من كان يتوقع أن تفعل كورونا كل هذا بالعالم، أن تكشف ضعف الأنظمة الاستبدادية عبر العالم، و أن تعري غطاء الديموقراطية، و تكشف الوجه الحقيقي للنظام العالمي ذي التوجه التوسعي الامبريالي المحض، عالم تحكمه الكوبوقراطية ( الشركات العابرة للقارات) . عالم تهيمن فيه الرأسمالية، و تسيطر فيه الأفكار الكولونيالية الملازمة للانجليز منذ فجر النهضة و التي ورثها النظام الامريكي الحديث، عالم يحكمه القاتلون الاقتصاديون حسب صاحب كتاب "اعترافات قاتل اقتصادي" بركينز ، عالم تسيطر فيه الاجهزة المخابراتية لدرجة أن تستطيع أن تغير أنظمة بأخرى، أن تستبدل حاكما بآخر، أن تقنع العالم بما لها عن طريق البروباجندا الحمراء و من لا يعرف آليات هيمنتها؟ عليه أن يطالع كتب التاريخ و الفكر و أن يفتح أبوابا جديدة للعلم و المعرفة ..مجرد مطالعة كتب في السياسة العالمية قد تكفي لتفهم ماذا يريد العالم اليوم؟ لكن هل توقع مستشرفوا هذا العالم و منظروه الاقتصاديون أن يتوقعوا انهياره بسبب فيروس قاتل مخلوق من مجرد مادة نووية بسيطة؟ هل كان أحدنا يتوقع انهيار اقتصادات العالم ؟ هل انتظرنا في ظل هيمنة هذا النظام أن تصبح الشركات البترولية مهددة بالتوقف عن الانتاج ؟ صدفة تعلقت الحياة هناك في تلك اللحظة بالذات حيث لزم الكل بيته خوفا و رهبة من فيروس غير محدد الشكل و الخصال و الصفات . توقف الجميع حائرا باحثا و سائلا عن أين كل تلك المختبرات أم أنها مجرد لعبة في يد نظام عالمي يحدد آفاق عملها و اشتغالها ؟ هل فعلا عجز العلماء عن خلق مصل أو دواء للفيروس أم أن الطب تحكمه مافيا تقرر لحظة إنتاج الدواء و ساعة تمكين الناس منه ؟ تساؤلات يحق للعالم اليوم أن يطرحها بكل ما تحمل من معاني؟ فيروس بسيط في حجمه ، قوي في ضربه ، قاتل عند إصابته ، و من ينجو كأنه أعطي فرصة جديدة للحياة " البداية من جديد". لكنه كان أقوى مما توقعنا فقد فرض على العالم لحظة لمراجعة الحسابات و أية حسابات عندما يتداخل الاقتصادي بالسياسي و الثقافي و القيمي و العلمي، لحظة لنطرح الأسئلة التالية : – هل العالم اليوم بكل مختبراته عاجز عن اكتشاف دواء لمجرد فيروس؟ هل القيم التي دافعت عنها الحداثة آيلة للزوال ؟ هل يحافظ العالم اليوم على نفس العلاقات الخارجية و بنفس النسق ؟ سأحاول أن أقدم بعض الاجابات عن هذه الأسئلة على المستوى الدولي و منه الوطني و انعكاسات كورونا على المستويين الخارجي و الداخلي و سأبدأ من حيث بدأ العالم التساؤل حول ماذا تستطيع المختبرات أن تنتج في اللحظة التي ندافع فيها عن عصر العلم و الفكر و التقنية و لكنه عصر كشفت كورونا عن حدود الفكر الانساني و عن حدود المدرَكات في ظل تطور العلم و المختبرات و نقول أنه و بحسب النص القرآني "فوق كل ذي علم عليم " و نتمنى أن تواصل المختبرات تطورها في ظل ما نزال نعانيه من تهديدات رغم ما تقول بعض القراءات حول مدى صناعة الفيروس و التحكم فيه و توجيهه في ظل تدعيم نظرية المؤامرة التي نظل نعتبرها واحدة من القراءات رغم ما نسجل من ملاحظات حول هذه النظرية و بعض قراءاتها، و التي يصر البعض عن كونها تتحكم في منظمات عالمية و توجه عملها و خاصة منظمة الصحة العالمية التي نتمنى أن تعمل على دعم البحث العلمي و الطبي لكي نعبر إلى بر الأمان. رغم أن هذا الفيروس قد يخلق نظاما صحيا جديدا عبر العالم تكون فيه الكلمة الفصل للباحث و ليس للمنظمات إذ لا يجوز احتكار الأدوية و توجيهها كما حدث في زمن الحصار الذي فرض على العراق بحسب كتاب النظام العالمي الجديد و الذي يؤرخ لشهادات كبار الساسة في موضوع الادوية و احتكارها. و ها قد جاءت كورونا كي تقول للعالم كفى احتكارا في شتى المجالات. في المجال السياسي و السياسات الدولية لست هنا لأطيل بل سأكون موجزا ما استطعت إذ يبدو لي الأمر واضحا ففي ظل الأزمة التي عاشتها دول الاتحاد الاوروبي تخلت أعضاء منه عن إخوتها و تمادت حتى في قرصنة مساعدات موجهة لها و هذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن الاتحاد الاوروبي الذي وضع أسسه كتنظيم "كراوس" يحتضر بسبب فيروس كورونا و لابد سيفرض على الدول الأعضاء فيه أن تراجع أسسه، هذا إن استطاع تجاوز الأزمة التي يعيشها. خاصة بعد انسحاب بريطانيا منه و هنا أسجل قراءتين : – أولا : أنه و بعد فيروس كورونا سيكون مصير الاتحادات العالمية -الاتحاد الاوروبي نموذجا- إلى الزوال فالاتحاد الاوروبي سيصبح مجرد درس من دروس التاريخ. – ثانيا : أن تعمل الدول الأعضاء على صياغة ميثاق جديد مع التصويت لصالح بعض الدول في الالتحاق به كتركيا و غيرها من الدول التي ابانت على علو كعب في ظل هذه الأزمة. أما خارج اوروبا فإنه من المرجح أن تشهد موازن القوى تفاوتات و بالتالي مراجعات في العلاقات الدولية و ستكون جميع الدول في وضعية متساوية و متوازنة ما عليها إلا أن تستغل الوضع لغرض بناء علاقات دولية تخدمها و كذلك المغرب فعليه أن يعيد تسطير أولوياته الدولية و الانطلاق نحو لعب دور حيوي على المستوى الاقليمي و الافريقي و استغلال موارده البشرية القادرة على خلق الفارق على الصعيد الدولي ، الاقليمي ، الوطني ، و المحلي. أما على المستوى القيمي و الثقافي فإن العالم اليوم يتجه نحو بناء قيم جديدة تغلب عليها قيم التضامن و التآزر و التآخي و القطع مع فكرة "الانسان ذئب لأخيه الانسان" و كذا القطع مع التوجه الفرداني القائل بالذاتية و الأنا و الاتجاه نحو العزلة و الوحدة لأن هذه القيم خلقت مجموعة من السلبيات أبرزها: تقليص الفضاء التواصلي و تقليص هامش الحرية الفردية و كذا تسريع وثيرة صناعة "الانسان الآلة" الذي صار مجرد روبوت مغلوب على أمره يسخر وفق غاية المشغل ، هذا الانسان الفاقد لذاته و الفاقد لانسانيته أدى إلى خلق قيم تغلب عليها المصلحة و الأنانية دون بحث القيم و الأخلاق و الخير في ما ينتج و ما يفعل. و هذا ما صار يتهددنا في هذه القرية الصغيرة التي كشفت ضعفها كورونا بكل شيء : – حيث أدى الانتشار السريع للفيروس إلى الايمان بأن حياة البشرية متوقفة على حياة فرد واحد و أن مجرد فرد لا يؤمن بالتضامن سيعصف بما نصنع جميعا . و ختاما سأكون متفائلا فيما يخص الأنظمة الحاكمة عبر العالم و سأقول أن هذا الفيروس لن يؤثر على هذه الأنظمة إلا في بعض الأنظمة الاستبدادية التي آن الآوان كي تراجع نفسها و تفتح المجال للبناء الديموقراطي في ظل ضعف التوجه الامبريالي و كشف سره الفظيع في ظل أزمة كورونا هذا التوجه القائل "أنا المواطن الامبريالي الكولونيالي أعمل ما في وسعي لسرقة المواطن المستعمر من أجل صالح مواطني الذي يدعمني بما أوتي من قوة، و نحن في هذا العالم نحكمه بما لنا من أسلحة ( الأنظمة الحاكمة المتورطة في بعض الفضائح و الفضائع، القوات العسكرية، التأييد الدولي الذي يخدم صالحي و أوجهه…الخ) و عليه فإن كورونا تكون قد كشفت العالم و عرت الأنظمة الحاكمة تحت لواء نظام عالمي واحد يسخر في هيمنته الشركات الكبرى العابرة للقارات و كذا المؤسسات المالية الدولية. و هنا لابد للأحزاب السياسية المغربية أن تتحمل مسؤوليتها في الدفاع عن المواطن و الترافع عنه من أجل بناء مغرب المؤسسات المستقلة و بناء مغرب الكفاءات.