ستعود بعد انتصار وهمي.. ولن تجدني... ستقف أمام تمثال السنين، لتتألم على أمل كان يشرق هنا.. وضاع.. ستقف على أطلال ملامح امرأة كانت هنا.. وتبكي خيالا يحفر في أعماق الشتات.. ستعود ذات غروب لتجد فاطمة قد تلاشت من دائرة الحياة ودخلت غياهب العدم.. ليسقط اسمها في ذاكرة معطوبة.. هل تذكر يا عبد الله؟ عندما كنت تود عني عند عتبة لم تعد لنا.. كنت أصرخ بصوت يشبه الرجاء.. التوسل.. الانكسار: لا ترحل يا عبد الله.. إني بحاجة إليك.. إلى صوتك.. إلى جلدك وإلى ظلك الذي اندسُّ في لونه الرمادي هروبا من أفاعي تترصدني هنا.. وهناك.. لا ترحل يا عبد الله.. فالأرض- بعدك - ستباع.. وفاطمة ستتقاسمها موائد القمار السياسي.. لا ترحل يا عبد الله... لكنك أجبتني بصوت يشبه التحدي: أنا والهزيمة لا نجتمع في مكان واحد... لا أستطيع أن أبقى وهذي القيود تدمي معصميك.. وتلك الخفافيش تحاول أن تمتص رحيق شرفك لتنتقم مني... لا أستطيع أن أبقى إلى جانبك ونظرات الذل في عينيك.. وشوارع غزة تتقلص على آخر ذكرياتنا.. لا أستطيع أن أنظر إلى أرصفتها وهي تتقيا آخر حرف من قاموسنا.. لأجلك يا فاطمة، ولأجل هؤلاء الصغار ولأجل أرض تُسحب من قدم خيبتنا، سأهاجر لأصنع لكم نصرا على مقاس حبي لكم.. سأعود.. فلا تغادري هذا المكان.. لا تنهزمي.. قاومي.. فالتحدي نصف الانتصار. وهاجرتَ يا عبد الله.. هاجرتَ دون أن تترك سيف الخليفة على بابي.. ولا حتى صوت رجولتك يدوي بين جنبات خيمة باردة... هاجرتَ.. وجلستُ أنا ها هنا. . إلى نافذة العمر.. أطل على قمر يحتجب وأمدُّ يدي إلى بهاء السماء.. أحاول أن أرتب نجوما تتهاوى كما أرتب أشيائي التي تنسحب مني.. ربما لأتسلى.. لأرقب شمسا تولد من رحم ليل مقيم.. كنت أحلم بفستان وردي تنسجه لي من خيوط شمس ولون صبح.. أحلم بابتسامة تأتيني معلبة في صناديق البارود.. أحلم بطفل سيأتي بعد أيام وبفجر سيشرق بعد حين... وتتمدد المسافة، وتكبر الأيام كبطل متمرد.. وأحس في داخلي أن حججك كانت مجرد طريق لتعبر منه إلى هروب من مصير مجهول.. اليوم... وأنا أعيد ترتيب النجوم المتهاوية في سماء قلبي.. أحس أن عبد الله الأسطورة يتكسر في ممراتي السرية ليتحول إلى نقطة سوداء تلون خريطة عمري... غدا... عندما تعود بنصرك المزعوم ستجد جسدي متناثرا كالشتات... ضفيرة تُغمس في دم ساخن.. وضفيرة ثانية تدوسها أقدام قذرة تتناسل في تربتنا... جسد مُهمل على أرصفة غزة... وأطراف تتقاذفها نزوات مجنونة في شوارع رام الله.. قلب ينزف على صدر القدس... ونبض يئن فوق مئذنة.. ستجد جسدي مبعثرا في رفح وقد عبثت به الأفاعي، ونهشته كلاب التاريخ... ستعود... وتسأل عني الحجر والشجر وبقايا شرف تعثر بين الخيام... ستسأل عني ملامح كبرياء ما زالت تقفز على الحواجز الأمنية... ستسأل: أين فاطمة؟!! ولن تجد من يصغي إليك أو يسمعك... لأن غزة غيرت لون وجهها، والأرض بدلت جلدتها!!!