"زوجة الأسد تحتضر".. تقرير بريطاني يكشف تدهور حالتها الصحية    نشرة إنذارية: تساقطات ثلجية على المرتفعات التي تتجاوز 1500م من السبت إلى الإثنين المقبلين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    أبناك تفتح الأبواب في نهاية الأسبوع    المحافظة العقارية تحقق نتائج غير مسبوقة وتساهم ب 6 ملايير درهم في ميزانية الدولة    المديرية العامة للضرائب تعلن فتح شبابيكها السبت والأحد    حكام سوريا يقاتلون "ميليشيات الأسد"    الحكم موقوف التنفيذ لمناهضين ضد التطبيع    "البام" يشيد بمقترحات مدونة الأسرة    "منتدى الزهراء" يطالب باعتماد منهجية تشاركية في إعداد مشروع تعديل مدونة الأسرة    330 مليون درهم لتأهيل ثلاث جماعات بإقليم الدريوش    سرقة مجوهرات تناهز قيمتها 300 ألف يورو من متجر كبير في باريس    بيت الشعر ينعى محمد عنيبة الحمري    إياب ساخن في البطولة تبدأ أطواره وسط صراع محتدم على اللقب وتجنب الهبوط    الدحمي خطاري – القلب النابض لفريق مستقبل المرسى    غياب الطبيب النفسي المختص بمستشفى الجديدة يصل إلى قبة البرلمان    المنتخب المغربي يشارك في البطولة العربية للكراطي بالأردن    العام الثقافي قطر – المغرب 2024 : عام استثنائي من التبادل الثقافي والشراكات الاستراتيجية    استخدام السلاح الوظيفي لردع شقيقين بأصيلة    تعاونيات جمع وتسويق الحليب بدكالة تدق ناقوس الخطر.. أزيد من 80 ألف لتر من الحليب في اليوم معرضة للإتلاف    الكونفدرالية الديمقراطية للشغل تصعد رفضها لمشروع قانون الإضراب    إسرائيل تغتال 5 صحفيين فلسطينيين بالنصيرات    اكتشاف جثة امرأة بأحد ملاعب كأس العالم 2030 يثير الجدل    الارتفاع يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    بلعمري يكشف ما يقع داخل الرجاء: "ما يمكنش تزرع الشوك في الأرض وتسنا العسل"    "ال‬حسنية" تتجنب الانتقالات الشتوية    "التجديد الطلابي" تطالب برفع قيمة المنحة وتعميمها    "الاتحاد المغربي للشغل": الخفض من عدد الإضرابات يتطلب معالجة أسباب اندلاعها وليس سن قانون تكبيلي    حلقة هذا الأسبوع من برنامج "ديرها غا زوينة.." تبث غدا الجمعة على الساعة العاشرة    أسعار الذهب ترتفع وسط ضعف الدولار    كندا ستصبح ولايتنا ال51.. ترامب يوجه رسالة تهنئة غريبة بمناسبة عيد الميلاد    صناعة الطيران: حوار مع مديرة صناعات الطيران والسكك الحديدية والسفن والطاقات المتجددة    أسعار النفط ترتفع بدعم من تعهد الصين بتكثيف الإنفاق المالي العام المقبل    طنجة تتحضر للتظاهرات الكبرى تحت إشراف الوالي التازي: تصميم هندسي مبتكر لمدخل المدينة لتعزيز الإنسيابية والسلامة المرورية    سنة 2024 .. مبادرات متجددة للنهوض بالشأن الثقافي وتكريس الإشعاع الدولي للمملكة    الممثل هيو جرانت يصاب بنوبات هلع أثناء تصوير الأفلام    الثورة السورية والحكم العطائية..    كيوسك الخميس | مشاهير العالم يتدفقون على مراكش للاحتفال بالسنة الميلادية الجديدة    الإعلام الروسي: المغرب شريك استراتيجي ومرشح قوي للانضمام لمجموعة بريكس    مباراة ألمانيا وإسبانيا في أمم أوروبا الأكثر مشاهدة في عام 2024    الضرورات ‬القصوى ‬تقتضي ‬تحيين ‬الاستراتيجية ‬الوطنية ‬لتدبير ‬المخاطر    الصين: أعلى هيئة تشريعية بالبلاد تعقد دورتها السنوية في 5 مارس المقبل    "أرني ابتسامتك".. قصة مصورة لمواجهة التنمر بالوسط المدرسي    المسرحي والروائي "أنس العاقل" يحاور "العلم" عن آخر أعماله    اعتقال طالب آخر بتازة على خلفية احتجاجات "النقل الحضري"    جمعيات التراث الأثري وفرق برلمانية يواصلون جهودهم لتعزيز الحماية القانونية لمواقع الفنون الصخرية والمعالم الأثرية بالمغرب    مصطفى غيات في ذمة الله تعالى    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    التوجه نحو ابتكار "الروبوتات البشرية".. عندما تتجاوز الآلة حدود التكنولوجيا    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السمات النوعية في شعر محمود درويش
نشر في طنجة الأدبية يوم 19 - 11 - 2008

قاالتذكير بما حدده ياكوبسون من أنواع للوظيفة اللغوية للوقوف على شعرية درويش وما اتجه اليه من أفق في التلقي . من المعروف أن الوظائف التي ميزها ياكوبسون في كل رسالة إبلاغية هي الوظائف الانفعالية والشعرية والإفهامية والمرجعية والانتباهية. وتُدرك الوظيفة الانفعالية من هيمنة دور المرسل وهو الشاعر في تعبيره على نحو مباشر عن موقف المتكلم اتجاه ما يتحدث عنه، وهي تنزع إلى تقديم انطباع عن انفعال معين صادق أو خادع. وتقوم الوظيفة الشعرية للغة على التركيز على جمالية الرسالة وجعل ذلك الهدف الرئيس. أما الوظيفة الإفهامية فقائمة على المرسل إليه لتوجيهه وإرشاده. وإذا كان هدف الرسالة المرجع واتجهت نحو السياق فإن الوظيفة ستكون مرجعية، وتكون الوظيفة الانتباهية بإقامة التواصل ونشره، وإثارة انتباه المخاطب أو التأكد من انتباهه. وعلى أساس تنوع هذه الوظائف نجد التنوع والاختلاف بين أجناس الأدب والكتابة عامة.. ولا ينفرد وجود وظيفة عن سواها، إذ تكون الهيمنة هي المؤشر لقيام هذه الوظيفة أو تلك، وليس غريباً عدّ مفهوم المهيمنة معياراً عند الشكلانيين وسواهم أمثال تودورف ومن تابعه. غير خافٍ أن الشعر العربي منذ وجوده شعر غنائي بامتياز، وقد حاول نقاد ذبّ تهمة الغنائية هذه عن الشعر العربي منذ عصره الجاهلي حتى الآن، واضعي الأيدي على خصائص ملحمية أو درامية أو حكمية وعظية دون جدوى، إذ ظلت الوظيفة المهيمنة هي الوظيفة الانفعالية التي تجد صداها فيما هو ذاتي عاطفي مزاجي إنشادي يسم الذات العربية في تجلياتها وفي تأثيثها الشعر بأهداف وغايات تمثلت في إعطاء الشاعر دور المنافح عن القبيلة المعبر عن ذاتها، فصدوره عن (نحن) بديلاً عن (أنا) لا يخرجه عن الانفعال الذي حركه لقول القصيدة والعاطفة التي أتاح ترويجها في فضاء التلقي، والغناء الذي أرسله مموسقاً ومتناغماً مع الصعود والنزول المزاجي والنفسي للشاعر. وتتحقق خصوصية درويش في أنه أدى هذا الدور بتمكن عال وانسجام رائق وأناقة نصية وحضورية جعله ذلك كله الشاعر الأمثل للمنافحة عن القبيلة فلسطين. وقد اصطبغ ذلك باللبوس السياسي الذي وسم المرحلة التي جاء فيها الشاعر، فكان شعره صادراً عن جهة عليا، عن مؤسسة وهي الزاوية المعاصرة التي يتجسد فيها معنى القبيلة. يصدق وصف المتلقي في شعر درويش بالجمهور لأن الجمهور هنا ظاهر وماثل في وجوده المعلن والملموس أمام المنبر الذي يقف فيه درويش ناطقاً بالنيابة عن هذه الجموع، لذلك تجد العلاقة مجهرة ومروجة في نمط الألقاء وعاطفيته وأدائه الحركي والجسدي، وفي إعلان الموافقة والترحيب بالتصفيق والمظاهر الصوتية والحركية الأخرى من الجمهور. وانتشار التسجيلات الصوتية والتنغيمية المستعملة بكثرة في مناسبات الإنشاد الوطني المصيري التي تعبر عن المقاومة في الاعلام يسمح بالقول أن الشعر الدرويشي لم يصدر الا ليكون له معنى محدد وغاية واحدة. وهذا ما يقلل من المدى الرحب الذي تحققه عادة الوظيفة الشعرية في كل رسالة من التركيز على بعد جمالي ونسج لغوي خاص وغير عابر. من هنا تلمس سمات الوضوح والمعرفة اليقينية عبر غاية القصيدة، الأمر الذي يحاصر حرية الشاعر ونمو تأمله الشعري في ما هو أبعد وأكثر حرية. لأن الغاية محددة وواضحة في سعي الشاعر وهدفه من قول قصيدته، (هناك بالطبع شذرات ومواضع تندّ بعيداً عن هذه المركزية في قصيدة درويش تحقق نفَسَها الجمالي القصير أو تنفّس عن همّ جمالي خفيّ عند الشاعر تحت وطأة هيمنة الغاية التي يسعى الشاعر اليها على طول الخط في ظل مؤسسة القضية الفلسطينية). فمساحة التجريب والكشف والبحث عن رؤيا مساحة محدودة جداً في شعر درويش، إذ لا وقت لديه لشعر لا يقصد التعليم أو الإقناع أو لا يخدم إيديولوجيا القضية. إن الوظيفة الشعرية هنا غير مهيمنة، وأن المعرفة التي ينشدها الشاعر في شعره هي معرفة معلومة ومتفق عليها قائمة في الماضي، لذلك التأكيد مستمر على قول ماهو معلوم من أجل أن يحفظ ولاسيما في قالبه الموسيقي العذب الذي يسهل حفظه ويديم أثره في الجمهور. قصيدة درويش قائمة على الذاكرة لا على الخيال، وهذا ما يعني تركيزه على إبقاء ما كان لا السعي الى تغييره، الحفاظ على السلطات لا تحطميها، وصف المكان وتحديده وهذا يعني تأثيث القصيدة بالموجود لا بالغائب او الغامض أو الغريب أو المتحرر. إن الوظيفة الشعرية مهمة جداً في التدليل على البحث الأولوي عند كل شاعر.. فشاعر مثل إليوت يؤكد على دور الشاعر في إنقاذ ثقافته من أخطار الهرطقة وتسطيح القيم، وهذا ما يحتاج الى شرط الحرية ليتحقق، هذا ما يجعله يقول أن وظائف الشعر تختلف حتماً مع تغيّر المجتمع ومع تغيّر الجمهور، ويفسر صعوبة الشعر أحياناً بأنه قد تعزى الى محض الجدّة وقد يكون مبعث الصعوبة أن القارئ قد قيل له أو أنه قد أوحى لنفسه أن القصيدة ستكون صعبة والقارئ الذي يبلغه تحذير حول غموض قصيدة قد يضيق ذرعاً بما لا يتلاءم مع التلّقي الشعري ومن ثم لا يتعب ذهنه بالبحث عن نوع من المعنى غير موجود.. كدّ الذهن في البحث عن معنى غير موجود لم يحدث في إطار الشعر العربي إلا عند شعراء قصيدة النثر الذين في الغالب خرجوا إلى الإبهام بدلاً من الغموض، وهذا ما أدى إلى نفور المتلقي العربي من أي غموض حتى إن كان شعرياً، ولا سيما أن الغموض الشعري يقتضي أن يشغل القارئ ذهنه ويكدّ عقله فيما هو جمالي أو تأملي إنساني قصيّ. هذا ما سمح بأن يكون التماهي كبيراً بين جمهور غير معني بالتفكير والبحث الدؤوب عن معنى عميق، وشاعر يركز على ما هو سابق بالمعرفة مؤكد بالوضوح والنظم غير المعقد غير المختلف عما في الذاكرة. وهذا ما جعل موت الشاعر درويش مناسبة أكيدة لفهم الجمهور العربي في تلقيه لنوع الشعر الذي يجسده من تمثيل عن الجماعة وهي المتماثلة المشدودة الى ماض عريق لا عن الفرد الطامح الى حرية وتمرد على سلطة المجموع. لقد جسّد موت الشاعر معنى أن يكون درويش رمزاً لا كياناً شعرياً خاصاً "وقد استعمل هذا الوصف أنه رمز في أكثر من مقال"، ولو أننا اهتممنا بدراسة الكتابات المنشورة عن موت الشاعر لفهمنا بكل تأكيد نمط التلقي عند القارئ العربي بغض النظر أيضاً عما حققه درويش نفسه من اختلاف أحيانا ً قريباً أو بعيداً عن الصورة المهيّأة له في الإطار. بعد هذا تحضرني أمثلة شعرية تجسد السمات النوعية في شعر درويش.. 1 - سمات من الوظيفة الانفعالية: وهي سمات تتوزع شعر درويش كله بوصفه شعراً غنائياً بامتياز.. العاطفة المشتعلة والذات الحاضرة والموسقة المستمرة التي تجعل كل شعر درويش أناشيد، بل إن عدداً كبيراً من قصائده حمل عناوين من مثل "نشيد ما، موال، رباعيات، أغاني الأسير، مزامير، قال المغني، شهيد الأغنية، نشيد، المزمور الحادي والخمسون بعد المئة، عازف الكيتار المتجول، أغنيات حب الى افريقيا .. الخ" وليس غريباً أن يُغنى شعر درويش وأن يكون مؤدى في مانشيتات التعبير عن مواقف للقضية الفلسطينية إعلامياً. ويحتفظ شعر درويش بغنائية عذبة تكاد تجد لها صدى في الشعر العربي بالمهجر نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين إذ يتجسد المعنى رومانتيكياً بسيطاً رقيقاً سلساً، وطني لم يعطني حبي لك غير أخشاب صليبي وطني يا وطني ما أجملك خذ عيوني خذ فؤادي خذ حبيبي في توابيت أحبائي أغني لأراجيح أحبائي الصغار دم جدي عائد لي فانتظرني آخر الليل نهار شهوة السكين لن يفهمها عطر الزنابق وحبيبي لا ينام سأغني و ليكن منبر أشعاري مشانق وعلى الناس سلام أجمل الأشعار ما يحفظه عن ظهر قلب كل قاريء فإذا لم يشرب الناس أناشيدك شرب قل أنا وحدي خاطيء البكاء على الماضي، وهذا يمثل سمة غنائية أكيدة تجسدت في وقوف الشاعر القديم على الأطلال ووقوف شاعرنا الحديث درويش على أطلال جديدة، وهنا تهيمن رثائية كبيرة منتشرة في كل شعر درويش رثاء للنفس أو للناس أو للمكان الذي انقسم بالطبع في ثنائية الى هنا وهناك، وللأرض التي اتخذت لها أشكالاً عدة فمرة هي حبيبة ومرة أمّ ومرة برتقال وزيتون.. الخ. وهكذا يعمل الرمز لترويج عاطفة البكاء الذي هو منتشر عنواناً هو الآخر في شعر درويش عامة. ويتضافر الرمز مع استعمال أسلوب الالتفات وهو التنويع في ضمائر الخطاب داخل القصيدة، وهذا الأسلوب يحقق هدف حلول الذات في كل الرموز التي يستعملها درويش في غنائه. حتى الطبيعة وهي من مفردات الشعر الغنائي الأثيرة ظاهرة بقوة البكاء والرثاء.. إلهي أعدني إلى وطني عندليب على جنح غيمة على ضوء نجمة أعدني فلّة ترف على صدري نبع وتلّة إلهي أعدني إلى وطني عندليب عندما كنت صغيراً وجميلاً كانت الوردة داري والينابيع بحاري صارت الوردة جرحاً والينابيع ضمأ والأمثلة كثيرة بالطبع إلا أننا آثرنا الإيجاز. 2 - سمات من الوظيفة الإفهامية: وُصِفَ درويش بالمعلم في مقالات الراثين له، وهو وصف دقيق لأنه مارس هذه التلقينية والتوجيهية في شعره عامة، لا لأنه حافظ على ذاكرة لا يريد لها أن تغيب عن الأجيال على نحو عام فقط، وإنما لأنه أيضاً جسّد ذلك نحوياً ولغوياً عبر استعمالات شتى تبدأ من استعمال أسلوب المخاطبة وأساليب النهي والأمر والتوبيخ والإفهام والتنديد.. ولا تنتهي.. وأنتَ تُعِدُّ فطورك، فكِّر بغيركَ لا تَنْسَ قوتَ الحمام وأنتَ تخوضُ حروبكَ، فكِّر بغيركَ لا تنس مَنْ يطلبون السلام وأنتَ تسدد فاتورةَ الماء، فكِّر بغيركَ مَنْ يرضَعُون الغمامٍ وأنتَ تعودُ إلى البيت، بيتكَ، فكِّر بغيركَ لا تنس شعب الخيامْ وأنت تنام وتُحصي الكواكبَ، فكِّر بغيركَ ثمّةَ مَنْ لم يجد حيّزاً للمنام وأنت تحرّر نفسك بالاستعارات، فكِّر بغيركَ مَنْ فقدوا حقَّهم في الكلام وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكِّر بنفسك قُلْ: ليتني شمعةُ في الظلام إن للسمة الإفهامية دوراً كبيراً في تأسيس معنى الشاعر المنافح عن القبيلة المنطلق منها وإليها، فما كان درويش إلا شخصاً مسؤولاً، وقيامه بدور المسؤول لم يكن على مستوى توليه مناصب سياسية فقط وإنما في أدائه دوراً أبوياً عالياً لم يكن ليغيب عن معظم شعره، ولك أن تتأمل أيضاً بعض عناوين قصائده الباحثة عن أبناء بين القراء، كما لك أن تتأمل في القصيدة التي تحدث فيها عما سيحدث بعد موته مثل أي أب يعرف تقاسم الورثة جسده، يحبونني ميتاً ليقولوا: لقد كان منّا، وكان لنا. سمعتُ الخطى ذاتها. منذ عشرين عاماً تدقّ حائط الليل. تأتي ولا تفتح الباب. لكنها تدخل الآن. يخرج منها الثلاثة: شاعرٌ، قاتلٌ، قارئٌ. ألا تشربون نبيذاً؟ سألتُ. قالوا. متى تطلقون الرصاص عليّ؟ سألتُ. أجابوا: تمهّل! وصفّوا الكؤوسَ وراحوا يغنّون للشعبِ. قلتُ: متى تبدأون اغتيالي؟ فقالوا: ابتدأنا.. لماذا بعثت إلى الروح أحذيةً ! كي تسير على الأرضِ. قلت. فقالوا: لماذا كتبت القصيدة بيضاء والأرض سوداء جداً. أجبتُ: لأن ثلاثين بحراً تصبُّ بقلبي. فقالوا: لماذا تحبُّ النبيذَ الفرنسيّ ؟ قلت: لأني جديرٌ بأجمل إمرأة. كيف تطلب موتك؟ أزرق مثل نجومٍ تسيل من السّقفِ – هل تطلبون المزيد من الخمر؟ قالوا: سنشرب. قلت: سأسألكم أن تكونوا بطيئين، أن تقتلوني رويداً رويداً لأكتب شعراً أخيراً لزوجة قلبي. ولكنهم يضحكون ولا يسرقون من البيت غير الكلام الذي سأقول لزوجةِ قلبي... إن هذا التخاطب من درويش للآخر لم يكن مجهولاً من الجمهور، أو لم يكن مصاغاً من طرف واحد بل إن الجمهور العربي قام بدور البنوة والاحتياج الى الأب بحفاظه على مقعد أثير بإزاء المنصة التي يرفع درويش اصبعه منها مندداً وموجهاً وملقناً، فهناك تناغم في تلقائية مع أعراف التلقي وأخلاقياته العربية منذ زمن العصر الجاهلي حتى الآن. 3 - سمات من الوظيفة المرجعية: حفظ الذاكرة يعني حفظ التاريخ، والأحالة على المرجع موجودة وقائمة في شعر درويش في كل تغنٍ له بالأرض وفي مخاطبته لخصومها وفي كل إحالة على الواقع، ومثل هذه الإحالة ليس من السهل حصرها بل إنها لا يمكن تأشير غيابها في كل النتاج الدرويشي، ولهذا التوثيق أثر ملحمي موسيقي لكنه لا يتخلص من غنائيته فهي المهيمنة. ولكن لنأخذ مثالاً، أيها المارون بين الكلمات العابرة كدسوا أوهامكم في حفرة مهجورة، وانصرفوا وأعيدوا عقرب الوقت إلى شرعية العجل المقدس أو إلى توقيت موسيقى مسدس! فلنا ما ليس يرضيكم هنا، فانصرفوا ولنا ما ليس فيكم: وطن ينزف وشعبا ينزف وطنا يصلح للنسيان أو للذاكرة
أيها المارون بين الكلمات العابرة آن أن تنصرفوا وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا هذا بيان سياسي بالتأكيد، إن فيه من الأحالة على المرجع ما ليس يغض النظر عنه. وقل ذلك عن أمثلة كثيرة في شعر درويش كله.. -4 سمات من الوظيفة الانتباهية: وبالرغم من أن مثل هذه الوظيفة قد يندر أن تظهر في الشعر إلا أن مثل شعر درويش لا بد من أن تكون هذه الوظيفة موجودة فيه بحكم أنه شعر شفاهي حاضر وله صلة بالآخر "المستمع" الذي ينبغي بقوة أن ينشدّ انتباهه لإلقاء الشعر سواء ظهر ذلك عبر ألفاظ أو حركات ووجود شخصي مؤثر في المتلقي، ومثل هذا الأمر أيضاً حضر في كلمات رثاء الكثيرين وبعضهم قراء عاديون. ربما يبدو غريباً أني أجد أن الايقاع الشعري الذي يمهر فيه الشاعر واحداً من المنبهات الحية لتسهيل اندماج المنبَه بالفتح وهو الجمهور في شعر درويش وفي دخوله معه في التواطؤ على دوام الممارسة. فضلاً عن مخاطبة القارئ جهاراً، يا قارئي ! لا ترج مني الهمس ! لا ترج الطرب هذا عذابي .. ضربة في الرمل طائشة وأخرى في السحب ! حسبي بأني غاضب والنار أولها غضب ! 5 - سمات من الوظيفة الشعرية: لقد أرجأت الكلام في هذه الوظيفة لتأكيد القول بأنها موجودة لكن لا بوصفها مهيمنة وإنما بوصفها متلاعباً بها بتأثير الوظائف الأخرى التي لها الأولوية والتركيز بحكم غايات الشاعرالإنشادية والتوثيقية والسياسية والأيديولوجية. ويمكن القول أن هذه الوظيفة مسخرة للوظائف الأخرى وقد عبر الشاعر عن ذلك في لقاءاته وحواراته بأنه لا يمكن أن يفرط بالقضية وأن لها الأولوية. والتأمل في الجماليات التي حققها درويش في شعره تأتي غالباً من أثر الإدهاش الذي حققته الصور الشعرية في نتاجه كله يا أيّها الولد الموزّع بين نافذتين لا تتبادلان رسائلي قاوم إنّ التشابه للرمال... وأنت للأزرق وأعدّ أضلاعي فيهرب من يدي بردى وتتركني ضفاف النيل مبتعدا وأبحث عن حدود أصابعي فأرى العواصم كلها زبدا ... مضت الغيوم وشرّدتني ورمت معاطفها الجبال وخبّأتني نازلا من نحلة الجرح القديم إلى تفاصيل.. البلاد وكانت السنة انفصال البحر عن مدن الرماد و كنت وحدي ثم وحدي ... عشرين عاما لم تلده أمّه إلّا دقائق في إناء الموز وانسحبت. شعر درويش أنيق ظاهر غير موغل في مغيبات أو ميتافيزيقيات أو بلاغة معرقلة بساطة المعنى ووضوحه. شعر درويش يحمل من الطزاجة ما يجعله حاضراً، ومصوَّراً ومموسقاً. وفي هذا حقق درويش خصوصيته بوصفه الشاعر العربي الوريث للشاعر القديم الذاب عن قبيلته وصوتها الممثل لكيانها في أسهل صورة ممكنة مع عدم الاستغناء قدر الأمكان عن الجانب الجمالي الذي كان يكبح دفعه له الى ما هو غامض أو غريب أو مختلف عن الذائقة والعرف والإدراك العربي العام.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.