يقال إن دولة كانت تريد أن تشق طريقا من جهة إلى نهر لتنمية المنطقة التي يوجد بها ذلك النهر، غير أنه كان يوجد بين تلك الجهة والنهر غابة كثيفة الأشجار، فاختارت الدولة من بين شركات كثيرة متنافسة واحدةً للقيام بالمهمة. جاء مدير تلك الشركة مع عماله، فوجّه عماله وحثهم وحضّهم على العمل بكل تفانٍ لاقتلاع الأشجار وشق طريق من تلك الجهة نحو النهر.. بدأ العمال باقتلاع أشجار تلك الطريق في الغابة إلا عاملا واحدا لم ينخرط في العمل، بل صعد إلى قمة شجرة كبيرة من أجل أن يرى أين يوجد النهر بالضبط!.. من على قمة الشجرة، أبدأ ذلك العامل بإخبار المدير أن الاتجاه الذي يسلكه عماله خاطئ ولن يوصل إلى النهر ولن يحقق الهدف، وأنه عليهم الانحراف نحو النصف إلى اليمين لتحقيق الهدف.. نظر المدير وبعض من انتبه من عماله إلا ذلك العامل المتمرد -في رأيهم- نظرة سخرية، وقال (المدير): واصلوا العمل لا تلتفتوا إلى من لا يتقن إلا الكلام.. إنه إما متخادل وإما متمرد وإما كسول.. هيا إلى العمل! بدل مثل هذا الموقف، وحتى يتبين الخيط الأبيض من الأسود، كان على ذلك المدير ومن معه من عمال عاقلين أن يتوقفوا قليلا، ويصعد هو نفسه أو يصعد معه عامل أو أكثر ليتأكدوا مما يقوله "صاحب اللسان الطويل" وهذا الكسول والمتخاذل.. هذه الحال تلخص ما يقع حاليا لحزب العدالة والتنمية وبعض الجمعيات.. شعارهم اليوم هو العمل والجندية، والوقت ليس وقت الكلام والنقد والمراجعة.. أما النظر لبعض الوقت من خارج الرؤية والإطار الذي يرسمونه لتحركاتهم من أجل أن ينظروا إلى واقعهم من جديد وعملهم وغايتهم وليجيبوا على أسئلة من قبل: هل نحن في الطريق الصحيح نحو الهدف؟ هل العمل الذي نقوم به منسجم مع رؤيتنا وأهدافنا وغايتنا؟ هل رؤيتنا تحتاج إلى تعديل وإلى تجديد أهدافها وتحديد مجالات العمل من أجلها؟… ومما زاد الطينة بلة أن قيادة هذه التجربة السياسية تعاني من الأمراض نفسها التي تعاني منها أحزاب سياسية مغربية عريقة وأخرى مصطنعة، ولعل أشدها فتكا وضررا أنها تجربة لا تخرّج قادة جددا، بل تكتفي هي الأخرى ب"قائد ملهم" أو "قائد تاريخي" أو "قائد ثقف فيه".. ورغم ذلك تدعي أن تجربتها تريد إصلاح التكلس في الفكر والقيادة والممارسة والعمل.. ومما كشفته الوقائع أيضا من أمراض أن التجربة تعاني من عقلية "القائد الشامل" الذي يقود بنفسه كل المهام، لا يثق إلا في نفسه ولا يقرب إلا الجندي المخلص فقط.. الانطباع هو الميزان عنده.. لا يصنع رجالا وقادة، بل يريد رجالا جاهزين طائعين.. لهذا تبقى مهمة مواجهة الحياة وصعوباتها وتحدياتها المتناسلة مهمة شاقة وعسيرة، ومثل هذه العقلية -التي نثق فيها وفي نزاهتها وفق خيار البعض- يصعب عليها أن تجد وتبدع مخارج وحلولا جديدة لقضايا صارت متشابكة ومركبة، أو تصنع مخرجات وأجيالا وقادة جددا قد يواجهون بأسلوبهم الخاص حالات وقضايا وإشكاليات مغايرة وجديدة ومتشابكة! العمل السياسي والجمعوي في بلدنا المغرب ليس في حاجة إلى مدير ناحج ذي نزاهة عالية جدا، يعرف كيف يدير أمور عمله، وكيف ينظم أعمال من يعلمون معه، وكيف يحافظ على مؤسسته أو حزبه أو جميعته.. بلدنا ينظر من العمل السياسي والجمعوي أن يخرّج ويكوّن ويولّد قادة، لكل ميدان على حدة، ولكل زمن جديد.. التجربة السياسية والجمعوية التي جعل الدين مرجعية لها، لا تملك ضمانة سماوية بالنجاح والاستمرار، إنها عمل بشري، يتعرض لتقلبات الليل والنهار، ويصيبه الخطأ والصواب ومرة والتسديد مرة أخرى.. عمل بشري يكون قويا شابا بتمسكه بأيديولوجيته وتضحياته الصغيرة المتراكمة، ويهرم ويشيخ بتخليه عن أيديولوجيته أو عدم تجديد رؤيته وأهدافه ومحالات عمله.. باستحضار تجربة حزب العدالة التنمية وغيره ممن سبقه من أحزاب، يظهر أن العمل والحقل السياسي والجمعوي في المغرب يصاب بسرعة بداء الشيخوخة السياسية بسبب عاملين كبيرين، أولهما هو الانغلاق أو الانسداد السياسي على نمط واحد من التفكير، والثاني هو الاكتفاء بالقائد الشامل -أو انتظار القائد الشامل- بدل فتح مصنع لصنع قادة لكل ميدان، ولكل زمان جديد.