الجزء الثاني أولا : وجود المؤلف والقيمة في عملية النص: الكتابة تحمل كتابات عديدة داخلها، يجمعها رابط واحد يصعب حلّه عن بعضه الآخر ومنحه شكله و فكرته المستقلة؛ الكاتب لا يهتدي لذلك إلا حين يتبع خيوط الربط الأخرى ويَهتدي إلى الخيط السميك الرئيسي ويشكّل من الكتابات مفرد كتابة إنها وجود لحياة وتذكرة لما كان وجود. المؤلف حين يكون حصيفا متقد الذكاء و غير كسول ينجح في الوصول لحل النصوص وتفكيكها و التعامل مع أجزائها بكل سهولة ويسر. الكتابة قد تحمل أكثر من علامة ولون وشكل و نوع ومكان؛ في النهاية يجمعها محتوى واحد إنه الكشف عن حقيقة ما نريده وما نريد أن نكونه لنعرف أين نحن من مراحل الحياة و الموت و الموت في الحياة. الكتابة الواحدة تحمل عُقَدَهَا، العقد تحمل نظيراتها في الكتابات العدة، أمواج متجددة من الأسئلة يصنعها بحر العقل والروح. التعداد يحمل أجزائه وهكذا تصبح الكتابة ناقصة دائما تحتاج لتكملة قابلة للحذف قابلة للتمزيق قابلة للإعادة قابلة التصويب لا الإضافة . العُقد بحاجة لحل، عامل الحل داخل الكتابة ضروري للمؤلف كما للقارئ. الحيلة في العثور على العقدة تحتاج لمهارة إبداعية أيضا ؛ المؤلف قبل وضع عقد النص الظاهرة والباطنة يتوجب عليه إيجاد حل العقدة لكي يربط نصه ربطا دقيقا وينسجه نسجا محكما. النص الميّت هو النص الذي لا يحتاج للتكملة و لا إلى الإشراك في حل عقده إنما يولد ميتا وينتهي بمجرد البداية. عجز المؤلف عن حل عقد النصوص داخل النص الواحد و إفراد الخصوصية المميزة وتبسيط شكلها المراد يدفعه للبتر و القطع وفصل الرابطة بين نص و آخر في هذه الحالة انفلات مكونات النص المجمل؛ المؤلف يحتاج هنا لروابط جديدة تعينه على إعادة بناء الأيقونات كلها. لماذا نلجأ لحل عُقد الكتابة؟ العقد هي حتمية الفرز ، خصوصية الفرز إزالة المتشابه، المتشابه من نفس الجنس المعرفي، المقارنة محمولة مع القيمة نفسها وقد تتعداها ، القيمة في القيّم التي تحملها و المعلومات المعرفية و التاريخية و التحليلية للوضع القائم أو القادم وعليه فالمؤلف بحاجة إلى التوسيع ، التوسيع يتيح إدخال تحسينات لمطابقة القيّم في النصوص الأخرى المتشابهة في الكتابة. التوسيع إعطاء فرصة الولوج في المختفي والباطني ، تقليب الهيكل والشكل، يمنح الاختراق، يمّكن إزاحة العالق، التنقية والاستعانة بأدوات لغوية و معرفية حادة و دقيقة لأجل إعادة التشكيل النصي. تنقية أساس النص (اللغة ) الانتقال للوجه الدال على الشكل ( قوة اللغة ومستوى الخطاب ). الوجه الدال ، التعبير عن الشكل والمضمون معا، اجتهاد مسح الغموض المكتنف الكامن في تأويلاته. الكتابة مرهونة بالوقوف على العتبات ( الصورة، الشكل ، العنوان..) إبراز العنوان هو دليل المؤلف و القارئ إلى عالم النص، النص يحمل عناوين كثيرة داخله، ضرورة الحاجة لتغييره من الشريك؛ الشريك هو المؤلف و القارئ على السواء، المؤلف قارئ في ذات الوقت، القارئ الآخر شريك يحدد تغيير العنوان أيضا( صاحب دار النشر، رئيس التحرير، مترجم، مدرّس، مفتش، هيئة ثقافية أو علمية...). الكتابة كما المؤلف تحتاج مناخ خاص أكثر خصوصية أكثر ملائمة للمتقبل؛ المتقبّل في بعض الأوقات لا يتعامل مع الزمان والمكان بقدر تعامله مع زمان و مكان الكتابة. الكتابة الجيدة مؤلفها لا يهمل الزمن و المكان بصورة مطلقة متواصلة؛ فالمكان عنده مهول بالأسرار، المكان يحدد الزمان على عكس الزمان لا يستطيع تحديد المكان. الكتابة الجيدة مع مرور الوقت لا تبلغ استحسانها الكلي ما دام هناك جدل قائم فيه، الجدل لا يقابله الاستحسان، الاستحسان و الإطراء مقبرة كل نص. الجدل وقود البحث لبلوغ الأحسن داخل كل نص جيد في حال العثرات إن لم يوجد في الوقت الحاضر سيكون مستقبلا. هل العثرة الواحدة البسيطة تطيح بقيمة النص الجيّد مهما كان راقيا؟ الشيء المؤكد في الكتابة أنه لا مطلق فيها مؤكد. ثانيا: الأنا و الوظيفة الإبداعية: كيف للأنا الشاعرة الحاسة المحفوفة بالقلق الممتزجة بتعقيدات الواقع ومشاكله أن تنتج خطابها الإبداعي داخل الجدل الدائر بين الخارج و الداخل؟ داخل الشعور و اللاشعور؟ داخل الوعي واللاوعي، الوعي وماهيته؟ داخل الوجود و الفناء؟ الكتابة ليست وحيا إنما انسلاخ من الأنا المتجادلة الناقدة لأوضاع قائمة مستحسنة ومستهجنة، الأنا الطموحة للصعود المتدرج لاكتشاف الغير الموجود لترضي طموحها لا غرورها. الكتابة النظرة إلى ذات الإنسانية التي هي أساس الوجود لا تكف عن التساؤل عن الوجود المحيط بها لأنه من خلال هذا التساؤل تتعدى وجودها ، تتجاوز الوجود في كليته من اجل تأسيس آنيتها كما قال هايدجر.* الأنا الحقيقية متفاعلة لا يمكنها الرضا بغرورها للوقوع في السطحية و التقليد ولا في قيد الملوكية الأدبية، الأنا المتفوقة خالدة في النص مع النص نافية فكرة الضياع في هذا العالم. إن برغسون1 حلل" حالة الشعور بذكر مالم يعد موجودا و استباق مالم يوجد بعد ويعتبرها الوظيفة الأولى للشعور بل الانتباه انتظار ولا يكون شعورا بدون شيء من الانتباه" . حياة الأنا المبدعة مستقبل وجود يجبر على عمل الكتابة؛ الأنا تستمد وجودها من الآخرين بغض النظر عما يحويه شعور الآخرين من أخطاء في تجاربهم الحاوية لتعقيدات تجارب الماضي السالفة. الأنا المبدعة تنتج عملها خارج سلطة شعور الآخرين وخارج لا شعورهم أيضا فاللاشعور عند برغسون" ذاك الشعور الذي لا يملك من ماضيه إلا شيئا يسيرا و ينسى نفسه بغير انقطاع يفنى ويحيا في كل لحظة"2 ويمكننا أن نقول أيضا أنه ينسى لحظات الآخرين لأن ذوات الآخرين ليست وحدها الحقيقة ولا تعرف المطلق. الكتابة اختلاف من الجدل الدائر بين الخارج و الداخل، الداخل النفس المستقبلة لما تطرحه الظروف والعراقيل و العقبات؛ لا أجوبة جاهزة داخل الأنا المبدعة ؛ المسألة عند البعض لا تحتاج للتفكير والبحث لأن الأجوبة سهلة في اعتقادها. الجدل داخل الداخل لأجل البقاء وتحقيق الرغبة في الكشف وتحقيق الفرح حين تمكّنه التجربة بداخله أن يصنع الأمل من خلال الإبداع و المعرفة لتستمر حياة النفوس البائسة. إن تشييد مملكة الكتابة أمل في الأنا يمنح الخَلْق والإبداع ويدفعه للخارج، الخارج يبنى على لبنات تفكير الداخل وولادة متعبة للموقف. الأنا تَدْفع للخارج و الخارج لن يكون إلا تشابه لما حلبه جدل الداخل للأنا وما أبدعته في إناء التناقض؛ الخارج ليس المتطابق كله.( لا يتوضح مفهوم إلا بالآخر و إذا حضر علينا حدس الفراغ يكون من هنا أن نرفض حدس الامتلاء) كما قال باشلار و كما تساءل في كتابه جدلية الزمن. أليست المعرفة سجالا وجدالا في أساسها وجوهرها؟ . إن لم تكن الأنا مطابقة و ليست ذات قيمة ولم تكن ذو أثر لقلق ولم تثر اهتماما و لم تَعْلق بالأذهان ولم ترمز لشخص ولا تتكلم عن خلفية سياسية أو عقائدية أو إنسانية لم تكن أنا توقع التأثير الجدلي بين الداخل و الخارج، الخارج هو التجاوز الفردي إلى الجماعة. هل يمكن للأنا أن تجمع جدل الداخل و الخارج في آن واحد حين يتطابق خارجها مع داخلها؟ الأنا ما تنتجه من سلوك وما تأكده بالإبداع فقط وما دون ذلك فهو كذب و افتراء والرضا بهذه الخدعة و التصديق بها وتصديرها للغير ينفي مفهوم حقيقة الكتابة و يجعلها ضرب من عبث و لهو. الكتابة أنا ووعي والوعي كما يعتبره هيجل ليس إلا انتماء للوجود، جزءا من الوجود وكما اعتبره قبله سقراط من آلاف السنين . الوعي كالينبوع من الأرض مع اعتبار الصخرة الكبيرة ليست هي الجبل إنما جزء منه. الكتابة دليل وجود و الأنا جزء منه. ثالثا : حرية الكتابة كتابة الحرية: امتلاك الموقف الواحد غير المتغير، قناعات المؤلف عدم تغيير الموقف إلا في الحالات التي يجد أهدافه لا تخدم الإنسانية أو تصل لحد الخطأ. المواقف ذاتها قد تكون أساس بناء خاطئ من أوله وما عدا ذلك فكل تغيير لا يملك مرجعية أخلاقية فهو تنازل عن ضعف داخل النفس محكوم بالهوى والمصلحة أكثر من أي شيء آخر. المنطق أن الكتابة بحاجة إلى دراسة معمّقة من كاتبها و إسقاط لسلوكياته و مواقفه على نصه ذاته ليمتحن القارئ حقيقته؛ أما النص المستقل عن كاتبه اللا منتمي إليه فمن لحظته الأولى التي خرج فيها دخل سجن ذاتيته وزنزانته حكم على العالم وعلى الآخرين. المشاعر و الفكر المتحرر ينتقل من زمان الكاتب إلى أزمنة أخرى أكثر اتساعا و أكثر رحابة و أكثر قسوة أيضا، زمن القارئ نفاذ وتوغل، تحرّر من وطن الكاتب( المكان) إلى فضاء الأمكنة الأخرى (تداوله)؟ الأسئلة الكثيرة عتبات. المؤلف وجوبه التمتع بقدر واسع من الحرية، الحرية إمتاع الانفلات من الأحكام الجاهزة من التصورات الخاطئة المعارضة لجهة على حساب جهة لتيار على آخر، الحرية رؤية ، خدمة في اتجاه كتابة تكتسب مصداقيتها لا من التكسب. يقول لوكيه في كتابه البحث عن الحقيقة :"كيف أقوم بأي خطوة في البحث عن الوجود بل كيف أتردد ما لم يكن ذلك بواسطة حركة أفكاري حركة حرة".* الإنسان حر حرية مطلقة فهو قادر على التحكم في أفكاره و إتباع نظام غير محتوم في هذا العالم، حرية الإنسان شرط سابق لكل شرط و حقيقة سابقة لكل حقيقة. الكتابة أنواع وبكثرة عدد المؤلفين والنصوص لا تخلو من إيديولوجيات بعينها كما يقول ادوارد سعيد "كل كتابة لها مرجعية سياسية و إيديولوجية".* الحرية في الكتابة لا تقبل برفض الآخر ومنهجه، لا تضع قيودا على تفكيره؛ إما تضيف و إما تمتزج و إما تعارض لأجل تكوين حرية إيجابية في الأخير تعترف بالآخر أساسا وأصلا في الكتابة. بعض الكتّاب يعتبرون الكتابة مجرد واجهة ( سطح علوي لافتة) كامنة تحتها الحقيقة الجوهرية. الاهتمام بالبحث عن المعنى الحقيقي يطيح بالأقنعة ويفرز دواعي الوعي المتبع للإبداع، إفراز الأصيل من المزيف. الكتابة الجيدة حصاد غير مستعجل، امتلاك للزمن الحقيقي، ادخار حيوات كلما انقضت حياة تقدمت أخرى، انتفاض كطائر الفينيق، موت و انبعاث، في الانبعاث إلغاء للوقت، انبهار للمكان، رؤية وحقيقة كما المعجزة. الحرية في الكتابة امتلاك للفعل الحر داخلها، امتلاك القدرة على الاستمرار و الانبعاث من جديد أو بعث الذي مضى و إلحاقه بغيره الذي هو كائن أو الذي لم يكن بعد. الحرية في الكتابة كشف في حقيقة ما يختبئ من أسرار وما يتخفى من معاني كلما كثرت المحن والضيق والشدة نفس الطريق يسلكه الاتساع و الفرح والانشراح؛ تعب الفهم على حصول إدراكه. الإسرار لا تتجلى إنما هي إفشاء اللامصرح به والغير مفصح عنه بوضوح؛ الحرية في الكتابة حمل التأويلات الكثيرة المثمرة المتوغلة في نوايا المؤلف الخيّرة؛ على ضوئه الخلود و البقاء الذي تملكه و توزعه ، النص المملوء بالأكسجين يتنفس القارئ فيه براحة، يمكّنه من الإبحار والغطس في التعمق رؤية المرجان و العقيق و اللؤلؤ؛ المنبهر بالجواهر لا يمكنه التخلي عما لم تراه عيناه بعد والذي ذاق سكرة الحرية و فلسفتنها لا يمكنه أن يترك الكتابة كِتابة أو قراءة. الكتابة خمرة، جوهرة، مفتاح طريق، تصوّف، كره للترّع و الهمّل، انغماس في العقل والروح ، ارتفاع بالحواس عن الحواس لاستكشاف المستعصي. الحرية هي إعطاء الحرية للآخر لا تقييد النفس معه. الحرية المسئولة ابتعاد عن التحامل و الاتهام للتفكير والمنطق، هي اللامحدودية في العلاقة التتابعية في رسم الموّحد المشكّل المهيأ للفهم، إرادة تحدي الأشكال المتعارف عليها، هي الاختلاف لا الخلاف و التخلف ، هي البحث عن خصوصية جديدة تحمل نقدا داخلها لتزداد ألقا ووخزا وتحريضا ممتعا لا رهقا. يقول بول ريكير" ليس هنا قيمة لحياتي ، فحياتي هي كتبي و مقالاتي، إن كتبي هي آثاري الباقية و قد يكون تاريخ آرائي الفلسفية طريقا ولكن ليس الأمر كذلك بالنسبة لتاريخ حياتي...". عجيب محاسبة المؤلف عن آرائه؛ عن قدره في الحياة عن فقره و غناه، قبحه ووسامته طوله وقصره، وعن مهنته بائعا أو حدادا أو صبّاغا أو اسكافيا على شوارع المدن التي تضيق بأهلها؛ عن نسبه ابن وزير أو أمير أو قاضي أو ابن فلاح أو جندي أو ابن خائن أو ابن سفّاح، لو كان الأمر كذلك ما تبع المؤمنون أنبيائهم فآبائهم و أبنائهم و أعمامهم آزر وأبو لهب ومن ابن آدم سافك الدم إلى ابن نوح الغريق إلى يهودا إلى أخ يوسف صاحب فكرة الجب و القميص و الذئب... كتابة الحرية محاولة جميلة ومهنة قد تكون خطيرة ، حرية الكتابة لا لعب فيها و لا تسلية ولا تزجية، المحاولة تأكيد وجود يقود إلى المحاولة الحقيقية ، كل محاولة لا تحمل نصيبا من المسؤولية نصيبا من الشعور لا معنى لها. حرية المؤلف في التخلص من هيمنة النصوص الأخرى عليه، الوقوف على مقولات النقاد و المفكرين و الفلاسفة و الأدباء، الوقوف عند المعرفة و التحرر من معطيات الواقع وتصورات المجتمع حتى و لو تم عرضها لكن دون التأثر بها، التمسك بالقديم لأجل الجديد والجديد الذي لم يولد بعد المختفي في غيب الله، إن المختفي يُبحث عنه بذاك القديم و الجديد إنها الحرية في التقيد لا القيد، إن الزمن بحث ودائرة متماسكة يؤدي وظيفة واحدة؛ حرية الكتابة يتخلى مؤلفها عن نفسه عن الكل لأجل الكل لأجل أن يخلق رأيا نفعيا و صورة جمالية عملية، يخلق لغة جديدة يقتضيها الراهن. الكتابة التي تحمل مواصفات تميزها عن غيرها وحدها تستطيع تمثل مؤلفها خير تمثيل، تدافع عن نفسها قبل مؤلفها في كل مكان وعلى كل المنابر. تمنح صاحبها شرفا ما بعده شرف حتى و لو منحه الغير منصفين ذلا و تخاذلا وعارا. قد يتساءل القارئ لسطورنا: أليست الكتابة ملك كاتبها، أليست الكتابة حاضنة كاتبها، أليس المؤلف نفسه محصّل الشرف صانعه لنفسه؟. الكتابة ولادة حية وعلى قدر معاناة المؤلف تولد الكتابة و تأتي بالقيمة، الإنسان الذي يملك القسط الوفير من الحرية لا يمكنه أن يكتب عنها أو يرسم صورتها، القرصان الذي لم يجرح الحبل راحة يديه في هبوب العاصفة لا يعرف كم هو البحر عميق و أمواجه باردة وقوية، لن يعرف كم هي السباحة ضرورية لأجل البقاء؟ الكتابة كشف لضر يٌُحْصِّلْ لصاحبها الضرر، إنها ضرورة يخفيها مؤلفها لوقت الضرورة . المؤلف يخفي نصوصه وقد لا يخرجها و لا يحررها إلا بعد موته، قد يموت المؤلف و النصوص وحدها من تصنع له شرف لم يصنعه هو في حياته. وإن حسنة المؤلف حسنة في حياته و بعد موته. المؤلف الحر يصنع أولا شرف كتابته فلولا يصنع ذلك لن تصنع له شرفه، إن النصوص لكثيرة و ترى الكتّاب كثرة و إن عددت كتابات الشرف قلّت عددا. إن الشرف المزيّف عمره قصير حتى لو صنع اسما و تمثالا و إن الأصيل ظاهر و لو عسّه الرقيب. قال ابن الرومي: قدح ضوء العين ممزوج بالشحم وضوء القلب مخفي في قطرات الدم . الشرف المزيّف و إن بلغ عنان السماء موته في موت كاتبه قد يموت الكاتب الحر ويحيه نصه داخله بشرفه. الشرف صنيع الحرية والكتابة خروج عن الدائرة وبحث لإدراك الحقيقة وتصورا لفهم كاملا للحياة ؛ رغبة في الكمال الذي لا كمال له. رابعا: الشخصية مواقف تاريخية في طريق التحرر المواقف تحرر، حاجة الكتابة لطاقة فكرية وعقلية وجهد نفسي لصهر العادات الإنسانية البغيضة التي تتحكم فيها امتيازات الحياة التي تخدعنا بها الطبيعة الحيوانية. " لأن قوانين الطبيعة مثل العدل و الإنصاف والتواضع و الرحمة باختصار أن نعمل للناس ما يجب أن يعملوه لنا بحد ذاتها ودون الخوف من قوة تفرض مراعاتها مناقضة لعواطفنا الطبيعية التي تحملنا على التحيز و الكبرياء و الانتقام." 3هوبس الكتابة مجاهدة في الارتفاع و السمو على الحياة المادية دون نسيان المادة كشرط ضروري للحياة بها تتم و تكمل و تستمر؛ امتزاج الروح مع الواقع. إن كل نص خالد تحفظه الذاكرة هو مقتضى إحقاق، لقد تكلم كونفوشيوس من قرون وتكلم بوذا والمسيح كما تكلم نبينا صلى الله عليه و سلم ووصل كلامهم أسماعنا؛ لقد كانوا أحرارا قبل أن يصيروا أنبياء وصاروا أنبياء لأنهم كذلك وتبعهم الأحرار بعد تمكنهم تخليص أنفسهم من عبودية أنفسهم ومن شعورهم بالدون واستأصلوا ضعفهم الذي ورثوه من سخرية الأثرياء الذين لم يكونوا قطا أسيادا إلا بألوهيتهم وربوبيتهم الصغيرة بفضل ثراء أسلافهم إنها سخرية القدر أن يقف الفضلاء وتكن حاجتهم بأيديهم. لقد كان الأنبياء و الفلاسفة و الحكماء عظاما لأنهم قلة ملكوا طاقة مجهولة، طاقة التحرر و المسؤولية يقول برغسون في كتاب معطيات الشعور ص 129" مجمل القول هو أننا نكون أحرارا عندما تصدر أفعالنا عن شخصيتنا بأجمعها وعندما تعبّر عنها و يكون بينها و بين هذه الشخصية ذلك الشبه الذي نجده أحيانا بين الفنان و إنتاجه..."5 الكتابة تأكيد للشخصية في زمن الإبداع ، إتاحة لحياة داخلية، حياة ماضية للتاريخ الذي يغفل عنه كثير من الناس ، التاريخ تمنحه الحياة داخل لحظات زمان الإبداع الذي يمنحه الاحترام الكامل و الانحناء. إن الشخصيات لتتكلم و المكان يرجع إليه سحره و ألقه وفتنته، تعود الأطلال إلى طبيعتها و أبهتها، يمارس الجميع حريته في إطار النص، يمارس كلام ، حركة، استذكار، تلك التراكمات المدفونة في أغوار الحياة، الموبوءة في زوايا النسيان، تلبس أرواحا وتأخذ لها أسماء كما الحياة الحقيقية، حتى الأمكنة تأخذ عناوين جديدة، كما يمنح النص البقاء للماضي البعيد، يثبّت الواقع الراهن، يكتب للقادم نبوءته ويرسم صورته بقلق وطمأنينة معا . إن الذي يبقيه النص حيا يواكب حاضر القارئ؛ يمنح صاحبه كيانه حين يساعد نفسه على الفعل الحر و لا ينقاد. الكتابة ولادة النص من رحم معاناة المؤلف وقلقه، مؤازرة الظل الخائف فينا؛ تُدعّيم الإقبال المتردد، معطية الثبات لخطوات الولوج، الولوج خطوة واحدة تتجاوز باب اللعنة السرمدية الأبدية التي يكرهها الحكام و العامة على السواء المسماة تدوينا. يتكامل النص بصدقه حين تكثر الأوزار على ظهر مؤلفه، تجسيدا لمعالم الشخصية التي يحملها. هي القلق الذي مصدره الطمأنينة المنتظرة، لا كتابة في لحظة بعينها، متشابهة، اللحظة لا تتكرر مرات كثيرة، اغتنام اللحظة شعور بحرية الإبداع في خلق النص الحاجة إليه، الشعور لحظات متفاوتة والكتابة أيضا خضوع لقيمة الحضور الذي يبحث عن بقائه. الكتابة تحصيل للحصول على ثقة الآخرين لأنها أساسا "عروض لآراء ونقد" . التلاشي ذوبان لا إضافة لشخصية الآخرين، لا تحريك و لا امتزاج و لا انقياد ولا تعرية لا استنفاذ منها( طاقتها، هدف النص الأصيل تحايل في عبثية مفرطة بل المتأصل في جذور مشكلات العالم وهمومه من هنا اكتساب المصداقية ، التحدي و تعدي الحياة الممّلة، انتصار على القيود و تجاوز العراقيل التي تحد حرية المؤلف. الكتابة تسّمى إبداعا و رسالة و استباقا و موقفا موفقا وغير موفق في الفعل الحر والتصور الحر المسئول داخل الالتزام ومحاولة إقناع القارئ و الآخر أيضا... للدراسة مراجع