واشنطن ترفض توقيف نتانياهو وغالانت    وفاة ضابطين اثر تحطم طائرة تابعة للقوات الجوية الملكية اثناء مهمة تدريب    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    اعتقال موظفين ومسيري شركات للاشتباه في تورطهم بشبكة إجرامية لتزوير وثائق تسجيل سيارات مهربة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    بورصة البيضاء تنهي التداولات ب "انخفاض"    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    رسميا.. اعتماد بطاقة الملاعب كبطاقة وحيدة لولوج الصحفيين والمصورين المهنيين للملاعب    الحكومة تُعزز حماية تراث المغرب وتَزيد استيراد الأبقار لتموين سوق اللحوم    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط: اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من الرواية إلى الكتابة: أين تقع»أرض اليمبوس»؟
نشر في العلم يوم 16 - 04 - 2009

قصد هذه المقالة أن تقرأ رواية الكاتب الأردني،القاص والروائي إلياس فركوح: «أرض اليمبوس»*؛،وذلك بأن تتأمل عالمها، وتتعرف على مكوناتها،وتفحص كيفية/ كيفيات صياغتها، من ناحيتي أسلوبها وبلاغتها السردية، وطريقة/ طرائق تكوينها. وإذ تبدو هذه الرغبات واضحة في مطلبها،ممكنة في مسعاها،وسبل التوظيف المفهومية والمنهجية لتلبيتها، فإن الاستجابة إليها، رغم هذا ليست أمرا ميسورا لأن العمل مناط الاشتغال لا ُيعطانا على طبق المقروئية الخاضعة لقواعد التلقي السردي،سواء منها التقليدية،ولم لا المجددة نفسها،بقدر ما ينحو إلى تشييد خاص لنظام كتابته،وبالتالي لكيفية ونوعية تلقيه. فهذه الأخيرة بالذات هي ما يمكن من وجوده، بإعادة تشكيله، أو يلغيه بإقصائه تماما من الجنس الروائي.
***********
يتوفر إلياس فركوح بدءا على رصيد مرموق من الأعمال القصصية والروائية،انتظم صدورها منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي،إضافة إلى نصوص نقدية ومترجمات مفيدة. رصيد يصب مجمله في قالب متطور يروم صياغة تجديدية للكتابة الأدبية تستلهم نظرة مغايرة للوجود،وتنحو إلى الحفر عميقا في ما تكتنفه الذات من طبقات طيٍّ ومسكوت عنه ولواعج. وهي كتابة تذهب في اتجاه ترسيخ المنحى التجديدي الذي بدأه سابقون،خاصة منذ نهايات العقد الستيني الماضي، في الكتابة السردية،ونقلوا به القصة والرواية العربية من ُسنَن المحاكاة الطبيعية والواقعية الحرفية والنقدية،واستنساخ الشخصيات والحوادث النمطية إلى أفق ينسّب المعطى الاجتماعي،ويغلب النظرة الذاتية جاعلا منها بوصلة الشعور والفعل طرا،وتبليغ هذا المنظور بطرائق منسجمة مع وجود وتصوير الإنسان في عالم انقلبت موازينه من كل النواحي، وهو انقلاب ما زال متواصلا، وتأثيره يزداد على الأعمال الفنية.
في هذه الرواية الصادرة نهايات سنة 2005، من الصعب التماس حكاية تقليدية،أو ولادة حدث،وتراكم فعل،مع جملة أفعال تشترك فيها شخصيات وتنخرط في مصير أو مصائر متضاربة، بغاية الكشف عن وضع اجتماعي وإنساني ما يعيش معضلة معينة في زمن بعينه، وفي قلبه بطل أو فاعل محوري تنسج حوله العلاقات وتتشابك. هذا على العموم ما نجده في أي تكوين روائي،ويحدث التنوع حسب الطريقة الفنية المعالِجة، والرؤية المستوعبة للمادة. وإذن، فأول ما تفرضه علينا رواية فركوح هو مراجعة أكثر من قاعدة تربينا عليها في تلقي النص السردي العربي الحديث، والتعاطي معها وفق مساحة وعناصر وإواليات تكونها أساسا، وإن كنا في الحقيقة لا نستطيع تطليق تلك القواعد،لا لأننا تربينا عليها فحسب، بل ولأن لها سطوة،شأن الكلاسيكية، يتعذر تماما إزاحتها؛أوليست هي بالذات التي نعتمدها لصنع الفارق؟! فضلا عن تغيير أفق القراءة وأدواتها هو جزء من تاريخ الأدب،وهكذا لا يتيسر التغيير لمجرد حدوث انزياحات في الكتابة، بل لابد من أن تصبح هذه قادرة في درجة تناميها وتراكمها قابلة لتندرج في هذا التاريخ،أي كلاسيكية،وهو ما نرى أن الكتابات السردية الحديثة في أدبنا العربي ذاهبة
إليه بإنجازاتها وتعثراتها،إنما هي متقدمة في هذا الطريق، وتسمح لنا،إذن،بالشروع في تغيير العلاقة بها إن نحن حرصنا على وجوده،وإننا لحريصون.
وإذن، ماذا نجد؟ تساؤل يفضي عندنا إلى الغموض والاستهوال،لا إلى النفي بتاتا،أو التقليل من حصيلة ما يمكن العثور عليه لدى كاتب اختار أن يسخّر الجنس الروائي لخوض مغامرة يقرر بنفسه أنها محفوفة بالمخاطر، طالما أن المطلوب لديه بالدرجة الأولى هو القبض على كتابة منفلتة، شأنها شأن الحكايات التي يشرع في سردها وتهرب منه تباعا لأنها بمثابة ذريعة تسوّغ الاستذكار، ونهج طريق استرجاع التاريخ الشخصي، بجعله بؤرة تلتف بها وتتشابك تعددية تواريخ من الواقع والماضي والحاضر،لأشخاص وأزمنة وهموم ومصائر تتقاطع مع ذلك التاريخ وهي أوشامٌ في جسد وذاكرة صاحبه،وجوده المادي و النفسي هو مقاومتها ومواصلة استذكارها لغويا، أي بكتابة ُتسمي عملها رواية وُتتلفها في آن.
تتكون» أرض اليمبوس» من ثلاثة أقسام،كل قسم يحتوي على ما يمكن تسميته فصولا أو فقرات كبيرة. يسبق هذا مدخل يحدد الغرض من العمل وهو:»عالج ما لا تعرفه بالكتابة قبل أن تموت أنت»(15)،و»تخفف منها[الذاكرة]واكتب فيها لتكتشف أبديتك»(م.س)،فتغدو العملية منذ البدء بمثابة فعل استشفائي، ونزوع للخلود يتجاوب مع نزعة نرجسية كامنة لدى الشخصية في قرارة بحثها لتدارك النقص الذي يوجد في الإنسان ويلح عليه الدين ومدار الكائن. يسبح القسم الأول، كتمهيد في مدى واقعي وشعوري، يعرّف القارئ بموقع الشخصية في مجال محدد، وفي الوقت نفسه، ترنّحها،عدم ارتكازها على هذا الواقع. فهي ذات ُمدرِّس يحرر مقالات،ويسعى للتفرغ للكتابة،وتتهيأ لاستقبال حرب الخليج الثانية،إشارة إلى استعداد العراق لغزو الكويت. تحتاج هذه الشخصية القلقة، تلتقي بأخرى قريبة منها، وإن أكثر التباسا لإقامة حوار يستخدم واسطة لشرح مسعاها، قبل ذلك البدء في تحديد هويتها، فلن نتعرف عليها من خلال أفعال،حدث بعينه يتطور،مثلا،كما في الرواية الواقعية،بل أساسا عبر صيرورة سيكولوجية ستؤديها الاعترافات والمونولوغات،وحواريات هي أقرب إلى المذكرات،لأنها في الأغلب من طرف واحد.
ف»نجيب الغالبي» الفلسطيني، رجل الأعمال العائد من الكويت إلى عمّان يمثل الطرف الوحيد القائم في حاضر الشخصية، والصدى المردد، حتى بالنقيض، لهواجسها،هو واسطة الشرح للهوية حين يسألها:»ماذا تكتب؟» ليجيب:» يصعب عليّ في حالات عديدة تعريف ما أكتب. أعني ليس يسيرا أن أضعه داخل خانة مستقرة متعارف عليها»(21). من هنا على القارئ أن يفهم هذه الإشارة، ويهتدي بها، إن اهتدى،وهو يخوض بحر كتابةٍ لجب، يؤكد الكاتب طبيعة الشخصية المضطربة ومعها تنبيه قارئه:»فأنت حين لا تكون مستقرا في داخلك، لن تخرج منك سوى شذرات لا تنتسب لأي كتابة بقدر ما هي كشفٌ لك»(م.س)، وبالتأكيد لابد من اتخاذ وضع مغاير في التلقي يسمح بالتعاطي مع النص.
بالفعل،انطلاقا من هنا سيكون علينا أن نستعد لاستقبال ما يرغب الكاتب،كل ما يريد نسجه أمامنا،واستحضاره من ذكريات ووقائع فاتت،متداخلة إن شاء بين ماض وحاضر، قد يجمعها إحساس قار،أو فطنة عابرة،وإن بالحفاظ على شبه هيكل عظمي لا مناص منه لتكتسي الرواية بلحم الكتابة،وهذا ما تصلح له مرحلة تذكّر الطفولة التي تمر بها الشخصية،بين القدس وعمان،فتصبح مرابع الصبا البيئة الأولى لقاعدة التأسيس المادي لمن سيكبر وتصبح له هموم وتطلعات من طراز مختلف،بل الذي سيمرض بفرط الإحساس بالنقص،عسى الكتابة أن تعوضه. سيحكي فركوح شذرات من طفولة بطله،الذي سيبقى بلا اسم طيلة العمل،مكتفيا بامتلاك ضمير المتكلم ليفتح الباب واسعا أمامنا لتأويل وتعددية وإشكالية هويته.
وهو في المدرسة بدير اللاّتين بالقدس، ثم في عمان، والقدس ثانية، ومن خلاله نتعرف على وجوه من محيط المرحلة،بعيد نكبة1948،»ولدت في سنة النكبة..خرجت من رحمها» (2930) بما أنه يحدد ميلاده بها، وأنه منذ ذلك التاريخ وهو يعيش في مناخ الحروب. وُصعُداً يرسم ملامح صغيرة لعلاقاته، منها خصوصا صورة مريم، أول حب ، لو جاز، في حياته، هي نفسها سنلتقي بها وقد صار رجلا وهو يناجي حبها الضائع متماثلة لنا في طيفية شبحية، تعبيراً عن حنين إلى زمن اختفى، كان ناقصا،ولم يكتمل في الحاضر. وفي القسم الثاني تتغذى الرواية ببعض حكايات محيطها الفلسطيني الذي ترعرعت في بداياته، وذلك ما تمنحه شخصية خضر الشاويش من سكان يافا الطريفة حقا، ببنائها المادي لشخص الملاكم المثابر، الطريقة الوحيدة التي وجدها لتحقيق الذات،والإنساني في سذاجته وفطريته قبالة أناس همُّهُم الربح، وأغرابٌ (إنجليز) يحتلون البلاد، وهي حكاية تفسح المجال لتوسيع دائرة المنظور المُبؤَّر أغلب الوقت على الذات لتوسيعه كي يشمل عناصر الأسرة،والعائلة الكبيرة، فوجوه تمثيلية من المحيط الاجتماعي،تتداخل فيها محكيات صغرى من قبيل وضع النجار داوود وأمثاله من فئة الصناع الخ..
وفي القسم الثالث تسترجع الرواية طرف الخيط الأول من حيث بدأت بشخصية نجيب الغالبي، بينما تواصل الرواية بالعلاقة معها البحث عن نفسها، مصيرها، من خلال علاقات نسائية ومساءلات وجودية مريم في قلبها.
وكلما سعى السارد في هذا العمل،أو تبيّن له أنه سيُحكم نسج السرد بقصٍّ منسجم ومتسلسل، قريب من النسق الواقعي، ومتجاوب مع تلقيه إلا وعمد سريعا إلى الوقف والبتر كأنه اقترب من وباء، أو سيفسد خط كتابته كله. ونقع نحن القراء،أيضا،في فخ النسق المذكور أو الموهم به مجذوبين بتشويق حكايات وسرديات وعوالم وصفية سرعان ما تتبخر
قد أعمل الكاتب فيها معول الهدم مرة، ودفع أصابع التفكيك لما بدا أنه يتشابك مرات، كي لا يبقى إلا على أنا بطله، أو عليه نفسه مدار حكي، وبؤرة استبطان واستحلاب ممكنات ذات تنازع الواقع كله على قوتها التمثيلية والتعبيرية، مقترحة وجدانه بديلا عن بطولة أخرى، أو هو ما تتوهم. على أن لدى الكاتب حرصا مستمرا لإبقاء جاذبية العالم الخارجي حاضرة بقدر ما تفرط الشخصية/ البطل في حساسيتها الفردانية، وتبئير بحثها الإشكالي عن ذاتها:»عليّ أن لا أستجيب لإغواء الاستطراد، فلأعد إلى الواقع»(66). فلخلق بطل ضد لا بد من مواجهته وانعكاسه في صورة مرآة واقع تعكسه مرةً ُمهشما، ومرةً هو من يعكسها مهشمة،وعموما هذه هي صورة البطل في الرواية الحديثة،الغربية طبعا،مذ اهتزت قواعد التنضيد الطبقي، وأخذت العقلانية ترتد على منطقها الداخلي بين حربين كونيتين مهلكتين،وتدخل اللا وعي مع جل معطيات التحليل النفسي في صنع بطانة الشخصية. ولخلق رواية ضد لابد من الالتفات إلى ما قبلها لتوجد هذه في مرآة مفارقتها،وهكذا لا مناص من الواقعية كمصدر تأسيسي ومرجعي معا،منها الإحالة التناصية لتدخل في صلب تكوين الرواية، ولتمثل رؤية مجازية لها،وهذه هي
الوظيفة الموكولة ل» أرض اليمبوس». ُتعرَّف بكونها «المنطقة الوسط بحسب المفهوم الكاثوليكي أو الثالثة ما بين الجنة والجحيم، تودَعُ فيها أرواح الأطفال الأبرياء الذين ماتوا قبل نيلهم المعمودية، لتزول عنهم الخطيئة الأصلية (خطيئة عصيان آدم وحواء للرب بعدم الأكل من شجرة التفاح)، ضمن الإيمان المسيحي. وكذلك هي المنطقة حيث تعيش أرواح البررة من المؤمنين والخيّرين الذين نشأوا في أزمنة الكفر إنما لا ذنب لهم لعدم إدراكهم رسالة المسيح»(5)،فإلى جانب محمولها الثقافي العقيدي تصبح منزعا لطموح واقعي نحو خلاص فردي من قِبل ذاتٍ تعتبر أنها لم تعش إلا النقصان، ولا يد لها في أي خطيئة، وبالتالي لتتحرر من سطوة الخطيئة المفترضة عليها أن «تكافح» لتصل إلى أرض اليمبوس،المطهر. الطريق الأول إليه ُتمثله الجاذبية الثانية ممثلةً في استحضار شخوص واقعيين، ممتلئين بزخم الحياة، وطراوة العيش ولذاذاته، مثل عذاباته، وإن بدت مثل زينة ورياش عتيق في محفل»روائي» طللي، يقف على رأسه اليوم كاتب يبكيه، يبكي عهد براءة زال،وهو يحن إلى صباه لينقذه من كهولته المتخبطة في أسئلة وجود حارقة، عموما غير محددة، هلامية، ما تنفك تتوالد متسائلة
عن ماهيتها، وهو لعمري شأن صعب لا تستسيغه الرواية إلا على سبيل استبطاني يحتاج دائما إلى ما يشخصه ليتجلى في مادة وفعل.
ها أنا، القارئ المحترف المزعوم، أضِل السبيل مرة أخرى إلى هذا العمل، أنا المتربي على قواعد تلقٍ لا تتناسب معها،فيما هي تدعوني إلى الطريق الثاني،الأصوب ربما،اسمه (الكتابة)، بوصفها الشأن الأول، الأجدر من كل شأن غيره عند الكاتب، وهو بطل الرواية من البداية ومسعاها، وكل كائن وحياة وشيء يمكن التضحية به مقابل كسب رهانها، بما أن كل شيء منها يبدأ وينبغي أن ينتهي إليها. ليس هذا استنتاجا منا ولا تخمينا بل عبارات تقريرية صريحة ترد في متن الرواية تعلنها وتنبه السّاهي إلى ضرورة الاهتداء بها وهو يقرأ فلا يستهويه أي دليل غيرها. يقدم الكاتب في البداية بطله،(أو يقدم نفسه؟) بالشكل التالي:»أنت كاتب، أو تحاول أن تكونه»(56). مشكلته هي الكتابة الناقصة:» تجاربك في إنشاء القصص وتشييد المدن ناقصة دائما»(م.ٍس) وعقدة النقصان تواجهه في كل مكان، وعبارة الأب لاتكف تعيدها على مسمعه بأن:»لاشيء يكتمل»(64)،إنه الخطاب الملحاح على امتداد العمل مناطه مقولة»الحذف والإضافة»،وهي بالطبع قوام الكتابة الجمالي،الخطابات الأخرى،المتعددة،المتجاورة،ما وجدت إلا لتسنده وتضعّفه،يمكن ترتيبها كالتالي: خطاب السارد؛ خطاب التداعي، خطاب
التذكر،خطاب فوضى السرد؛خطاب الاستطراد،خطاب الاستعارة، خطاب ازدواجية الرؤية، تصب جلها بين البداية والنهاية في خطاب سؤال أو مساءلة الكتابة،أو الخطاب الميتا روائي،منه إلى ضرورتها وامتحانها لتفضي بمن يخوض تجربتها(امتحانها مسيحيا)إلى اليمبوس، أو عسى أن تفضي.
من رواية بحجم 233 صفحة يمكن إيراد عشرات الأمثلة الدالة على محورية هذا الخطاب الشمولي، صريحة وضمنية ومتخللة، إنما لا بد من الانتخاب:
«..أنت ملول بطبعك ( ضمير المخاطب هو أحد ضمائر السرد المستخدمة اقتضاء للتنويع) (...) تنفر مما يكتبونه مجرورين بجاذبية العادة وسلطة قوالب التوصيفات السائرة. تدعي كتابة مغايرة» (87).
«كنت تخطط لكتابة رواية،فهل ما فعلناه حتى الآن[حتى ما تم سرده ص88] ليس غير المراكمة لمادتها الأولى الخام، ليصير لنا،أو لأحدنا[للقارئ،مثلا] إعادة ترتيبها لتكون كذلك؟ لتكون رواية، أعني؟»(88).
فإن تساءلنا،عقب هذا التنبيه نحس أننا لم نفز بشيء يُذكر: ما هي الرواية، إذن؟ جاء الجواب للتو صريحا:
«فالرواية إن كان ما نحن بصدده[أرض اليمبوس] رواية حقا ليست كشفا تفصيليا بسكان المدن،أو بيانا إحصائيا بمعمري ذاكرتنا يراد منه منفعة اجتماعية ذات بعد اقتصادي.»(89)
ما بالك حين يذهب الكاتب رأسا إلى رسم طريقة عمله، منها أسلوبه في صناعة الرواية، أو اللاّرواية، وليوضح بما لا يترك مجالا للشك ولا التأويل أن الكاتب نفسه هو موضوع وبطل عمله:» وعندما تجلس إلى أوراقك لتكتب، تتسابق بعض أشيائك وتتزاحم لتكون هي الأولى، فتنقاد لمشيئتها. أما بعضها الآخر؛فيتواطأ متواريا ليباغتك بأولوية تدوينه، فتكتشف لحظتئذ سهوك عما كان ينبغي أن تسرد أولا. عند التحدث والحكي،تتلعثم فتصمت، وفي الكتابة، تستجيب لانزياحات الفوضى وإغوائها لترغم المشاهد، بعد معاينة سردك المكتوب، على الاستقلال بذاتها. هكذا؛ دون وصل أو علاقات سببية»(198). بهذه الوضوح التقريري المباشر لا ُيبقي إلياس فركوح لأي قارئ محترف مجالا إضافيا ليفهم أو يُقَعِّد صنعته،لكنه لا يستطيع أن يمنعه من طرح السؤال: إذا كنتَ تقر، وتعطي الدليل،بأن ما تكتب ليس رواية،أو هي نص نقيض ضمنها،كما تشاء،وبرغم التجنيس الذي هو ميثاق مبرم بين المؤلف والقارئ على غلاف المطبوع، فماذا يكون ما تكتب، لنقل كيف تريد للقارئ أن يتلقاه، وبأي استعداد وقدرات، والتجنيس القبْلي يوجه أحبَّ الكاتب أم أبى. إن الكاتب الفرنسي باسكال غينيار، مثلا، ولوكليزيو،
أيضا، في عديد إصداراته،كفّا عن هذا التجنيس انسجاما مع نوعية مادة أعمالهما، والاختراقات المتوالية التي يقومان بها ضد النسق الروائي عن وعي كامل، وهما يتركان القلم والعين والشعور على سجيتها،وإن لم يخل ذا من تمكن سابق بالعدة الفنية الروائية، وهذان كاتبان لا يمكن نعت أعمالهما بالتجريبية لأنهما استقرا على أسلوب،أكثر من أسلوب،بات وَقْفاً عليهما. بعبارة أخرى إذا كان من نافلة القول وصف»يمبوس» فركوح كونها عملا تجريبيا، بمعنى يشق صاحبها طريق البحث عن طريقة غير الرواية، وهو يصنع خطابات متضاربة، وتتشذر عنده اللغات، تخترق الأساليب بعدها في انزياحات لا تتوقف عن النموذج الواقعي؛إذا كان الأمر على ما ُيلحظ في قراءة هذا النص السردي/اللاسردي /الواقعي/ التخييلي/الأوتوبيوغرافي/التوثيقي،هنا حيث تتعدد سجلات الكتابة، ومعها تختلط، تلتبس سنن القراءة، فإن التجريب لا يتأتى حقا إلا بترسيخه، بمعنى تخطيه إثر إقرار نشاطه، فذا بعض ما تصنع المدرسة الأدبية، وإذا لم ينضو هذا التجريب في تاريخ الأدب، سواء في الشعر أو النثر سيبقى ارتباكا، أحيانا تخبطا، مثل مركب تتلاعب به أمواج عاتية!
أحب أن أختم هذه القراءة بالقول إن» أرض اليمبوس» رغم منزعها التجريبي البين،بأي معنى أردناه للمصطلح، تبقى،مشدودة إلى جاذبية روايات وحساسيات فنية راسخة في التراث السردي،أجنبية وعربية،ولأمر ما أجد هذا العمل، وإن على طريقته، قريبا من»التربية العاطفية» لفلوبير،هذه الرواية التي أعتبرها منبع العبقرية الفلوبيرية في فن التخييل الواقعي، الخزان الذي حوى كل ما جادت به قريحة هذا الروائي الكبير، وفيها نعثر على المادة الأولية لشهيرته:» مدام بوفاري». وهي تربية كاملة،أي تستوعب المكونات السيكولوجية والثقافية والحياتية الخاصة والعامة لكاتبها في الوقت الذي تصنع الرسم البياني للوحة كتابته،كيف تشتغل في زمنها، وستشتغل لاحقا، باعتبار أن «التربية العاطفية» ورشة مفتوحة نعلم لاحقا الشكل الناضج الذي اكتملت فيه، مثل تحولا نوعيا في الرواية الواقعية. هذا التحول ذاته، وبتفاوت تاريخي طبعا،توجد مياسمه في»أرض اليمبوس» كجزء من تحول عام يلحق الرواية العربية منذ عقود الآن، لكنه ما زال إلى الآن قيد الامتحان، أي يخضع للتجريب، النزواتي والجاد معا،وقد آن له أن يستقر، وليس مثل النظام في الفن وسيلة لهذه الغاية الشاقة.
*»أرض اليمبوس» المؤسسة العربية للدراسات والنشر أزمنة، عمان، 2005


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.