قد لا أكون مبالغا، إذا زعمت، بأن محمود درويش شكل ?على امتداد أربعين سنة الماضية- ظاهرة تواصلية مخصوصة وانعطافة استثنائية في الحضور الشعري على الصعيدين المادي والرمزي، وأساسا، حضور الشعر في الناس عبر إستراتيجية/استراتيجيات تواصلية قد لا تتكرر في الزمن المنظور ، وعندما أقول حضور الشعر في الناس، فإني أروم أن أسأل وأتساءل عن امتلاء القاعات في حضرة الإنشاد وفي حضور قامة درويش، فكيف يمكن الحفر سوسيولوجيا في مكونات هذا الحضور، من خلال تفكيك مكونات هذه الإستراتيجية التواصلية، هل بردها إلى الشاعر كجسد فيزيقي، إلى الشاعر كجسد إبداعي إلى كيمياء الشعر، أم إلى المتلقي (القراء المنصتون؟) أم إلى وظيفة مرجعية، تذهب من الإيديولوجيا إلى القضية التي ينتمي إليها درويش، أقصد ذلك الملح المنغمس في الجرح، الجرح الفلسطيني والإنساني؟! أم إلى الوظيفة الشعرية (الإستيتيقية) دون منازع داخل النصوص والمتون؟ في هذه التأملات نحاول أن نبني ملامح وتصورات من خلال الملاحظة بالمشاركة والمعاينة والتجربة الشخصية عبر محطات حضر فيها الشاهد انطلاقا من محاولة استفهام سوسيولوجيا الحضور التي قد تختلف عن نظرية التلقي وجمالية التلقي من حيث الإواليات والإستراتيجيات. انطلاقا من فرضية مركزية لماذا يحضر الناس في حضرة الإنشاد الدرويشي؟ **************** معاينات أول تواصل مباشر مع درويش كان يوم 6 أبريل 1995، ودون أن يحتاج درويش إلى تقديم طبعا، فقد كنت في حاجة إليه، الأمر الذي قام به محمد الأشعري (رئيس الاتحاد في ولايته الثالثة عصرئذ) بأن قدمني ?كعادته- تقديما يفوقني وضعا واعتبارا، وهو أمر يفعله عندما يتعلق الحال بأديب براني، أقصد خارج المشهد الوطني،، لقد كانت المناسبة أمسية شعرية بفاس (قاعة فاسالمدينة) بتنسيق مع مكتب فرع فاس الذي كنت فيه نائب كاتب الفرع ومن تم عضو اللجنة المنظمة، قبل اللقاء سألني درويش هذا السؤال الدال "هل القاعة ملأى؟" فأومأت له بالإيجاب، وقتها خطا درويش نحو القاعة، التي تجاوزت غلافها البشري، فكانت كل الجنبات غاصة بالواقفين المتزاحمين، يمكن القول بأن الجمهور كان متوحدا رغم اختلافه الفئوي والمهني والاجتماعي... "بين المحترف السياسي والنقابي المحنك والبرلماني والتلميذ والطالب والمنتخب والمعين [ذكورا وإناثا]"ا(1) بعد الأمسية كان سمرنا الثقافي بمنزل أحمد مفدي الذي كان رئيسا للمجموعة الحضرية بفاس وقتئذ، -التمست من درويش بكثير من التهيب- إمكانية حضوره إلى مدينة الناظور [الشمال الشرقي من المغرب]، وذلك بتوصية من رئيس جمعية الانطلاقة السوسيولوجي والفاعل الجمعوي الأستاذ قيس مرزوق الورياشي، وبالفعل لم يحتج مني الموقف إلا التعريف بالمدينة والجمعية، فسلمني درويش بطاقة زيارة بخط يده من أجل الاتصال وترتيب اللقاء ، وبالفعل أسفر الاتصال بين رئيس الجمعية ودرويش على ترتيب لقاء بمدينة الناظور بنفس السنة في شهر غشت، ولقد أثار حضور درويش إلى الناظور أسئلة اندهاش مشفوعة بالمحبة بالنسبة للساكنة من مختلف فئاتها، ولقد كان حضور الجماهير في تلك الأمسية استثنائيا، خلافا لكل الأمسيات التي نظمت بالرباط وفاس قبل وبعد... (2) حيث جعلت السلطات في ذلك اليوم في حالة استنفار قصوى تجاوز فيها درويش كاريزما الزعيم السياسي، أصر درويش على الحضور في الناظور رغم تحفظات جل أدباء العاصمة، أصر على الحضور في مدينة هامشية ومقصية إلا من حضور الشعراء... 2- استفهامات هناك فرضيات نظرية اقترحت مجموعة تفسيرات لهذا الحضور المكثف والمباشر، هنا وهناك يمكن إجمالها في فرضيتين أساسيتين على الأقل: أ- فرضية القضية: عادة ما ينسب هذا الحضور إلى القضية التي يرمز إليها درويش، أي القضية الفلسطينية منها يستمد شعره انتشاره الواسع، والإقبال العريض، وإن كان درويش يستبعد هذه الفرضية، مصرا وملحا على أنه شاعر، بالمعنى الجمالي، لا بالمعنى السياسي أو الإيديولوجي، واعيا بأن الشاعر ينبغي أن يشكل حضورا أفقيا، لا عموديا باختزال وظيفته في القضية أو الحزب أو العرق أو الدين إلخ لأن مثل هؤلاء الشعراء سرعان ما تنطفئ شعلتهم، بانطفاء أسباب النزول... ومما يدعم الفرضية ?العدم، هو أن درويش ليس وحده الشاعر الفلسطيني، فهناك شعراء كثر، من بينهم خالد أبو خالد الذي حضرت أمسية شعرية نظمها فرع الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني بوجدة في مطلع السبعينيات والتي لم تحضرها إلا جماعة صغيرة من الشباب، وشاعر واحد قادم من فاس (أحمد مفدي)، حاملا ديوانه "في انتظار موسم الرياح" ليقدمه إلى خالد "ونفس الملاحظة تنسحب على شعراء آخرين مثل أحمد حبور وسميح القاسم وعز الدين المناصرة، رغم تغنيهم الواضح الشفاف بالقضية" إن هذا الدحض لا يلغي مطلقا حضور (السياسي أو القراءة السياسية)، وما أثارته بعض قصائده من جدل سياسي عارم، سواء لدى العدو الصهيوني، أو لدى الأنتلجونسيا السياسية في العالم العربي، كقصيدته "عابرون في كلام عابر"(3) أو قبل ذلك قصيدته المشهورة "سجل أنا عربي"، الذي كتبها في عمر اليفاعة، وتحديدا في سن 17 سنة، كما قال لي في حوار هامشي. إن ما يعضد هذا الجانب هو حضور النخب السياسية والنقابية المحلية بالمدينة التي تقام بها الأمسيات. قد يكون الاستجواب كأداة سوسيولوجية في المعرفة التجريبية والأمبريقية كما يفعل اسكاربيت (ESCARPIT) في فرنسا، داعما ومفيدا، إلا أن الإمكانيات لا تكون دائما مسعفة، لكن حس السوسيولوجي ومهنة السوسيولوجي، قد لا يغيبان بالمطلق، حيث كنا نستمزج الآراء، كذلك النقابي القيادي الذي سألناه هل يحب الشعر، فأجاب: "لا أحب إلا درويش"، ولماذا !؟ فأجاب: درويش وما أدراك ما درويش!! وانسحب في الزحام دون أدنى تفسير، أو ذلك القيادي المحلي في حزب سياسي الذي أجاب بأن درويش متميز، قياسا إلى الشعراء الفلسطينيين، شعراء، المقاومة دون أن يفصح عن مكامن التميز، رغم الاستدراج أو التداعي الحر في الحوار والدردشة وبالفعل فإن محمود درويش متميز في هذا السياق، أقصد السياق السياسي، لأنه اختار الهامش رغم حظوظه الوافرة، بأن يكون في صدارة المؤسسة السياسية فلسطينيا(4)، اختار أن يكون شاعرا هامشيا، يمارس الميتا-نقد بكل حرية بدل أن يتقيد بالتلفيظ الشعري في الدائرة العمودية للقضية/ ولعل هذه الهامشية أعطت للأرض الشعرية نباتات وأزهارا لا تذبل روائحها، مهما تقلبت الفصول وتوالت الأزمنة.. والأمكنة أيضا من هنا يمكن أن نفهم لماذا اختار مدينة الناظور كمدينة هامشية بامتياز، بعيدا عن سلطة المركز وإغراءاته وجاذبياته، لأن الشاعر الحق هو الذي يبحث عن التواصل مع قراء عينيين وقراء مفترضين من أجل تكثيف ذائقته الشعرية والجمالية. ب- فرضية الجسد: تسعى هذه الفرضية إلى استدعاء مقولة الجسد البراني من أجل بناء نظام حجاجي، يؤكد أن الحضور الشعري الفيزيقي هو الذي يمنح للقصيدة مفعولا مدويا وتداولا عريضا في حضرة الإنشاد. والجسد البراني يشمل القامة والصوت، فهو من جهة تعبير جسد واقف يعتمد على الإشارة والتلويح بالأيادي ومختلف التغيرات الفيزيونومية وهو من جهة ثانية يعتمد على الجمال الطبيعي والنبرة الصوتية وتموجاتها وتراتباتها من الارتفاع إلى الانخفاض حسب الأسطر والجمل الشعرية. ولعل هذه العناصر واردة، لكن رغم ذلك يمكن بناء نظام حجاجي مضاد لها انطلاقا من أن الإنشاد، في حد ذاته، يتطلب هذه العناصر وإلا فلا داعي إليه، ومن تم ينبغي اعتبار القصيدة نصا لا يقتضي إلا المقروئية وحدها بعيدا عن صوت الشاعر الفيزيقي، اعتبارا إلى أن الحداثة الشعرية هي حداثة نصوص، تفترض قراءة صوفية، يتوحد فيها القارئ مع النص من أجل اكتشاف الحقيقة الشعرية، إن كان الشعر يصبو إلى حقيقة ما، هذه الحقيقة التي ما هي إلا تأويل يبنى وليس معنى معطى، وأن الأذن قد لا تتجاوب إلا مع الإيقاع، بعيدا عن الاكتشاف والاستشفاف للمدلولات الشعرية... "الأذن وحدها لا تستطيع التقاط ديناميتها وانفتاحها، أو ما أسميته، في سياق آخر، بالشعرية الدينامية المفتوحة بعكس الشعرية المفتوحة.."(5) لكن درويش (ودرويش خصوصا) استطاع أن يجذب الناس انطلاقا من قصيدة التفعيلة بل وحتى النصوص المفتوحة وذلك النثر المعسول في الافتتاحيات والمقالات والمداخلات... درويش الذي ينتمي -بدون منازع- إلى صلب الحداثة الشعرية العربية. والسؤال المطروح في هذا السياق ألا يمكن القول بأن درويش قد أضاف للقصيدة الحديثة قيمة أخرى، على صعيد التلقي المباشر والتلقي غير المباشر حيث انتشر متنه في القراء كما انتشر في الجمهور كتابة وإنشادا(6) وفق ابتداع نظام خاص به على صعيد الإنشاد الشعري، لم يستطع أحد أن يقتله، وحتى الذين حاولوا، تلبسوا بمحاكاته بعيدا عن تكسير نسقه الإنشادي. ج- فرضية النقد: تنبني هذه الفرضية على مقولة التكامل بين النص والإلقاء، بين نص شعري درويشي شكل خطا تصاعديا للتجربة عبر الحفر في اللغة وابتداع الصور، وتوظيف الجزئيات والكليات وتوظيف التراث... فحضر في متن نقدي غزير (نقد أكاديمي، نقد انطباعي، نقد صحفي) رافق تجربته وأكد في المجمل على إبداعيتها وقيمتها المضافة على صعيد خريطة الشعر العربي المعاصر بل ونديتها حتى، بالنسبة للشعر العالمي. هكذا جمع بين جماليات النصوص وجماليات الإنشاد، بين الشفهي والمكتوب بصورة متناغمة، بل كان ينشد المكتوب، قصيدة أو ديوانا، فسرق النار فعلا مما جعل الغارات والقذائف تستهدفه بمحطات متعددة من أجل تأبينه، سواء من طرف الأعداء أو الأعدقاء أو الأصدقاء أو الزملاء لكنها لم تفلح في إصابة المرمى. 3- وماذا بعد؟ لقد استطاعت القصيدة الدرويشية أن تحقق ثلاثة أبعاد في تخلقها وفي إستراتيجيتها التواصلية، فهي لم تكن بعيدة عن الهم الوطني والسياسي دون أن يكون هذا الهم وظيفة من وظائف تخلقها بل وظيفة إستراتيجية في تواصلها، كما أن جسدانيتها لم تكن تهدف إلى استمالة جمهور عابر متحمس ورومانسي أو ثوري، بل استمالة جمهور دال ودينامي في الحياة العامة وأخيرا بل أولا القصيدة الدرويشية بناء داخلي، حفر مضني من أجل الجمال والإبداع، من أجل ذائقة شعرية يتيمة يصعب استنساخها، من هنا يمكن أن نفهم لماذا استطاعت هذه القصيدة الملقاة أن تستجلب جمهورا عريضا وحاشدا لأنها تلبي أفق انتظارات متعددة تتوحد في الإنصات وبتعبير أوضح لقد استطاع درويش أن يشكل ذلك الشاعر ذا الامتداد الأفقي الذي تتوحد حوله الأذواق والمشارب والاتجاهات مما يعطي للشعر دفقا وحياة ودينامية بعيدا عن كل رأي اختزالي أو قبلي أو قطري، إنه ذلك المفعول السحري اللامرئي، كما يقول السوسولوجي الفرنسي بيير بورديو(7)، في سياق آخر، ذلك المفعول السحري الذي يندر امتلاكه، ويصعب مقاومته، والذي قد يخترق المتلقي بدون مقاومة أو مسافة، أذكر أن امرأة جميلة (وأخريات) حضرت الأمسية المنوه بها طلبت مني أن تحضر في حفل العشاء بعد الأمسية في حضرة درويش لأنها تعطرت بالماء الشعري كمفعول سحري، فقذفت بكل الحواجز دفعة واحدة رغم التمنع والكبرياء في الحياة اليومية. 4- وماذا بعد، بعد؟ إن تعاصر الإبداع والنقد أو الإبداع والقراءة، قد تخيم عليه إبستيما العصر، أو على الأقل، مشاغل العصر وأسئلته المهيمنة وسلطته الثقافية المكتوبة والشفوية، عبر مختلف المؤسسات والمنابر والاتجاهات.. مما يؤثر على حياة النص المقرون في الغالب بحياة المبدع، وفي هذا الأفق نطرح الأسئلة التالية: إلى أي حد ستقرأ الأجيال القادمة (التي لم تولد بعد) تجربة درويش؟، بعيدا عن القضية والإنسان والحياة؟ إلى أي حد يحقق الشاعر خلوده الرمزي في خريطة الشعر العربي القادمة؟ كم سيحيا في النصوص والنفوس، عبر القراءات الاستيعادية؟ أعتقد أن المؤشرات النصية هي الوحيدة التي تعطي معنى متجددا للحيوات القادمة، ولهذا كان درويش حريصا كل الحرص على أن يكون كائنا شعريا ليس إلا. هوامش وإضاءات: *- مداخلة ألقيت في احتفالية الشاعر العربي الراحل: محمود درويش، في إطار المهرجان الجهوي الخامس للثقافة والإبداع بمديرية الثقافة بمدينة تازة، يوم الثلاثاء 16 دجنبر 2008، بدعوة من اتحاد كتاب المغرب، فرع تازة. 1- أحمد شراك: فاس في حوار غير سياسي مع محمود درويش، أنوال، الأربعاء 17 ماي 1995، العدد 1708، ص10. 2- أقصد الأمسية الشعرية الثانية بفاس بنفس القاعة، برفقة الأستاذ محمد برادة بعد ثلاث سنوات من الأولى، وكذا الأمسية الشعرية بمسرح محمد الخامس بالرباط قبيل انعقاد المؤتمر السادس عشر لاتحاد كتاب المغرب. 3- انظر: رشيد الإدريسي: عابرون في كلام عابر (صراع التأويلات..بين بنيات النص وضغوط السياسة) ملحق فكر وإبداع في جريدة الاتحاد الاشتراكي، الجمعة 12 دجنبر 2008، العدد 9045 ص ص 4-5. 4- أحمد شراك: فسحة المثقف، منشورات اتصالات سبو، الدارالبيضاء 2006. 5- صلاح بوسريف: ما بعد القصيدة (بصدد قصيدة النثر، أو القصيدة الخرساء) لعبد المعطي حجازي، العلم الثقافي، الخميس 11 دجنبير 2008 ص 6. 6- يحفظ الناس كثيرا من قصائده أو شذرات منها، تبقى عالقة بالأذهان، إضافة إلى قصائده المغناة. 7- Pierre Bourdieu : domination masculine (suivi de quelques questions sur le mouvement gay et lesbien), édition augmentée d?une préface, édition du seuil, Paris 1998 et septembre 2002 pour la préface, pp 52-75.