قبل الدخول في صلب المقال، لا بد أن أشير بداية إلى أنني استفدت إراديا من جرعتي التلقيح، الأولى و الثانية، قبل أكثر من سبعة أشهر. ثم قمت، قبل أربعة أسابيع، بأخذ الجرعة الثالثة، إيمانا مني بأن التلقيح هو جدار دفاع يضمن درجة متقدمة من الحماية الفردية و الجماعية، صحيح قد لا تنتهي من خلالها إمكانية انتقال عدوى كورونا بين الناس، لكن وتيرة انتشارها تقل بشكل ملموس، و تنحصر نسبة الإصابات الخطيرة التي كانت تنتهي بأصحابها في غرفة الإنعاش، و ربما تؤدي إلى الوفاة. كما أنه، باستثناء حالات فردية محدودة العدد، لم يتبث أن أنواع التلقيحات المتوفرة، لها آثار جانبية أكثر و أخطر مما يمكن أن يوجد في باقي الأدوية و التلقيحات القديمة الأخرى. و كما عدد كبير من المغاربة، قررت الانخراط و الاستفادة من التلقيح مباشرة بعد أن رأيت عاهل البلاد، الملك المواطن، يأخذ جرعة التلقيح، و يشرف بعد ذلك بشكل شخصي على سير الحملة الوطنية كلها، الشيء الذي عزز قناعتي الإيجابية تجاه التلقيح، و قوى اختياري أن أثق في مؤسسات بلادي. كما طمأنتني جدية أطر الصحة العمومية الذين استفادوا، هم أيضا، من التلقيح قبل أن يشرفوا على تأطير استفادة المواطنين منه. و بعيدا عن الخرافات و الشعبوية التي تحملها نظرية المؤامرة التي يروج لها البعض، لا أعتقد أن أطباء المغرب هم أشخاص انتحاريون، يمكن أن يقبلوا على أنفسهم أخذ تلقيح سيضر بحياتهم و حياة ذويهم. لذلك، شجعت بقوة على الإسراع للاستفادة من التلقيح. اخترت توضيح هذه النقطة، في بداية مقالي، حتى لا يظن أحد شيئا آخر غير ما أريد إيصاله من معنى، أو يعاتبني أحد على انتقاد منهجية تنزيل قرار إلزامية "جواز التلقيح"، التي تسببت في توتير الأجواء بشكل لم تكن له أية ضرورة، خاصة و نحن في ظرف جيوستراتيجي دقيق يحتاج منا وحدة الصف المطلقة لمواجهة تحديات و أخطار حقيقية و مؤامرات تتهدد مصالح بلادنا من الخارج، و يحتاج منا التضامن لتخفيف واقع اجتماعي ضاغط بسبب أزمة الجائحة و الارتفاع الكبير في تكاليف العيش بالنسبة للأسر الضعيفة و المتوسطة الدخل. كما أن الظرف الوطني يعرف تشكيل حكومة جديدة أمامها أوراش استراتيجية ليس من المصلحة أن يشوش على تنزيلها أي قرار حكومي، تنزيله فجائي و خال من أي تواصل، و بعيد عن الروح التشاركية التي اتفقنا أن نعتمدها لننجح في تنزيل أوراش النموذج التنموي الجديد، و الحماية الاجتماعية، و التأهيل الشامل لمنظومة التدبير العمومي. في هذا السياق، لا بد من تفهم كون المواطنين استفزهم الإحساس بأن وزارة الصحة العمومية "زربات عليهم"، كما نقول بالدارجة، و وضعتهم أمام ضرورة التأقلم مع واقع جديد في أجل يومين، كمسافة فاصلة بين الإعلان عن قرار إلزامية جواز التلقيح و بداية تفعيله، دون تواصل فوري يشرح حيثيات القرار و يقنع الفاعلين، وعموم المواطنين، بأسلوب و بلغة تحترم الناس و تقدر ذكاءهم، و تشجعهم على أن يقبلوا ما يبدو أنه تناقض في قرار فرض إلزامية الجواز، بينما التلقيح إرادي و مرتبط بجو التعبئة و المسؤولية التي تحلى بها المغاربة، منذ اللحظة التي ظهر فيها قائد البلاد و هو يأخذ جرعة التلقيح. و من خلال ردود الفعل التي برزت في الأيام القليلة الماضية، يتبين أن مؤاخذات الرافضين لقرار وزارة الصحة، تهم شقين : – الشق الأول، مرتبط بمدى شرعية قرار إلزامية جواز التلقيح، من الناحية القانونية. و لحدود الساعة، تبدو هذه النقطة محسومة إلى أن يثبت العكس، في حالة ما إذا تم تقديم طعن أمام محكمة مختصة، و صدر حكم بعدم قانونية التدبير الذي تستند فيه الحكومة، إلى مرجعية قانون حالة الطوارئ الصحية. كما أن دخول المجلس الوطني لحقوق الإنسان على الخط، بالشكل الذي تم به، يؤكد أن القرار لم يتجاوز خطوطا جوهرية. – الشق الثاني، مرتبط بانتقاد عدد من الفاعلين و المواطنين لتنزيل القرار بشكل سريع و مفاجئ، بعد خروج الخبر في الإعلام، و ليس كما اعتاده الناس، من إصدار بلاغ رسمي و خروج وزراء معنيين للتواصل، و خلق جو إيجابي لتيسير الانتقال من وضع إلى وضع، في جو من الانخراط و الرضا. و بمعزل عن رفض أو قبول قرار إلزامية "جواز التلقيح"، أعتقد أنه كان الأفضل، أخذ أجل أربعة أسابيع بين إعلان القرار و بين يوم تنفيذه، لوضع الترتيبات جديدة لتنظيم استقبال المواطنين المستعدين مبدئيا لأخذ جرعات التلقيح، و تصحيح بعض الجوانب التنظيمية، و ضمان التنظيم الجيد للعملية داخل الفضاءات المخصصة، و ترتيب التوافد لتفادي تكدس الأجساد الذي لوحظ في بعض المواقع، و شرح كيفية تنفيذ عملية مراقبة الجواز في الفضاءات العامة و الخاصة، لتكون مضبوطة ومنضبطة لحيثيات قانونية تحمي المعطيات الشخصية للأفراد، و تمنع أي احتكاكات بين الناس. كما أن الأجدى، كان هو أن تستثمر الفترة الفاصلة لفتح نقاش عمومي يطمئن المجتمع و تشرح فيه وزارة الصحة العمومية كيف ستتم حماية الأشخاص ذوي الحالات الصحية التي لا تتحمل اللقاح، كي لا يفرض عليهم شيء، و التأكيد على أن الهدف هو ضمان صحة الأفراد وسلامة المجتمع، بشكل متوازي حتى الوصول إلى مناعة جماعية ضد السلالات الجديدة التي تظهر في أي وقت. أجزم أنه لو تم اعتماد تلك المنهجية السلسة و المتدرجة و التشاركية، لكانت نسبة المتفهمين لضرورة جواز التلقيح أكبر، و لزاد أعداد المساندين لعملية المرور إلى مرحلة، بشكل غير مباشر، تجعل التلقيح إلزاميا بسبب أن التوفر على الجواز إلزامي. و ربما كنا سنصل بسهولة كبيرة إلى أكثر من 80% من المواطنين الملقحين، و النسبة المتبقية يمكن أن تشمل حالات أشخاص لا يمكن تلقيحهم لأسباب صحية، أو الأشخاص الذين لهم حساسية مطلقة من فكرة التلقيح، و هؤلاء عليهم مسؤولية أخلاقية تجاه مجتمعهم بهذا الاختيار الذي لا يستطيعون ضمان أن لا يجعلهم في مرمى الإصابة بالعدوى و نقلها لمحيطهم الخاص و المهني. الآن، و قد جرى ما جرى، علينا أن نتوجه نحو المستقبل و نتعامل بحكمة و هدوء، و نستحضر واجب الحفاظ على مكتسبات بلادنا في مجال مواجهة الوباء، و نثمن التضحيات الكبيرة التي بذلت من طرف مختلف الشرائح الاجتماعية و المهنية، و من طرف الدولة المغربية بمؤسساتها و أجهزتها التي ساهمت في التصدي للجائحة. و لذلك، نحتاج إلى قطع الطريق على أسباب المزايدات التي تخلط بين تساؤلات مشروعة حول جواز التلقيح، و مشاكل اجتماعية تعاني منها الفئات الهشة والطبقة المتوسطة و تستحق المعالجة بسرعة، و بين أجندات سياسية فئوية لا حكمة في تصريفها عبر توتير الأجواء في عملية وطنية يجب أن تتجاوز التجاذبات و الصراع السياسي لأنها تهم صحة الناس و سلامة المجتمع. كما علينا الاستثمار في عوامل القوة التي راكمتها بلادنا و أبدعها مجتمعنا منذ مارس 2020. و يكفي أن أشير، هنا، إلى أن ديناميكية رفض إلزامية جواز التلقيح، وازتها ديناميكية إقبال كبير على التلقيح، تجاوز بفضلها عدد المستفيدين من الجرعة الأولى 24.278.000 شخص، و من الجرعة الثانية أكثر من 22.170.000 شخص، و من الجرعة الثالثة أكثر من 1.484.000. بذلك، يتأكد وجود مسار متصاعد يبين أن المغاربة اختاروا الثقة في الحملة الوطنية للتلقيح، و في المؤسسات التي ترعاها، و من حقنا عليهم أن نتواصل معهم، و نشركهم في تفاصيل المعركة ضد كوفيد، و نطمئنهم على سلامة صحتهم من أية أعراض جانبية، بعيدا عن التشنج أو التشبث الدغمائي بالرأي أكثر من اللازم، لأننا في قلب أزمة وبائية معقدة لا نعرف كل أسرارها، و من المحتمل جدا أن "الحلول" التي ستظهر بعد سنة، ردا على ما ستحمله السلالات المتحورة قد يكون أشد قسوة على البشرية جمعاء. لكل ما سبق، سأبقى ألح على وجوب حفظ هيبة القانون و سموه، لما فيه من حفظ لهيبة الدولة، و من لم يعجبه قانون معين ما عليه سوى أن يسعى لتغييره عبر إصدار قانون جديد عبر القنوات المؤسساتية. كما سأظل ألح على أهمية التواصل العمومي الجيد، و الانفتاح على الآراء الرصينة التي يمكن أن تفرزها نقاشات عمومية جادة تشرك المواطنين لأنهم أول المتضررين من آثار الأزمة، و لأن الحلول يفرزها الذكاء الجماعي الذي يتشكل مما ينتجه ذكاء الأفراد. و ما دمنا في سفينة واحدة تبحر وسط أمواج عاتية، بعضها مرتبط بالجائحة الوبائية و بآثارها الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، و بعضها مرتبط بتحديات جيوستراتيجية خارجية و مؤامرات لوقف مشروعنا التنموي الوطني، و بعضها متعلق بأوراش تنموية تفرض الوحدة الوطنية و التركيز و الاطمئنان المجتمعي، علينا التزام التضامن و التخفيف عن المتضررين من مشاكل ارتفاع تكاليف الحياة و هشاشة الوضع المعيشي للأسر، و حماية الاقتصاد الوطني قصد الحفاظ على مناصب الشغل القائمة و خلق فرص عمل و مشاريع جديدة. لذلك، يجب أن تستمر الحملة الوطنية للتلقيح بتعبئة وطنية أعلى، و تواصل أفضل و أنجع، و لندبر اختلاف مواقفنا بحكمة عبر نقاشات هادئة، لا تحريض فيها و لا تشكيك في النوايا و لا تنازع، حتى لا نفشل و تذهب ريحنا و "يضحكوا علينا الشمايت" و الأعداء المتربصون ببلادنا.