الحفاظ على اللغة في الكتابة هو أساس الذوق اللغوي عند الكاتب كيفما كانت صفته ووظيفته الكتابية، والحاجة إلى التذوق اللغوي، قبل الحاجة إلى المادة المكتوبة، هو أصلا، قائم على الرضا والقبول بالمادة المكتوبة وباللغة المستعملة ومن هنا تكون اللغة خاضعة لضوابط محددة في ولادتها وأثناء خروجها من بوتقة الفكر التراكمي عبر العصور والأزمات وتسلسلها في خط صحيح وصائب ومليء بالولادات غير المريضة . لقد كبرت مساحة استغلال اللغة مع مرور الزمن، وتعددت الألسنة الناطقة في كثير من الأمم عبر تقدم السنين، وازدياد السكان وتعدد المجتمعات والأمم، حتى أصبح في المجتمع الواحد أكثر من لغة واحدة تتداول فيما بين سكانها والمكونني لها... فأصبحنا نجد إضافة إلى اللغة الأم المتداولة بين الناس في مجتمع ما، لغات أخرى تدرس، ويكتب بها رسميا أو بين مكونات هذا المجتمع، وبالتالي صارت العناية باللغات من أولويات كل إنسان، يعمل بكل جد وجهد في تعلمها هدفا في توسيع معرفته بها أو طلبا في العمل بها أو تحقيق غايات أخرى، كالعمل في الأسلاك الدبلوماسية وتمثيل أمته في دول وأمم أخرى . ونعود إلى اللغة العربية التي بدورها اتسعت رقعة استعمالها بعد ظهور الدين الإسلامي، وعرفت توغلا عظيما بين الأمم والمجتمعات المنتشرة في المعمور آنذاك وخاصة الأمم التي لا تمت بقرابة إلى اللغة العربية في تواصل أفرادها، فتبنتها، وأسستها لغة أساسية حتى أنه في بعض الأحيان جعلتها لغتها الرسمية والإدارية، ليس في المجال الديني بعد دخول الإسلام إلى هذه الأمم وانتشاره فيها، ولكن حتى في التعامل اليومي والصناعة الفكرية والأدبية ، الأمر الذي جعل العديد من المفكرين والأدباء غير العرب كالفرس مثلا يتخذ اللغة العربية كوسيلة في تعاطيه الفكري والعلمي والأدبي، بل نجد من هؤلاء قد تمكنوا من إتقانها. فأصبحوا بإتقانهم للغة القرآن الكريم أئمة وشيوخا ونحاة وأدباء بارعين . وجاءت الخلافة العباسية، وتبنت بذلك حركة واسعة للترجمة لأمهات الكتب العملية والأدبية والفكرية، فبدأت الترجمة تتسع دائرتها على يد مترجمين من أصول غير عربية كابن المقفع مثلا، وابنه محمد الذي كان من المترجمين الأوائل للمؤلفات الإغريقية في المنطق والطب إلى اللغة العربية. ثم وسع بعد ذلك هارون الرشيد الخليفة العباسي القوي من نشاط الترجمة إلى اللغة العربية حبا فيها وحفاظا عليها كلغة للعلوم ولكل المعارف الأخرى، وكان ذلك على أسس منهجية وتنظيمية وضابطة، بتكوين لجان للمراقبة والتدوين والنقل ... فعين الفضل بن نوبخت على إدارة خزانة الحكمة التي أسسها كوسيلة مرجعية للعلماء والفلكيين والفزيائيين والرياضيين... كما اشتهر بعض المترجمين الآخرين الذين لا يقلون أهمية عن ابن المقفع وابنه محمد، بعد وفاة هارون الرشيد وتولي أبنائه الحكم من بعد، فظهر آنذاك ثابت بن قرة وابنه من بعده، واثنان من أحفاده، وواحد من أبناء أحفاده، فترجموا أعمال أرشيمدس وأبولونيوس البرجي ونيقو ماخوس الجرشي... كما اشتهر كذلك في عملية الترجمة حنين بن إسحق بتمكنه من إجادة اللغة العربية والسريانية والإغريقية التي ساعدته في عملية الترجمة كثيرا . إذا سلمنا بتطور اللغة العربية بين الأمس واليوم، فإن من الحكمة أن هذا التطور على اللسان الناطق لتلك اللغة بعد أن يكون العقل قد أدركها، وأدرك مفرداتها المختلفة الجديدة، من دون أن يكون التجديد بعيدا عن الذوق السليم الجماعي، كبيرا كان أو صغيرا، فرديا كان أو متعددا... ولكن أن يبتعد المبدع والمفكر والمتكلم باللغة العربية عن معنى الألفاظ وتغيير الكلام واللسان وإدخال مفردات من لغة أخرى صوتا ولحنا وإبداعا فهذا سيؤدي لا محالة إلى الطامة الكبر يجنيها على اللغة، لأنه وبكل بساطة، أن اللغة العربية مرتبطة بحياتنا السياسية والفكرية وبحضارتنا التي عمرت لآلاف السنين . والظاهر أن هذه الصفة التي أصبحت تلبس المفكر والباحث والمتلكم باللغة العربية اليوم باتت واقعة وحقيقة لا مراء فيه، بل تعدى ذلك إلى الإبداع والفن والصحافة والفكر والسياسية وكل ما له علاقة بعالم المعرفة الواسع. ولا يمكننا أن نحدد أسباب الظاهرة بين عشية وضحاها أو بجرة قلم أو بدعاء بسيط، ولا يمكننا أيضا أن نرجع سبب انتشارها إلى سنين الاستعمار أو السيطرة الثقافية والفكرية التي مر بها العالم العربي والإسلامي، أو للقصور الفكري والإبداعي الذي توغل في الأمة قبل عدة قرون من الآن. فسنكون مجحفين في حق الغرب ومقللين من مسؤوليتنا العظمى وراء تردي اللغة العربية، وفتحنا لأبواب العقول عندنا مشرعة ترمح فيها خيول الشعراء والأدباء والمفكرين الغربيين بإنتاجاتهم الأدبية والعلمية، ولو كان من إرادتنا أن نسمل عيون خيولهم ومخيلاتهم ونجلو ضباب المرحلة الاستعمارية عنا، لأدركنا حينها أن كل خيولهم من خشب ستنكسر في حين أيقظنا فرساننا الشعراء والمبدعين من سباتهم العميق . إذن، فالحفاظ على لغة الضاد قيمة أساسية في صياغة المستقبل لنا والحفاظ عليه وديمومة بقائنا بين الأمم بمميزاتنا القومية والهوياتية. ولا نجد غضاضة في القول بأن رصد مثل هذا الخطر الداهم الذي يحيق بلغتنا العربية، بظهور بعض الظواهر المريضة في النطق والصوت، قد يكون من العسير على القيمين على مجامع اللغة العربية في عالمنا العربي التغلب عليها أو التقليل من استفحالها داخل المجتمعات العربية. وقد ينتقدنا البعض على ما قلناه هنا، بوصف هذا القول بأنه رجعي ومنغلق على الذات ورجوع عن الحداثة الغربية التي تنخر أجسادنا وليست حداثتنا نحن، أو تخلف فكري فارغ المحتوى وأسلوب المعالجة يخترق أسوارا واهية تقف سدودا منيعة في طريق التقدم في كل المجالات بما فيها التقدم اللغوي. والجواب بسيط للغاية، وهو أن الحفاظ على المرجعيات والأصول القومية والهوياتية لكل أمة في مجالات الإبداع والفكر والعلوم كافة، طريق اللتقدم والازدهار والرقي، فأصل الأمور طريق البناء والتشييد، وسلوك سبيل التطور والتعالي على قيم الظلامية والتخلف والرجعية في ظل تحديث اللغة العربية ومسايرتها لمتغيرات العصر ...