداخلها ومخارجها - بهذه السرعة جئت ؟ يبدو لي أنك سائق ممتاز لم أنبس ببنت شفة . تركت لساني يخرج من الشفتين غير متعمد . وريق لزج يذهب حتى آخر الحلق ثم يعود . لم أرتعش . أو أني ارتعشت ولم أستفق . ترى لو تكون بين يديك ياالعيد . ؟ لو أن هذا النهد الناهد ينام في الكف التي حرثتها أكياس الحنطة والقمح والفول . اليد الغليظة المشققة . ؟ . تلك الخال التي إنزرعت كحبة عدس صغيرة في الزاوية اليسرى القريبة من الشفة . آه . لو.. ولوهذا الساق الحليبي المدوّر يشعل فيّ الليلةَ حرائق روما . يانيرون تراجع قليلا عن جنونك . ودعني في بداوتي . أعترف مسبقا أنك أنت القوي وأنا الضعيف . أنت صاحب القطع والنطع والفصل والحل . أمري بين يديك فافعل ماتشاء . كنت خارج ذلك المكان بأشجاره وأطياره وخضرة أعشابه وطيب روائحه . او ربما كان الذئب قد بدأ يسترجع قواه ليواصل تعب الرحلة بعدي - هه أين كنت ؟ -كنت أوصلت صالح وعدت .. " غالطها الذئب وهو يرقب ماسوف تصنع"" - هأ هأ هأ .. أنت طيب ياالعيد . هل تصدق أنني في اللحظة التي رأيتك فيها أدركت أنك طيب وخجول وعلى نياتك ؟ إلى أين . أنا لا أدري . وربما كنت أدري ماكانت توّد الوصول إليه من باب الفضول . فلقد شردت وقتا طيبا مع قدّها وجمالها وسحرها الخالص . هل وصلت إلى قناعة تقول لها أن هذا البدوي بدأ يتعدى خطوطه الحمراء ؟ كلامها المعسول . إطراؤها . تقلّب شفتيها بشكل يدعو إلى الإرتماء . المغامرة . التطرّف . أو أنه ينادي على الكومندون توفيق . حتى يضع حدا لأول خطوة بدأ يدفعها نحوي هذا العيد البدوي . مثل القنفذ إنكمشت لحظتها . نهرت الذئب كي يسحب ذيله وينصرف . فليس هذا ملعبنا . تركتني مرتكزا على الجهة الأمامية للسيارة ريثما تعود . خيالاتي رجعت مجددا . نفَسي تصاعد . الرعشة الكبرى حتى بلوغ الذروة التي مباشرة وراءها يغرق هذا المسكين في مطره . لم أخرج سيجارتي . بين أن أبقى على حالي الذي أستطبته أو أن أبتعد كلية عما يرميني إلى التهلكة كنت تائها . أصعب مواقف النفس حين تقف بين مايحلو لها ومايصدها . - هيا لم اسألها إلى أين . ليس خوفا . إنما الذئب أراد أن يمتحنها . تركها هي التي تبادر بالكلام . بالإشارة . بلفتة ما . لعل وعسى . ألم أتكل عليه في سرائي وضرائي ؟ إذن سأتركه وشأنه في طريقنا سألتني في أية ولاية أقطن وهل لك مدة طويلة لم تزر فيها أهلك ؟ وهل أنت متزوج ؟ لم تكد تتركني أنتهي من إجابتي حتى تقصفني بسؤال آخر . وبين الحين والآخر تذهب بعينيها في تأملات مراطونية إلى كامل وجهي وصدري ووتدي الذي حمدت الله أنه لم ينصب خيمته في تلك اللحظة رغم أني كنت بإستطاعتي تحريره من أثقال قيوده فالكومبا قماشها من النوع الغليظ يستطيع أن أن يبني خيمته ولا تظهر فكأنها مبنية في ضيعة هابطة - من هنا - حاضر أجبتها و استرقت نظرة إلى جانب وجهها فبادلتني بنظرة أخرى . لحد هذه اللحظات كل شيء يمشي على الشعرة في ذهن الذئب . أما من جانبي كان ألف هاجس يجرح روحي ويلقي بي في طرقات مظلمة خطرة . خاصة أني تذكرت كلام الكومندون توفيق . يوم رصّنا صفا صفا في ساحة العلم . ونبّهنا على الإحترام الكامل للذي هو أعلى منا في الدرجة "يجب العمل بهذا وإلا ستكون العقوبة أبعد مما يجري في الخيال" أشجعنا بال في سرواله يومها وهناك من أصيب بالإسهال مدة يومين كاملين . فالكومندون توفيق كان حارا في تعامله معنا . أحيانا كثيرة من باب التظلّم والظلام الذي انطبع عليه . فهو مثلا يختلق الأسباب والذرائع غير المرئية والمنطقية . فقط كي يعاقبنا زحفا على البطن والظهر لوقت طويل . زد على أنه كان شحيحا في منحنا الإجازات . ثم أنه يبقى لفترات طويلة في الثكنة . لا ندري لماذا . بل هذا مادفعني وجعلني أقلب فكري في إحتمالات شتى سيأتي وقتها لاحقا . مرّة وهو يأمر جنديين كي يحملان كبشا وكانت المناسبة عيد الأضحى فبقينا ننظره ونراقب على بعد ماذا يجري . لكنه نادى علينا . وصفعنا ثم أمرنا أن ننظف ساحة الثكنة من أعقاب السجائر . طبعا كل واحد في دخيلة نفسه كان يسبه ويشتمه ويقذفه بأقبح الأسماء والنعوت . وتلاءم ذلك مع قبحه الذي يشبه إلى حد ما قبح الحجاج بن يوسف الثقفي . - هذا هو الطبيب انتظرني هنا . لن أطيل عليك وضعت راحة كفي تحت رأسي ومرفقي على إطار النافذة الزجاجية التي طلبت مني أن أفتحها . "هذا الصيف يكاد يخنقني" كما قالت في بداية الطريق . بتثاقل . في مشية الحمامة التي تبحث عن قمريها وقد طال غيابه . وبردفين يحملان بطنا أبيضا طريا كالزبدة ونهدين صاعدين الى السماء . وجيدا بضا لم تقربه تجعيدة ما . جاءت . أثناء رجوعنا طلبت مني أن أشتري بعض الموز والتفاح والبرتقال . حسبت ذلك لها فإذا بها تترجاني كي آخذ الفواكه . أية بركة سقطت من السماء . في الجهة الاخرى إستحسن الذئب كل شيء . وقال أنا أمشي في الطريق الصحيح . رددت عليه : أظن أننا نمشي إلى الهاوية . مشى الحال على ماعليه قرابة الشهر والنصف . لم أحك لأي كان . قلبي مستودع أسراري . بئري الذي أخبيء فيه مخبآتي وشطحاتي . لم أكن أصاحب أحدا . ماعدا ذلك الجندي الذي تركته في اليوم الذي استلمت فيه المفتاح لأول مرة . هذا الأخير نال من العذاب هو وأربعة من زملائه ما يقرح له الكبد . دفعني فضولي كي أتقصى الحقائق فوجدت أن هؤلاء قد تغيبوا مدة أربعة وعشرين ساعة كانوا قضوها عند أهلهم . حاول أحدهم أن يقترب مني حتى أتوسط له عند الكومندون كي لا يحرمه من إجازة الصيف . لكني رفضت . بحجة أني جديد في الثكنة . في تلك اللحظة سمعت نداءا قويا من لدن الكومندون فقفزت راكضا إليه . - اذهب إلى البيت . هل نسيت عملك هناك ؟. احمل المدام الى العيادة كي تأخذ حقنة الأسبوع.. فرحا كنت في تلك الثواني المليئة بالألغاز والطلاسم والصور المبهمة . وقال الذئب : "فرصتك" . انجررجت خلف قلبي . مدفوعا بغريزة ما كتلك التي يشعر بها السجين وقد انفتحت له أبواب السجن على مصراعيها . - ماذا تشرب ؟ - لا . لاشيء . - لا . علييك ان تشرب شيئا . في الثكنة لا يوجد عصير الفواكه . أو قهوة كالتي في التي بيتي . هل تشتهي عصير الموز . ؟ هززت رأسي علامة الرضا . قربت حواف الكأس من شفتي . هي غابت . ذهب خيالي الى القمر . عاد حين عادت . ليتها ماعادت . ليتني بقيت في قريتي بين أربعة جدران . اذا سألوا عني يقول لهم أبي المسعود :"العيد في سفر " . أو ليتني هربت في أول يوم وطأت فيه قدماي هذه الثكنة . أمامي . أمام هاتان العينان اللتان سيأكلهما الدود في الدنيا قبل الآخرة إن كنت أكذب رأيتها تشير إليّ بغمزة من عينها اليسرى . انخطفت . قفزت واقفا دون أن أشعر . ياربي . وعوى الذئب أن تقدم . وتذكرت صورة الحجاج في وجه الكومندون توفيق . كنت قد قرأت بالمطحنة يوم لم أجد ماأطحنه سوى أوهامي وأحلامي كتابا نسيت عنوانه يروي بإسهاب عن زوجة الحجاج . فهند زوجة الحجاج وقد مرت سنة على اقترانها به تربعت أمام المرآة وانشدت تقول : وماهند إلا مهرة عربية .. سليلة أفراس تحللها بغل فإن أتاها مهر فلله درها .. وإن أتاها بغل فمن ذلك البغل وغضب الحجاج لما سمع ماقالت فأرسل الخادم ومعه عشرين ألف دينار . فأعطت الخادم هذا الثمن كبشرى على طلاقها . وبقيت تقول لن اتزوج بمن هو اقل من الحجاج وسمع بها عبد الملك بن مروان حين وصفوها له بأنها عظيمة الثديين فقال : "تدفيء الضجيع وتشبع الرضيع " فخطبها واشترطت عليه أن يدفع بالبغل او الجمل الى حيث يوجد الحجاج وقبل الشرط وحين كان يسوق الحجاج الراحلة أسقطت من يدها دينارا فقالت " ياغلام لقد سقط درهمي فناولني إياه فقال لها الحجاج إنه دينار وليس درهما فردت عليه " الحمد لله أن بدلني الله بدل الدرهم دينارا" ففهمها الحجاج وبلع يبوسة ريقه .. لكني لست عبد الملك بن مروان هذا اذا وضعت في جعبتي أن التوفيق هو الحجاج بعينه . ياربي . لماذا في هذه الساعة بالذات ؟ . كان يمكن لي أن .. " أن ماذا .؟ دعك من الأن هذه وتقدم خطوة . خطوة واحدة ليس إلا " قال الذئب .. في الحقيقة كنت عريتها بنظري قبل أن أراها بهذه الشبقية الحمراء . واضعا في حسابي أنها لن تفتح رجليها لي أبدا . وشهقت أمام وجهي بعدما اسندت معصمها على كتفي . كتفي المسكين الذي ضعضعته أكياس القمح والحنطة والفول . هاهو اللآن مرتاح . وقرّبت شفتيها من فمي . ركبتي تهتز . ترتعش . لا اظن القدم الذي يحملها على الأرض . الوتد رفع الخيمة . تستطيع اية عين أن تراها عن بعد . لا ضيعة هابطة ولا هم يحزنون . - لا تخف هو لن يأتي . ثم أنا الذي طلبتك بدأت يدي تدعك النهد . دفعت بالأخرى والتي تعرف ماسوف تفعل جهة البطن الصغيرة . وحْوَحَتْ . دار في خلدي أن أضاجعها واقفا . رميت الخيمة وتركت الوتد منتصبا كعمود نار . هذه الليلة سآكلها . اختفى الذئب أو صرنا كتلة واحدة . "إلى السرير أحسن " رددت عليها بلسان مثقل بلزوجة رطبة " الى السرير أحسن " . كانت تحضر وتغيب وكان القمر حاضرا دائما . خلفها صورة التوفيق . عفوا الحجاج . بحلقت فيه . تذكرت وجه الجندي الذي مورس عليه العذاب لمدة أسبوع كامل . ذاكرتي أرجعت صورة الكبش . أكلت من هذا الأخير . من الكتف أكلت . " أح أح اح" . لست درهما او دينارا حتى أسقط . بدوي ساذج أنا . إسألوا الأكياس عني . غابت . وغبت في الجسد المسروق من أشواقه وهبل تحنانه .. !