صدرَ عن مؤسَّسة ناجي نعمان للثَّقافة بالمجَّان، في مناسبة بَدء شهر الاحتفاليَّة بالمئويَّة الأولى لِمَولد الأديب والشَّاعر متري نعمان (1912-2012)، كتابٌ أوَّلُ بعنوان "متري نعمان بأقلام قارئيه وعارفيه". بعدَ تمهيدٍ وشُكرٍ من ناجي نعمان، ووَعدٍ منه بالتَّجرُّد أكثر للثَّقافة، وبمُقارعتها، "حتَّى تتعبَ منه الثَّقافة"، يفتتحُ الدُّكتور إميل كَبا بابَ الكتاب الأوَّل، وهو بأقلام قارئي متري نعمان، ببَحثٍ حول شِعر الرَّاحل، يقولُ فيه: "أخذَ العربيَّةَ إلى قطاعاتٍ جديدةٍ في مسائلِ اليوميَّات والسِّيَر الذَّاتيَّة والمسرح، فحملَتْ ذُخْرًا من إنجازات النَّهضة العربيَّة في هذا الشَّأن، وأمدَّتْها بروافدَ مستحدثَة، فتوحاتِ صِيَغٍ، ودلالاتِ تعابير، واندياحَ مَعانٍ في عمل الألفاظ، وكلُّها.. لعِهدة القارئ المتبصِّر آياتُ جِدَّةٍ وآلاءُ اكتشافٍ بالعناء الكبير. "متري نعمان.. شاعرٌ، غزيرُه في فنون الشِّعر الكثيرة كالمعدِن الثَّمين الَّذي لِحلْيَة: مقدارٌ فيه من عنصرٍ دخيل، فما يَلْوي ذهبُه بينَ يديْك؛ أو قلْ هو "نَسْرةُ الجمال" – والتَّعبير لسعيد عقل – واجبٌ أن تتضمَّنَها كلُّ قصيدة، كمليكةٍ تحِفُّ بها جوارٍ، فما تُتعبُكَ العظَمةُ المُختالة؛ لا يُنالُ من احتفائِك بالحُسْن، كما لا ينُقِصُ من شغفِكَ به رُتوب". وينبري النَّقيب الشَّاعر أنطوان رعد للبحث في ترجمات نعمان، ويقول تحت عنوان "روَّضَ اللُّغةَ وأعجمَ عودَها": "التَّرجماتُ الأدبيَّةُ علمٌ وفنٌّ على حدٍّ سواء، إذ ينبغي لمَن يتولَّى القيامَ بها أن يلتزمَ شروطًا صارمةً ومعاييرَ دقيقةً منها الأمانةُ والدقَّةُ والخبرةُ الوافيةُ في أسرار اللُّغة الَّتي يُترجَمُ عنها، وأسرارِ اللُّغة الَّتي يُترجَمُ إليها. فالتَّرجمةُ كالقُبلة النَّاجحة، هذه لا يمكنُ أن تتمَّ من طرفٍ واحد، وتلك يتعذَّرُ القيامُ بها من دون إتقانِ لغتَين. "وقد تسنَّى للأديب متري نعمان، بحكم مواهبه الأدبيَّة، وثقافته الواسعة، وبحكم كونه مسؤولاً عن مطبعة الآباء البولُسيِّين، في حريصا ففي جونية، أن يكرِّسَ حياتَه للأدب، وأن يُثريَ المكتبةَ العربيَّةَ بمجموعة من الكتب تأليفًا وترجمة"... "لقد شُغفَ الأديبُ متري نعمان باللُّغة العربيَّة ودافعَ دفاعًا مُستميتًا عنها، علمًا أنَّ دراستَه في مدرسة "الصَّلاحيَّة" للآباء البِيض في القُدس أتاحَت له أن يُتقنَ الفرنسيَّةَ واللاَّتينيَّةَ واليونانيَّةَ (لاحقًا درس الإنكليزيَّةَ على نفسه)، فأبلى بلاءً حسنًا في الكُتُب الَّتي تولَّى ترجمتَها عن الفرنسيَّة، ولاسيَّما تلك الَّتي هي لثلاثة من كبار أدباء فرنسا في القرن العشرين. ويُنهي الدُّكتور يوسف عيد فصولَ الباب الأوَّل ببحثٍ حولَ لغة الأديب الرَّاحل، ويقول: "ما لا يُعرَب لا يُكتب" (أنقذوني من أهلي، ص 18)، لذلك نرفضُ فكرة التَّخلِّي عن دروس القواعد لأمورٍ أخرى. وبالتَّالي، يجب تغيير المنهج التَّلقينيِّ بالنَّهج "السَّليقيّ" الَّذي يُمسكُ بالمتعلِّم من الصِّغر إلى الكِبر، وتتمأسَسُ القواعد، بالتَّالي، بصورة تلقائيَّة في المزاج الفكريِّ والمعرفة اللُّغويَّة. "هذه السَّليقة لا تُخطئ، وتصير هي الميزان والمقياس والشَّاهد وصمَّام أمان للُغة عربيَّة صحيحة، وذوق سليم، ولسان صالح، وفكر يستوعبُ القفزات التَّواصليَّة في التَّخاطب الإنسانيّ. "بورِكَ القلمُ الَّذي خطَّ، القلمُ الَّذي رقدَ بين أصابع مَولانا اللُّغويِّ "متري نعمان"، وكان قيامةً مجيدةً في عقول الَّذين تعرَّفوا إلى آل نعمان الكِرام". *** وفي الباب الثَّاني من الكتاب، شهاداتٌ في الرَّاحل بأقلام عارفيه. يقول الأديب جان كمَيد تحت عنوان "آخرُ العَهد الطَّيِّب": "لمَّا توثَّقت معرفتي به صرتُ أرى فيه أكثرَ من صديقٍ لوالدي، بل صنوًا له، شاعريَّةً وأدبًا وخطابةً، وتمكُّنًا من لغة الضَّاد. فإنَّ متري نعمان هو من أساطين هذه اللُّغة، وكانَ يأسى على مصيرها بين أيدي جيلٍ لا يُلِمُّ بها ولا يعرفُ قيمتها، لذا أصدرَ كتابَه المعروف: "أنقذوني من أهلي". ومن شهادة الشَّاعر رياض عبد الله يوركي حلاَّق، صاحب "الضّاد" الحلبيَّة: "عرفتُ متري نعمان معرفةً وثيقةً منذ أكثرَ من خمسين عامًا، إذْ كان خَدينَ والدي ورفيقَه في الأدب والشِّعر، وكنتُ أزورُه في عَرينه في صربا... وأكتفي هنا بذكر ما دوَّنه الأخ ناجي على غلاف ديواني (من حصاد السِّنين) الَّذي حازَ جائزةَ الأديب متري نعمان للدِّفاع عن اللُّغة العربيَّة وتطويرها لعام 2009... وهذه الكلمة المُقتَضَبَة شهادةٌ كبيرةٌ لعائلتَي نعمان وحلاَّق، وما يربطُهما من محبَّة وصداقة ووفاء وإخلاص: "بين متري نعمان وعبد الله يوركي حلاَّق ما كان بينهما من صداقةٍ وزمالةِ يراعةٍ وحبِّ ضادٍ وريشةٍ ونَغَم؛ وبيني وبين رياض عبد الله حلاَّق ما سَبَق، إلى الوفاء للوالدَين، فلا صداقةَ بلا وفاء، لا، ولا زمالةَ يراعةٍ وحبَّ ضادٍ وريشةٍ ونَغَم. ومَن يَكُ وَفيًّا يَنَلْ كلَّ شيءٍ، وإنْ لا شيءَ في يده، فيما، أيًّا يبلُغْ ما في يد الجاحِد، يبقَ فقيرًا فقيرًا". ويقولُ الشَّاعر هنري زغيب: "إنَّ ما زوَّدني به في مَطالعي من إشاراتٍ وملاحظاتٍ وأفكارٍ وتصويبٍ لغويٍّ يُبقيه في ذاكرتي بِحضوره الرَّضِيّ، وشخصه الهَنِيّ، وشخصيَّته الوديعة، وصوته المتهدِّج، فيظلُّ جزءًا صلبًا من شبابِي ومَطالعي الأدبيَّة، يُرافقُني طالما لا يزالُ بي شبابي الأدبيّ، وطالما لم أزل من الأدب في المَطالع الَّتي أرجوها لا تنتهي لأنَّها، إذا انتهََت، تجرُفُني معها إلى النِّهاية. "متري نعمان، في حياتي الشَّخصيَّة والأدبيَّة، عُنوانٌ أَضاءَ، ويَبقى مُضيئًا، ورُكنٌ كان يرفدُني بحضوره، وسيظلُّ يرفدُني في غيابه بِحضورٍ لا إلى غياب". ومن شهادة الشَّاعر جوزف أبي ضاهر: "رافقَتني محبَّتُه، ورافقَتني نصائحُه ولهفتُه على إبعاد الشَّوائب - مهما كانت صغيرةً - عن اللُّغة الَّتي أحبَّها حتَّى العِشق، وما عادَ يَرضى بحبَّة غبارٍ تعلقُ ولو بأطراف ثوبها. "متري نعمان، "المُعَلِّم" والكاتِب، ألمحُه مرَّات كثيرة، وأنا أكتُب، واقفًا يدقِّقُ بما أكتُب، مُشجِّعًا، ومباركًا بفَيض ما أُعطيَ من معرفة". ويقول الأستاذ عبده بو نافع في الرَّاحل: "هذا ما عرفتُه في "الأستاذ": الدِّقَّة في التَّعبير، وملاحظة الأخطاء الإملائيَّة والإنشائيَّة، وتحريك الكلمات؛ بالإضافة إلى طِيب المعدن ورفعة الأخلاق والمعشر". ويُنهي المُعلِّم شكري باسيل الكلامَ على متري نعمان بالقول: "أديبُنا الكبير، وحبيبُنا، نورٌ برَّاقٌ تَوارى، غيرَ أنَّ إشعاعَه الفكريَّ والأدبيَّ ما زالَ يلتمِعُ بين طيَّات ما خَلَّفَه من تراثٍ غنيٍّ لا تستطيعُ الأيَّامُ الطَّويلةُ أن تمحوَ بصماتِه الرَّاسِخَةَ أبدًا في الأدمغة والعُقول! "لقد جرَعَ كأسَ العُلوم والآداب حتَّى الثُّمالَة، ولم يُحِسَّ يومًا أنَّه أكمَلَ الشَّوطَ، أو بلغَ الهَدَف! "الأستاذ متري نعمان الَّذي عرفناه وأحبَبناه طيلةَ نِصف قرن، ما زالَ ماثِلاً أمامَ كلِّ مَن عرفوه بصَوته الأجَشّ، وحُجَجه الدَّامِغَة، وقلبه الكبير! وكم كانَت كلماتُه دروسًا ما زالَ الجميعُ يَستنيرُ بفلسفتها وعُمقها إلى اليوم!".