داخل سوق أسبوعي ،يستقبل الزوار من كل حدب وصوب ومن كل صعد و صبب ،نازحين إليه مشيا على الأقدام أو راكبين المطايا (البغال و الحمير)، دخل كعادته غير مبال بمن حوله ،رمق بطرف العين العسس يتجاذبون أطراف خصام حاد مع رجل اتخذ من الفقر أنيسا له و أراد أن يبتاع أكياسا من الحنة لكي يضمن قوت يومه ،لكنه أبى دفع ضريبة (السنك)،طأطأ رأسه يمينا وشمالا فقصد ركنه المعتاد بجانب الشاحنات الكبيرة التي لا يهدأ أصحابها في توزيع البضائع بالجملة ، أخذ حصته التي لا تربو عن ثلاثة كيلوغرامات من الكاكاو ومثلها من الحمص ،وضع كل ذلك في سلة مشدودة إلى عنقه بحبل من قماش ،فبدأ يلف الكاغد و يملؤه على أشكال مختلفة تسترعي ذوق الناظر إليها . ارتفع صوته بين الباعة المتجولين فأحس بحبسة تشين نبرة كلامه ،فاستسلم للجلوس بعد أن وضع السلة قدامه حيث شرب جرعة ماء و تحلحل من جديد استعدادا للنهوض , لم يكن سنه المتقدم وعضلاته الهاشة تساعده على القيام بالعمل في أحسن وجه لكنه لايحفل بذلك لأن صوته الخشن يعلو فوق الأصوات ليطرق أذان الناس بكلمات واضحة(الكاكاو الجميل ،الكاكاو لمليح عند السي ابراهيم...). الحرارة شديدة في السوق و العياء بدأ يدب في جسده الهرم ،رفع عينيه فبدت له مضلة الاسكافي غابة من نخيل لاتخترقها الشمس إلا عند الغروب ،سار مهرولا نحوها ليستريح ،وبعد هنيهة سمع عقارب الساعة تنشد حركتها المتوالية ، أرسى نظره على الساعة فإذا بها تشير إلى الواحدة إلا ربع. التجار يجمعون مبيعاتهم إيذانا بالرجوع ومحركات السيارات شغلت استعدادا للخروج. وجد السي ابراهيم نفسه مشدوها إلى واقع الحال ،فهو يعلم أن العائلة تنتظر عودته بالحاجيات المنزلية، لكنه لم يتمكن من بيع كيلو غراماته من الكاكاو و الحمص ،نظر إلى سرواله فرأى دمعة سقطت عليه سهوا فتلعثم قائلا :هل أعود من جديد إلى التسول ؟ ، كلا لن أعود.... من أين تعلمت هذا ؟ من حروف تعلمتها ....ليث الجهل كان سيد القرار فأتسول بلا حشمة ووقار... بعد برهة عاد من هيامه قائلا:لابد من الصبر في هذا الواقع المعيش ،ولابد للفرج أن يأتي بعد الشدة ... وهو في طريقه إلى منزله العتيق دهب في تفكير طويل عساه يجد تبريرات واهية لحاجيات أسرته ،وعلى مقربة الباب الخشبي العتيق رأى ابنته سارة تتحسس مجيئه فوقف في دهشة وتراجع خطوتين إلى الخلف حيث يتستر بالجدار عاود النظر مرة أخرى فإذا بسارة تجري في اتجاه المدرسة بنعلها المقطوعة ومحفظتها البالية، فتنفس الصعداء.