شكل التدخل المغربي لإعادة فتح معبر الكركرات وتسيير الحركية التجارية يوم 13 نونبر 2020م، نقطة مفصلية في التعاطي الاعلامي مع العلاقات المغربية الجزائرية، فقد ابتعد التناول الاعلامي الجزائري (الرسمي و"المستقل" في الداخل) من التناول المتحيز والمتقطع ، إلى التناول اليومي المستمر، عبر تلفيق القضايا بدون حجة، وممارسة التدليس الإعلامي عبر استغلال فيديوهات خارج المنطقة عن سبق اصرار وترصد ثم تقديمها على انها تتعلق بالصحراء المغربية، في محاولة لإقناع الرأي العام الدولي بحقيقة وجود الحرب بين المغرب و"جبهة البوليساريو". كل ذلك يؤكد أن النظام الجزائري دخل مرحلة البروباغاندا الاعلامية عن وعي تام، الامر الذي يؤكد الحالة النفسية التي أصبح عليها هذا النظام. تستوقفنا هذه الوضعية لنطرح مجموعة من الأسلة، لعل أبرزها يثمثل في: الخلفيات التاريخية والنفسية لحالة النظام الجزائري أنيا؟ وهل ستؤدي هذه الحالة إلى إشعال فتيل الحرب بالمنطقة؟ وما هي التكلفة التنموية للوضعية الراهنة على مسألة التنمية بالمنطقة المغاربية برمتها؟. الخلفية التاريخية للحالة النفسية للنظام الجزائري: تأسست دولة الجزائر بالمفهوم الحديث للدولة يوم 3يوليوز سنة 1962، وتم الإعلان عن هذا التأسيس يومين بعد ذلك؛ أي يوم 5يوليوز وأسندت قيادة الدولة الفتية لعبد الرحمن فارس الذي قاد الحكومة التنفيذية المؤقتة مهمتها وضع أسس إعلان الجمهورية الجزائرية ، الذي تم في أكتوبر 1963م بزعامة أحمد بن بلة كأول رئيس للجمهورية الجديدة ، تأسست الجمهورية الفتية على أسس ثورة التحرير (بمفهومها العام وليس بالمفهوم القومي) التي استمدّت مبادئها من ثورة عبدالقادر الجزائري منذ سنة 1832م سنتين بعد الاحتلال الفرنسي للإيالة العثمانية آنذاك. ستنقلب أسس الدولة الجزائرية من دولة قائمة على أساس ثوري مؤسس على قواعد النضال المشروع ضد الاستعمار وما يرتبط بذلك من قيم المواطنة ونكران الذات والنضال من أجل الوطن، إلى دولة مبنية على أسس ثورية بخلفية قومية عربية متشبعة بالمباديء الشيوعية التي وجدت في الوطن العربي حاضنة خصبة إبان القطبية الثنائية ؛ إثر الإنقلاب الذي نفذه الهواري بومدين (محمد إبراهيم بوخروبة) يوم 19يونيو 1965م، بعد تهميشه للتيار الوطني ذو الحمولة الامازيغية بقيادو ابن أحمد ، فقد أعلن "مجلس الثورة" تبنيه للتوجه الاشتراكي والدفاع عن العالم الثالث والمشاركة الى جانب مصر في حرب 1967م ؛ الأمر الذي ارتاح له جمال عبدالناصر. لقد كان لهذا التحول الجذري في أسس الدولة الجزائرية الفتية، دور في بروز معارضة شديدة للهواري بومدين من طرف الشيوعيون المؤدلجون، فالهواري بومدين بالنسبة لهم هو عسكري لا تربطه بالقيم الشيوعة إلا العلاقة البرغماتية الضيقة، هذه المعارضة ستتعرض لقمع شديد أجهضها في مهدها، بعد الضوء الأخضر ، أو لنقل تغاضي جمال عبدالناصر وانسلاخه عن فكرة دعم بن بلة، الامر الذي شجع بوخروبة على استعمال سلاح الجو ضد محاولة العقيد الطاهر الزبيري الانقلابيبة، ثم تدبير ملف اغتيالات ممنهجة ضد قيادات في الجيش وفق سيناريوهات محبوكة تشبه في إخراجها ما يقوم به النظام الجزائري الحالي في تسويق عدائه للمغرب. ما يهمنا في سبر أغوار هذا التحول، هو فهم العمق النفسي الذي جعل النظام الجزائري يكن كل هذا العداء والحقد للمغرب، فالسيناريو الذي وضع لبنته الأساس محمد بوخروبة (بومدين) هو نفسه الذي لا زالت حلقاته لا تنقضي رغم هذا التباعد الزمني الكبير ، واختلاف شروط نشأته أنذاك مع شروط القرن الواحد والعشرين حد التناقض، الامر الذي يقتضي تغيير زوايا النظر والنهل من قاموس العلاقات الدولية الأني؛ فإذا كانت شروط تأسيس كيان وهمي لعرقلة الوحدة الترابية لبلد جار قدم الغالي من أجل حرية القطر الجزائري، فإن إكراهات التنمية التي تواجه المنطقة المغاربية برمتها والجزائر بشكل خاص؛ تقتضي تغليب مصالح الشعوب الاقتصادية والاجتماعية على كل الأولويات، على غرار ألمانيا وفرنسا وفرنسا وابريطانيا، وهي دول بعيدة تنمويا عن المنطقة المغاربية بسنوات ضوئية. قد يتبين من خلال كل هذه السطور السابقة، أننا في موقع المهاجم للنظام الجزائري، لكن الحقيقة تكمن في اختلاف زاوية النظر التنموية التي ننظر من خلالها عن زاوية النظر الجزائرية العسكرية والمؤامراتية، وهي نفس النظرة التي دفعتنا إلى التصفيق والاعتزاز بمواقف الدولة المغربية التي لم تتماهى مع الاسلوب الجزائري في التعاطي مع الأزمة الحالية وهي المواقف التي عبرت عنها الخطب الأخيرة للملك محمد السادس كخطاب العرش يوم و 31 يوليوز 2021 وخطاب الذكرى 46 للمسيرة الخضراء، حيث أعطى الأولوية لأسئلة تنمية المنطقة المغاربية وفق منطق رابح رابح ، عوض الانجرار وراء غلق الحدود وشعارات الحرب الباردة القائمة على اساس خاسر خاسر. هذا التوصيف يقودنا إلى تتبع المسألة التنموية راهينيا بالمنطقة المغاربية في افق استشراف مستقبل تعم فيه الرفاهية التنموية. سؤال التنمية بالمنطقة المغاربية: تعرّف التنمية في بعدها المستدام، بالتحسن الجذري الذي يمكّن من تلبية حاجيات الأجيال الحالية دون النيل من مستقبل الأجيال اللاحقة؛ أي أن القرارات الاقتصادية والتنموية والسياسية والاجتماعية للأجيال اللاحقة يجب أن يترك حق التقرير فيها إليهم، مع العمل على وضع الحاضنة الايجابية لقرارتهم أنيا. و بغض النظر عن موضوعية المعايير التي تعتمد من طرف برنامج الاممالمتحدة الانمائي، فالدول المغاربية توجد في المستويات الدنيا للتنمية رغم وضعها ضمن المستوى المتوسط ، باستثناء موريتانيا التي توضع ضمن المستوى الضعيف، مما يفرض إلحاحية سؤال التنمية في ظل توفر الشروط الموضوعية لتحقيها. تتوفر المنطقة المغاربية على خزان كبير من الموارد الطبيعية (الفوسفاط بالمغرب، الغاز بالجزائر، النفط بليبيا، الحديد بموريتانيا، المؤهلات السياحية بتونس…) كما تنعم المنطقة بالامتداد الجغرافي وغياب الحواجز البحرية والطبيعية، ناهيك عن الامكانات البشرية حيث تهيمن الفئة الشابة على بنية الاعمار للساكنة المغاربية التي تتجاوز 100 مليون نسمة مع وجود لغة مشتركة وخلفيات ثقافية مشتركة وعادات مشتركة والمشترك الديني… علما أن الاتحاد الأوربي استطاع تحقيق كيان مندمج رغم الحواجز الثقافية (تعدد اللغات) والسياسية والدينية في ظل الصراع غير المعلن بين الكنيسة الكاتوليكية من جهة، والكنيسة البروتستانتية ذات النزعة الأورتودوكسية والنزعة الانجليكانية. تدفعنا هذه المقارنة السريعة، إلى التاكيد على أهمية انكباب الدول المغاربية على إحياء روح التكثل المنفتح لاستغلال الامكانات اللامتناهية ووضع حد لحالة الشك واليأس التي تدفع شباب المنطقة الى امتطاء قوارب الموت في طريق البحث عن الجنة الموعودة، عوض التركيز على إثارة النعارات الإنفصالية التي إن بدأت فلن تنتهي وستحصد الأخضر واليابس بالمنطقة. نزعم أن المدخل الجوهري يكمن في رفع النظام الجزائري لوصايته على جبهة البوليساريو الانفصالية ، وتمكينها من حرية الإختيار ، عوض إرغامها على رفع شعارات بالية تعود الى فترة طويّت صفحاتها منذ إسقاط جدار برلين سنة 1989 وأفول الانظمة القائمة على النزعة الشيوعية وانخراط جزء كبير منها في مسار الإنفتاح عن التجارب الليبرالية. فالمحتجزون في تندوف لا يهمهم الركض وراء سراب المعارك العسكرية والانتصارات الوهمية، بقدر ما يهمهم الركض وراء تجويد مستوى العيش والسماح لهم بمسايرة عصر القرن الواحد والعشرين. زعمنا هذا، يتضح شبه غياب قيادات جبهة البوليساريو الإنفصالية عن المرافعات في وسائل الإعلام الدولية وتقمص بعض مثقفي النظام الجزائري لهذا الدور . سناريو الحرب واللاحرب وتأيراته التنموية: لدحض الادعاءات اليائسة القائمة على منطق العنف والحروب لبناء القوة، نستحضر حالة "رواندا" كمثال حي، يبرهن بالملموس بأن الارادة السياسية كفيلة بتحويل الدول من دول فقيرة الى دول مزدهرة تنعم بتنمية عالية؛ فإلى حدود سنة 1994م كانت رواندا تعاني ويلات الحرب الأهلية دامت زهاء عقدين من الزمن ، قضى فيها زهاء مليون شخص، لكن رواندا اليوم تعتبر من الدول التي تحقق ارقاما تنموية كبيرة ؛ فقد تراجع مؤشر الفقر إلى ما دون 40% وتراجع مؤشر الامية الى ما دون 30% وارتفع مؤشر الناتج القومي الى أكثر من عشرة ملايير من الدولارات، بل أن رواندا ستحقق واحد من أسرع معدلات النمو الاقتصادي في العالم وصل الى 9% سنويا، لم يتوقف الإبهار الرواندي عند هذا المستوى، بل اطلقت قمر اصطناعي سنة 2019م في مجال الاتصال وربط المدارس النائية بالانترنيت كتوجه استراتجي قائم على اعتماد التعليم كرافعة لتحقيق مرتكزات التنمية المستدامة المتمثلة في الأمان والاستقرار و الانتعاش الاقتصادي ودمقرطة الحياة العامة و بناء الدولة . إن التجربة الرواندية لوحدها، كافية لإقناع النظام الجزائري، للحدو حدو المغرب والتخلي عن مرافعات الحرب الباردة، كما أنها تجربة تؤكد سمو الموقف المغربي الغير متماهي مع التصعيد المجاني، تجربة تدفعه إلى التشبث برؤيته واستشراف مستقبل مشرق. تجربة أبانت بالملموس أن الحروب تهوي بالدول إلى مستنقع الفقر والتهميش، عكس حالة السلم الواقعي البرغماتي التي تنهض بالامم وتدفع بها إلى مصاف الدول التنموية والقادرة على فرض الاحترام. * ذ عزالدين ابرجي، استاذ مهتم بقضايا التنمية، أكادير