انحنت سنابل الصحافة الورقية مبكرا أمام الرياح العاتية لجائحة كورونا، لتتوقف عجلاتها عن الدوران عنوة، منذ 22 مارس الماضي وحتى "إشعار آخر"، عقب بلاغ صادر عن وزارة الثقافة والشباب والرياضة، نص على تعليق إصدار ونشر وتوزيع الطبعات الورقية، وهو تعليق كان منتظرا ومتوقعا، لاعتبارات صحية، مرتبطة بما تم تنزيله – وقتها – من تدابير وقائية واحترازية لمحاربة الوباء والحد من انتشار وتفتشي العدوى، وعلى رأسها فرض حالة الطوارئ الصحية، وما ارتبط بها من حجر صحي وفرض للقيود على التحركات ومنع الاجتماعات والتجمعات، وتوقيف للكثير من الأنشطة الاقتصادية والخدماتية والمهنية والحرفية، ومنها المطابع والأكشاك والمقاهي والفنادق وغيرها، ولم تجد أمامها من خيار أو بديل، سوى الارتماء في حضن "الرقمنة"، لتأمين استمرارية أنشطتها وخدماتها، والإبقاء على جسور التواصل قائمة مع قرائها، لتسهم بذلك، إلى جانب باقي مكونات المنظومة الإعلامية (الإعلام السمعي والبصري والإلكتروني) في مواكبة ما تستدعيه الجائحة الكورونية، من توعية وتحسيس وإخبار. وبعد، إعطاء الضوء الأخضر لناشري الصحف والجرائد الورقية من أجل استئناف إصدار ونشر وتوزيع الطبعات الورقية اعتبارا من يوم الثلاثاء 26 ماي الماضي، مع مراعاة التدابير والإجراءات المرتبطة بالصحة والسلامة المحددة من قبل السلطات العمومية المختصة، كان الانطباع السائد وقتها، أن هذا القرار "الافتراضي" – الذي عبر عنه الوزير الوصي على القطاع "عثمان الفردوس" من خلال "تدوينة" له عبر حائطه الفيسبوكي، خلافا لقرار التوقيف الذي تم بقرار- سيمهد لعودة الصحافة الورقية من منفاها الاضطراري، ويطلق العنان لاستئناف النشر الورقي بعد أسابيع من التوقف، لكن، تبين لاحقا، أن تدوينة الوزير، كان حالها كحال "صيحة في واد"، لم تقدم ولم تؤخر، أمام حضور معطيات موضوعية يصعب إن لم نقل يستحيل معها إطلاق العنان للنشر الورقي، في ظل سريان مفعول حالة الطوارئ الصحية والحجر الصحي ومنع التنقل بين المدن وتوقف حركة القطارات وأنشطة الأكشاك والمقاهي والمطاعم والفنادق والكثير من الإدارات التي راهنت على العمل عن بعد، ليبقى خيار "النشر الإلكتروني" قائما إلى "أجل غير مسمى". "أجل غير مسمى" كان من المرتقب أن يتم وضع حد له، بعد أن أشرف قطار "حالة الطوارئ الصحية" على الوصول إلى محطة 10 يونيو، وكان تعويل المهنيين على رفع الحجر الصحي والعودة إلى الحياة الطبيعية، من أجل تحريك مختلف الآليات المرتبطة بالطبع والنشر والتوزيع، بما يضمن "عودة ميمونة" للنشر الورقي، بعيدة عن مفردات التردد واللخبطة والارتباك، لكن رياح الحكومة، أتت بما لا تشتهي سفينة الناشرين والصحافيين الممارسين في الإعلام الورقي، بعد اتخاذ قرار يقضي "بتمديد سريان مفعول حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب الوطني لمواجهة تفشي فيروس "كورونا"- كوفيد19، وذلك من يوم الأربعاء 10 يونيو في الساعة السادسة مساء، إلى غاية يوم الجمعة 10 يوليوز 2020 في الساعة السادسة مساء"، و "بسن مقتضيات خاصة بالتخفيف التدريجي لتدابير الحجر الصحي عبر مراحل"، أخذا بعين الاعتبار التفاوت الحاصل في الوضعية الوبائية بين جهات وعمالات وأقاليم المملكة. وهو قرار وضع المهنيين أمام منطقتين اثنتين، "الأولى" حظيت بهامش من التخفيف (الخروج دون الحاجة إلى "رخص التنقل الاستثنائية" داخل المجال الترابي للعمالة أو الإقليم أو داخل المجال الترابي لجهة الإقامة (بدون ترخيص، مع الاقتصار فقط على الإدلاء بالبطاقة الوطنية للتعريف الإلكترونية)، وإعادة فتح قاعات الحلاقة والتجميل (استغلال نسبة 50 بالمائة من الطاقة الاستيعابية)، وفتح الفضاءات العمومية بالهواء الطلق(منتزهات، حدائق، أماكن عامة …) واستئناف الأنشطة الرياضية الفردية بالهواء الطلق (المشي، الدراجات …) و "الثانية"، لم يشملها التخفيف، ماعدا تمديد إغلاق المتاجر إلى الساعة الثامنة مساء، وهو تقسيم، أشعل فتيل الجدل والخلاف بين مدراء النشر وشركات التوزيع حول استئناف النشاط (النشر الورقي) من عدمه، في ظل تمديد الحجر الصحي في مجموعة من العمالات والأقاليم والجهات عبر التراب الوطني، ومنع التنقل بين منطقتي التخفيف الأولى والثانية، مما سيعرقل عمليات توزيع واقتناء الجرائد، فضلا عن توقف الاشتراكات في ظل سريان مفعول حالة الطوارئ الصحية وما يرتبط بها من حجر صحي، واستمرار القيود المفروضة على المقاهي والمطاعم …، وكلها معطيات، توحي – حسب الأخبار المتداولة – أن أغلبية الجرائد الورقية (الجرائد الحزبية، المساء، الأخبار، الأحداث المغربية، أخبار اليوم … إلخ) لن تعود إلى الصدور في الأيام القادمة، إن لم نقل حتى الرفع النهائي للحجر الصحي وعودة كل الشروط الموضوعية التي تسمح بالعودة إلى الأحضان، وستكتفي بالصدور الإلكتروني المجاني والإبقاء على آلية "العمل عن بعد"، مع احتمال عودة جرائد أخرى من قبيل الصباح و ليكونومست ولومتان… وفي جميع الحالات، فسواء عادت الجرائد الورقية إلى وضعها الطبيعي، أو أجلت ذلك على مضض، إلى حين الرفع النهائي للحجر الصحي، فما هو مؤكد، أن الصحافة الورقية، ترتبط بمقاولات إعلامية مرتبطة بعمليات الطبع والنشر والتوزيع، تشغل عددا مهما من الصحافيين المهنيين والفنيين والتقنيين والموزعين، كما ترتبط بفاعلين آخرين من قبيل الأكشاك والمقاهي والفنادق والإدارات والأشخاص/القراء، في إطار منظومة متكاملة، تحريك عجلاتها، يقتضي رؤية شمولية، تستحضر تداعيات التوقف على هذه المؤسسات الإعلامية وما يرتبط بها من طباعة وتوزيع ونقط بيع، كما تستحضر "المعوقات المجالية" في ظل تواجد عدة عمالات وأقاليم وجهات غير مشمولة بإجراءات تخفيف الحجر الصحي، حتى لا تكون "العودة " مكرسة للأزمة القائمة بدل أن تكون خطوة لتجاوزها، وما هو مؤكد أيضا، أن هوة "التكلفة المادية" ستزداد اتساعا في قادم الأسابيع، سواء تحققت العودة التدريجية، أم علقت إلى ما بعد الرفع النهائي للحجر الصحي، مما يفرض استعجال تنزيل خطة ناجعة، تسمح بالخروج الآمن من الأزمة وتداعياتها المتعددة الزوايا. وعليه، نرى أن اللحظة، تقتضي أولا، تشخيص واقع حال هذه المقاولات الصحافية الورقية، واتخاذ ما يلزم من تدابير، من أجل دعمها ومواكبتها وتمكينها من شروط التحفيز والتنافسية، اعتبارا لأدوارها الإعلامية المتعددة المستويات، وقياسا لوظائفها الاقتصادية كمقاولات توفر العديد من مناصب الشغل، في ظل توقف الإعلانات وتراجع المداخيل منذ قرار وقف الطباعة والتوزيع، وتقتضي ثانيا، استثمار معطيات "تجربة المنفى" (النشر الإلكتروني) التي امتدت لما يقارب الثلاثة أشهر أو ما يزيد عن ذلك، ورصد إيجابياتها، من أجل تجويد مستوى الممارسة الصحافية الورقية، والتفكير في وضع استراتيجية مهنية جديدة تقوم على ثنائية "الورقي" و "الإلكتروني". وهي فرصة سانحة، لنؤكد على الدور المحوري للصحافة المهنية والأخلاقية بكل أطيافها، في مواكبة ما يشهده المغرب من متغيرات، والاضطلاع – في المرحلة القادمة (ما بعد كورونا)- بمسؤولياتها "المواطنة" في الإخبار والتثقيف والتوعية والتحسيس، والارتقاء بمستوى الأذواق والتصدي للإشاعات والأخبار الزائفة، ومحاربة "كوفيدات" التفاهة والسخافة والانحطاط، ولن نترك الفرصة تمر، دون توجيه البوصلة بأكملها، نحو ما اعترى واقع الممارسة خلال الجائحة الكورونية، من بعض الممارسات غير المهنية والخروقات الماسة بأخلاقيات مهنة الصحافة، والتي شكلت موضوعا للتقرير المرحلي الذي أصدره قبل أيام "المجلس الوطني للصحافة"، الذي لابد و أن يتحمل مسؤولياته المهنية والمواطنة، في تطهير الجسم الصحفي من كل الشوائب العالقة، والإسهام في تجويد واقع الممارسة المهنية، عبر الرهان على تفعيل أدوات "التكوين" و"التأطير" و"التحسيس" و"التخليق"، وتحريك آليات "التنبيه" والتأديب" و"الزجر" عند الاقتضاء، وبدون هذه الأدوات والآليات، لن يستقيم "عود" مهنة وصفت ذات يوم بالسلطة الرابعة و "صاحبة الجلالة" التي لا يمكن تصور دولة أو سياسة أو مجتمع أو ديمقراطية أو حداثة أو حقوق أو حريات بمعزل عنها، ونختم القول، بأن نتمنى "عودة ميمونة" لصحافتنا الورقية عاجلا أم آجلا، فما أحوجها اليوم لدعم قرائها، فبدون قراء مخلصين وأوفياء، يصعب الوقوق أو الصمود، أمام رياح الرقمنة الكاسحة …