كان الإخوة، شعراء الحداثة بالمشرق العربي قد أعادوا، قبل أشهر، على صفحات جريدة الحياة اللندنية، فتح «سيرة» المتنبي وطرحها للتأمل من جديد. والمناسبة طبعا كانت هي أن المتنبي شاعر عظيم، لا يحتاج إلى مناسبة، تقريبا، لابتعاث سبب إضافي يبرر تجديد الخوض في سر عظمته التي اخترقت الزمن، وفاضت، بجدارة شعرية تسمى العبقرية، على كل الأزمنة، وربما على كل الثقافات، لولا أن ترجمة المتنبي تحتاج إلى شاعر عظيم، قادر على الإمساك بخيوط التفوق والرهافة والقوة والانفلات والديمومة والجرح والقلق في شعره، ليحولها، بنباهة مبدعة إلى لغته، التي بإمكانها حينذاك أن تتنفس هواء غريبا هو هواء شعر نادر، يغرب اللغة المحول إليها، ويجعلها تدرك أحد الممكنات المجددة لإيقاعها وبنيتها وشهوتها للحياة. ركز أدونيس، في شهادته عن المتنبي، على مفهومي الغربة والرغبة، كحافزين محددين لشخصيته ومفجرين لشاعريته. فهو، في رأيه، إذا كان قد مدح أشخاصا كثيرين ف«ليس لكي يمجدهم، بل لكي يملأ فراغ الغربة والرغبة»، حيث كان في ذلك «يستقصي مخيلته، يمتحنها، يزجها، فيما يزن حياته ويعاركها ويعلو عليها. كانت «مثلنة» الممدوح لديه» وليدة البحث عما يحلم به». ولعل عراك الرغبة والغربة بداخل المتنبي هو ما جعل شعره ينحرف عن مناسباته، ليشكل، بما يطفح به من تمزق وانتهاك وترحل، ذلك «العالم المتنوع والرحب» الذي يفرض علينا، في رأي أدونيس، «أن نعيد تحديد العلاقات بين الشعر والحياة، الشعر والزمن، الشعر والتاريخ، الشعر والبشر، وأن نجدد فهمنا لمعنى الشعر ولمعنى التجربة الشعرية». ويلاحظ أدونيس، بمرارة، أن ثمة «ركاما من الآراء» حول المتنبي، يشوه شعره وشخصه. لذلك يكون من المستعجل، لكن، ربما، دون أمل كبير(بالنظر إلى تخلف النقد)، التسلح بمستوى عال من «الإدراك والفهم» للتمكن من النظر إليه كشاعر خلاق، تواجه تجربته بالمعرفة وليس بالإسقاطات القبلية (الفحولة) أو النفسية (تضخم الذات). يرفض الشاعر المغربي محمد بنيس، بدوره، هذه الإسقاطات باعتبارها أحكاما متعجلة، مذكرا بأنه «لا يمكننا أن نعيد قراءة أمداح المتنبي إلا في ضوء هذه الوظيفة الإبداعية للشاعر في الحضارات القديمة كالصينية، مثلا». وهو ما يعني ويستلزم بالضرورة «تغيير مكان القراءة». إن المتنبي يبدو، حسب هذا الرأي، ضحية حجابنا المعاصر، الذي يخطئ خصوصية الشعريات القديمة . وبالرغم من ذلك فالمتنبي استطاع من مكانه المغرق في القدم أن يشرف بقلقه على زمننا، لأن «ذلك، العلو الذي أقام فيه كان علو التائه، الذي أنشأ للعربية أرضا شعرية في أقصى القول». أما كمال أبو ديب، الشاعر والناقد السوري، فيرى المتنبي من زاوية ازدواجيته، فهو في رأيه «روح صارخة في عنفوان امتلاكها للعالم، وروح منكسرة في أسى انهيارها في مواجهة العالم»، وهو أيضا «صوت الذات الجمعية في بعدها التاريخي والمستقبلي»، إلى جانب كونه «أضخم ذات فردية في الشعر العربي». وهذه الثنائية أو الروح المنقسمة لدى المتنبي تتوحد في شعره وتندمج في «لغة شعرية فاتنة، وإيقاع فذ، وذكاء شعري خارق.. يصهر الفكر الخالص في بركان الزخم الانفعالي»، وهذه الخصائص مجتمعة هي سر بقاء المتنبي و«ديمومة فتنته». الشاعر المصري عبد المنعم رمضان يرسم، من ناحيته، استثناء المتنبي، من خلال فعل المقارنة، مؤكدا أنه «منذ ما قبل المتنبي، حاول الشعراء التمرد بتحرير الرؤية المقيدة، أحيانا بدم الدنيا، أحيانا بعشق الغلمان، أحيانا بالخمر، وحاولوا أيضا التمرد بإعادة تشكيل الشكل، إما بطعن الطلل، إما بطعن سلم الأغراض الشعرية، إما بجنوح البديع إلى أقصاه. لكن المتنبي لم يفعل أيا من هذه، كأنه يخفي انقلابه عن الأعين، يقوم به في مكان من الظلام». إن سر المتنبي يكمن، حسب هذه الرؤية، في تفجيره للأطر الشعرية العربية من الداخل، وفي سرية تخترق يقظة حراس الثقافة. مثل هذه المفارقة جعلت عبد المنعم رمضان يصرح قائلا: «يمكن أن أختار المتنبي صديقا بعدما رأيت عينيه تعملان دائما في خدمة قلبه». أما عبد المعطي حجازي، الشاعر المصري، فهو كعادته، يقدم رأيا سجاليا ينقض فيه كل التصورات السابقة، زاعما أن «المتنبي لا يتورع عن أن يجعل ممدوحيه آلهة قادرين على كل شيء، وأن يجعل مهجويه أرانب وغنما وكلابا. وبما أنه لا يتحدث غالبا عن إنسان ولا يتعاطف معه وإنما يتتبع صفات النموذج المقررة سلفا، فهو قادر على أن يهجو من مدحه من قبل وأن يمدح من هجاه». غير خاف أن حجازي لم يستطع أن يدرك اللجج العميقة في شعر المتنبي. وهو، ربما لكونه أصبح شاعرا مستقيلا، نراه يأخذ شعر المتنبي على ظاهره، ولم يتمكن من تقدير حجم القيود التي كان يرقص ويبدع داخلها. أما صلاح ستيته، الشاعر اللبناني(بالفرنسية)، فيجد أن المتنبي وحده «يختصر الصحراء العربية برمتها، وكل الإرادة العربية في السيطرة على مكان التجريد»، لذلك يعتقد ستيته، جازما، أن كل منتقدي المتنبي، «مهما كانت هويتهم، سيظهرون دائما كأقزام أمام هذا العملاق». عبده وازن بدوره (شاعر لبناني أشرف على الملف بجريدة الحياة) يؤكد أن المتنبي استطاع أن يخرق جدار الزمن «فارضا نفسه في المعترك الشعري الراهن..، مرسخا شعريته التي لم تتأثر بما تعرضت له من حملات عدائية». ثم يضيف تاركا لحدوسه الشعرية أن ترسم هذا البورتريه للمتنبي: «رجل تأمل وثورة، يهيم في الفيافي بحثا عن المنازعات والمغامرات السافرة، يغوص على معاني الحياة، عبقريته الشعرية لم تقنعه فراح ينشد العلياء والعظمة والسلطان والقوة والمال... متصوف ولكن من غير زهد أو تدين، رثاء، هجاء، مداح، متقلب مثل صروف الدهر، فؤاده من الملوك وإن كان لسانه من الشعراء كما يقول، حياته ممزوجة بالدم والقلق، بالحلم والخيبات، شاعر قديم وحديث يتصرف في اللغة وكأنه مالكها». مجيء المتنبي إلى الشعر كان حدثا لا يضاهى، واستحواذه الاستثنائي على المشهد الشعري العربي كان، في الواقع، خضوعا لقدرية شعرية أعلنت عن قوتها وتدفق لهبها منذ فتوة الشاعر البعيدة. هو رابع أهم شعراء العربية في العصر العباسي (إلى جانب أبي نواس وأبي تمام وأبي العلاء المعري)، لكنه أكبر شعراء العربية على الإطلاق. هو وحده من استحق ديوانه الشعري لقب «معجز أحمد»، اللقب الذي أطلقه عليه أبو العلاء المعري أكثر الشعراء زهدا ونزاهة ومعرفة بأسرار العربية ونظمها.