تمهيد: بإجماع يكاد لا يشذ عنه أحد من عموم عناصر لجان الاختبارات الشفوية لمباراة الدخول إلى مراكز مهن التربية والتكوين، فإن كفايات المترشحين الذين اجتازوها في الأيام الأخيرة دون المستوى المنشود لتحمل مسؤوليات التربية والتعليم بعد أقل من نصف عام من الآن.. الملاحظة أعلاه ليست ضربا من إرسال الكلام على عواهنه، وليست كذلك من قبيل الرؤية السوداوية المطلقة.. وإنما هي نتيجة مقابلات محكمة تأطرت بموجهات علمية وموضوعية مختلفة، جعلت شبكات التقويم بمؤشراتها الدقيقة تنطق بالحقيقة بعيدا عن الأحكام الانطباعية والأهواء المزاجية. نحن أمام آلاف من الشباب المغاربة الذين اجتازوا الاختبارات الكتابية بنجاح.. ومعهم شهادات عليا من إجازة وماستر ودكتوراه.. ويتأبطون أيضا دبلومات مختلفة تشهد بتوفرهم على كفايات علمية ومهارية شتى..لكن الحقيقة مؤلمة مؤسفة..! الحقيقة التي أجمعنا عليها في نقاشاتنا وتعليقاتنا بعد أيام متتابعة من المقابلات الشفوية لساعات ممتدة هي ضرورة إعادة النظر عاجلا في المدخلات البشرية لمنظومتنا التربوية قبل فوات فرص الاستدراك. فلنسرد بعض الملاحظات التفصيلية لهذا الكلام المجمل.. وهي من خلاصات المقابلات المنجزة مع مترشحي مادة اللغة العربية..: الملاحظات: أولا: ضعف كبير لدى عامة المترشحين في امتلاك الكفايات المهارية والمعرفية الدنيا المتوقعة لدى طلاب حاصلين على الإجازة – وما فوقها- في تخصصهم.. 1- فالقدرة على التعبير اللغوي السليم عن الذات والأفكار دون المستوى المتوقع بكثير.. حيث الجمل يختلط فيها الفصيح بالدارج.. وفصيحها أعرج لا تستقيم فيه قواعد اللغة وضوابطها إلا بشق الأنفس وبعد التنبيه المتكرر.. جمل تبدأ بكلمة أو اثنتين ثم سرعان ما ينقطع الإرسال.. 2- واستيعاب المترشح للسؤال ومُكنته في الفهم، والالتقاط النبيه للتلميح أوالإشارة من الهزال بمكان..فتضطر اللجنة مرارا إلى إعادة صياغة السؤال بطرق شتى..بعضها بلغ من التبسيط ما يثير الاندهاش.. 3- أما الخط على السبورة فقليل من المترشحين من يكتب بخط مقروء في حدوده الدنيا.. حيث تختلط الصور البصرية للحروف، ويصعب على اللجنة- بله المتعلمين مستقبلا- التمييز بين أشكالها.. والنّقط مبثوث حيث لا ينبغي..مفقود حيث يجب.. ومع تفهم اللجان لبعض دوافع الارتباك النفسي في ذلك..فإن الأمر يحتاج تنبيها واشتغالا للمعالجة. 4- وكذلك الشأن في وضعيات الإملاء والنحو والصرف والإعراب حيث الهنات المفزعة.. رغم أن أسئلتها في كثير من الأحيان كانت لقياس القدر الأدنى، حيث لا عمق ولا تعقيد.. فحينما يتعثر مترشحون حاصلون على الماستر في تمييز الفعل من الفاعل.. ومعرفة الجملة الاسمية من الفعلية.. ويضطربون في تصريف أفعال في متناول المستوى الابتدائي..ويخطئون في كتابة الهمزة.. ويرتبكون لإعراب جملة بسيطة المبنى.. فإن الحيرة تجثم بكلكلها على الصدور. 5- وبالانتقال إلى علوم العربية الأخرى كالبلاغة والعروض فإن الأمر يتعقد أكثر..حيث معظم المترشحين لا يملكون غير عناوين سطحية لا تعدو أن تكون من قبيل الثقافة العامة أو المسموعات العارضة.. فإن أفلح أحدهم في تعريف مفهوم أو ظاهرة، عجز في إنشاء جملة للتمثيل عليها.. 6- أمام هذه العثرات الأولية يبدو السؤال عن تاريخ الأدب العربي وخصائصه عبر العصور، وسمات التطور والتجديد الحاصلة فيه شعرا ونثرا.. من تكليف المترشح بما لا طاقة له به.. فهو حاصل على الماستر لكنه لا يحفظ بيتا واحدا من الشعر العربي.. ويجهل معنى المعلقات ويغيب عنه أشهر شعرائها.. ويندهش لسماع مصطلحات عمود الشعر، والمقدمة الطللية، وحسن التخلص، ومديح الكدية، وشعر النقائض، وزمن ظهور الشعر السياسي، وضعف الشعر في صدر الإسلام، وتمرد أبي نواس، وشعر الطبع والتكلف، وأثر الفلسفة في الأدب العربي عصر بني العباس..ولا يستطيع ذكر شاعر من شعراء كل فترة أو تيار.. وتختلط عليه الرؤية بالرؤيا، ولا يعرف معنى توظيف الرموز والأساطير في الشعر الحديث.. وتغيب عنه أسماء أشهر الأدباء المغاربة .. وتكون رواية اللص والكلاب المبرمجة في الثانية بكالوريا هي آخر مقروءاته السردية.. ولا يعرف عنوان ديوان واحد من الشعر.. ويفغر فاه لسماع سؤال عن المناهج النقدية وحدود الاتصال والانفصال بينها.. ههنا نضع أيدينا على قلوبنا أسى ووجلا. 7- غير أن البحوث الجامعية التي أنجزها هؤلاء المترشحون في مستويات عليا مختلفة، تحمل عناوين كبيرة ومثيرة: بحوث عن الوظيفية في النحو، واللسانيات الحاسوبية، والصواتة، والمعاجم، والخصائص السردية في نصوص مختلفة..وغيرها.. لكن هذا المترشح الذي قضى سنتين في ماستر عن السرد لا يستطيع تعريف السرد أو الحكي..وذاك الذي أنجز بحثه عن النحو الوظيفي لا يفهم معنى تقديم خلاصة مفيدة واضحة عن جدوى بحثه بالنسبة للمتعلمين.. عناوين ضخمة ليس تحتها شيء يغني أو يفيد..؟؟ 8- وقد كان الأمل مائلا نحو خريجي مدارس التربية والتكوين باعتبار مسارهم الذي يُتوقع أن يعدهم لمثل هذه المقابلات معرفيا ومهاريا.. لكن لم يكن حاصل المقابلات عموما ينبئ بكبير فرق أو تميز لهذه الفئة عن غيرها من مترشحي الإجازات الأخرى.. وهذا مثار دهشة زائدة. 9- نقطة الضوء الوحيدة والمهمة التي تميز بها أغلب المترشحين هي القدرة على المحاكاة لدور الأستاذ في تقديم المقطع المقرر تدريسه.. حيث كان توجيه المباراة نحو هذه الوضعية مفيدا لجميع المترشحين الذين تدربوا- كل بحسبه- على إنجاز المطلوب بمستويات مقبولة يمكن صقلها مع توالي أيام التكوين والممارسة. ختاما للجزء الأول من هذا المقال: هل كنتُ قاسيا أو غاليا في هذا التوصيف..؟؟ الجواب الصادق الذي يشهد عليه عموم المشاركين في اللجان هو: هذا غيض من فيض حقائق المستوى المعرفي المأزوم لمترشحي مباريات التربية والتعليم..؟ الإجماع منعقد على ما ذكرتُ آنفا.. وما بسطته بتفصيل إلا لاستجماع الهمم والإرادات من أجل المعالجة والتقويم خدمة لمدرستنا الوطنية.. لا مناص من قساوة التشخيص لمعالجة السقم. في الجزء الثاني من المقال سأقارب بحول الله: أسباب هذه الأزمة المعرفية لدى المترشحين.. وحدود مسؤولياتهم الشخصية فيها.. وكيفيات معالجة الخلل قبل التحاق الناجحين بأقسام العمل..؟ ذ- محمد شهبون/ مفتش تربوي