بدأت المطالب باستئناف طباعة الصحف الورقية مع تخفيف إجراءات الحجر العام في مختلف دول العالم، بعد أن غابت عن المشهد واكتفت بالنسخ الرقمية على الإنترنت لكنها لم تلبّ رغبة القراء الأوفياء في اشتمام رائحة الورق بين أيديهم. وارتبطت هذه المطالب أساسا بالقائمين على المهنة من صحافيين ومؤسسات إعلامية ومنظمات ونقابات المهنية، حيث دعت الجمعية العامة للإعلام التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل، نهاية أبريل الماضي، مؤسسات الصحافة المكتوبة إلى استئناف إصدار كافة الصحف والمجلات المكتوبة، بعد توقفها بسبب الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها الحكومة لمنع انتشار فايروس كورونا. وجاءت هذه الدعوة إثر قرار الحكومة بالرفع الجزئي للحجر الصحي في 4 مايو الجاري. وفي الأردن أكد نقيب الصحافيين راكان السعايدة في أبريل الماضي أن عودة الصحف الورقية إلى الطباعة والتوزيع باتت ضرورة ملحة. وشدد السعايدة في تدوينة على حسابه في فيسبوك أنها غير قابلة للتأجيل، وقبل ذلك يجب تعويضها عن وقف طباعتها. وأشار إلى أن الصحف الورقية أقل "مضرة" من العملات الورقية والمعدنية المتداولة بين الناس، وأن هذا النوع من الصحف قيمة وطنية مهمة وكبيرة. ويربط خبراء الإعلام والاتصال مسألة أزمة الصحافة وحلها بالقراء قبل كل شيء، حيث تتباين وجهة النظر بشأن مستقبل الصحافة الورقية بعد وباء كورونا، فرغم أنهم يجمعون على قيمة الصحافة والإعلام الجاد (ومن ضمنه الصحافة المكتوبة) في توفير المعلومة الموثوقة والحفاظ على قيم الصحافة والمعايير المهنية، يؤكدون صعوبة المرحلة الحالية بالنسبة إلى هذا القطاع في ظل هيمنة الصورة على المشهد الإعلامي والصحافي. ويرى الأستاذ محمد شلبي الباحث التونسي في علوم الاتصال، أن “الصحف الورقية لن تختفي لكنها مجبرة على التأقلم مع أنماط إنتاج المواد الإعلامية وأنماط استهلاكها”. ويضيف في تصريحات للصحافة “انقضى العهد الذي كان القارئ يقتني فيه صحيفته مهما كان مضمونها وأصبح اليوم يطلع على الشاشات المتعددة المتوفرة لمتابعة العناوين. لم تعد المضامين في ذهن القارئ نصا فقط بل صارت كذلك صوتا وصورة وفيديو وهو أمر لا تقدر عليه الصحافة الورقية”. ويتابع “في انحسار الصحف الورقية أو اندثارها خطر على المجتمعات الديمقراطية التي لا يمكن أن تحيا دون نقاش عام يكون بمثابة المداولات العامة التي تسبق المداولات البرلمانية لإصدار القوانين. الصحافة الورقية وحدها تمكن من فهم المسائل المعقدة والنقاش المعمق فيها وهما من الوظائف التي لا تؤديها الإذاعات والتلفزيونات والمواقع الإلكترونية كما تؤديها الصحافة الورقية”. ومن اللافت أن أزمة كورونا انعكست بشكل متناقض على وسائل الإعلام؛ إذ تسبب العزل الصحي بزيادة اهتمام الجمهور، بشكل غير مسبوق، بوسائل الإعلام التقليدية وخصوصا التلفزيون فجذبت القنوات الفضائية بما فيها الحكومية مشاهدات قياسية خلال الشهرين الأخيرين، وفق ما تؤكده استطلاعات الرأي. وكان للشائعات والأخبار الكاذبة التي انتشرت على المنصات الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، تأثير إيجابي على وسائل الإعلام التقليدية التي أعادت الاعتبار للمهنية والمصداقية ولاسيما أنها الأداة الرئيسية لنقل تصريحات المسؤولين والبيانات الرسمية بشكل موثوق. في المقابل كانت الصحافة الورقية الضحية الأبرز، بحسب تأكيد المنصف وناس الباحث في علم الاجتماع. ويقول وناس “إن الاهتمام انصب على الصورة ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة، التلفزيون بالدرجة الأولى والراديو بنسبة أقل، ما ساهم في تعميق عزلة الصحف”. ويوضح أن “انتشار الأخبار حول أن الصحف والورق يساهمان في نقل الفايروس، تسبب في عزوف القراء نهائيا عن شراء الصحف الورقية (قبل إيقافها عن الصدور من قبل بعض الحكومات العربية) إضافة إلى حالة الحجر الصحي التي حالت أصلا دون تداولها”. وينظر وناس إلى مستقبل الصحافة المطبوعة بتشكك، ويقول إن هناك تقسيما عمريا للتعامل مع الصحافة المطبوعة، إذ من المرجح أن تستمر الفئات العمرية الأكبر سنا في ولائها للصحافة الورقية التي اعتادت مطالعتها خصوصا في فترة الصباح. ويستطرد “لكن الجيل الجديد من الصعب أن نشهد توجهه إلى شراء الصحافة المطبوعة مع توجهه الأساسي للمنصات الاجتماعية والمواقع الإلكترونية خصوصا مع توفر المحتوى المجاني على الإنترنت، فلماذا يدفع ثمن الصحافة؟”. ويلفت إلى أن العشريتين القادمتين ستشهدان زيادة عزلة الصحف وتراجعها، إلا في حال حصلت إعادة نظر في هذا المجال ودخلت عليه تطورات جديدة. ويرى متابعون أن الصحف الورقية لن تفقد أهميتها كمنصة إخبارية أساسية رغم الأزمات المتلاحقة التي تعصف بها، فهي تمثل قيمة الصحافة، والعالم اليوم في ظل هذه الأزمة الصحية التي عصفت به يستعيد علاقته بالصحافة، كما أن الحكومات باتت تدرك أهمية الصحف وتشجع على استمرار إصدارها. ولن تفقد الصحافة قراءها الأوفياء بوجود الكثيرين حول العالم الذين يداومون على طقسها، ويصرون على أن ثورة الإعلام الحديث لا تمنح متعة القراءة الورقية؛ وفي هذا الصدد يقول نضال منصور مدير مركز حماية وحرية الصحافيين في الأردن في مقال له "أنا من جيل الحبر والورق، الجريدة بالنسبة إلي كالقهوة، إنها الكافيين الذي أحتاجه يوميا، ورغم كل محاولات ترويضي لأصبح كائنا إلكترونيا، إلا أنها فشلت، وبقيت وفيا للورق".