أرخت جائحة كورونا المستجد "كوفيد-19" بكل تداعياتها وتأثيراتها الجانبية على عدد من القطاعات والمجالات الحيوية، في السياسة والاقتصاد والمجتمع، والتشريع والقضاء والتربية والتكوين والقطاع غير المشكل (غير المهيكل) ... إلخ، ولا يمكن قطعا زحزحة قارات التأثيرات الجانبية للجائحة "الكورونية"، دون استحضار المشهد الإعلامي، الذي تزايد الإقبال عليه أكثر من أي وقت مضى، في ظل أزمة صحية عالمية ارتقت إلى مستوى "الجائحة"، التي جعلت من "الخدمة الإعلامية" ضرورة لا بديل عنها، ليس فقط لتأمين خدمة الإخبار والتثقيف والتحسيس والتوعية، ولكن أيضا من أجل الإحاطة بالفيروس التاجي المحير، ورصد انعكاساته متعددة المستويات على الاقتصاد والمجتمع والمعيش اليومي للمواطن، ومواكبة وتتبع ما تم تنزيله على المستوى الرسمي من تدابير وإجراءات وقائية واحترازية وما تم اتخاذه من قرارات استثنائية. لكن المتغير الإعلامي الذي لا يمكن تجاوزه أو المرور عليه مرور الكرام ارتبط بالصحافة الورقية التي باتت الحقل الإعلامي الأكثر تأثرا بالجائحة، بعدما أقدمت وزارة الثقافة والشباب والرياضة، في بلاغ لها، على تعليق إصدار ونشر وتوزيع الطبعات الورقية منذ 22 مارس الماضي وحتى "إشعار آخر"، وهو تعليق كان منتظرا ومتوقعا، لاعتبارات صحية مرتبطة بما تم تنزيله من تدابير وقائية لمحاربة الوباء والحد من انتشار العدوى، وعلى رأسها فرض حالة الطوارئ الصحية، وفرض القيود على التحركات ومنع التظاهرات والتجمعات وإيقاف الكثير من الأنشطة الاقتصادية والخدماتية والمهنية والحرفية، واعتبارات اقتصادية، ارتبطت بتراجع المبيعات في ظل توقف العديد من نقط البيع وإغلاق المقاهي. وبغض النظر عن مبررات أو دواعي التوقيف "المؤقت"، فما حدث شكل منعطفا بارزا في تاريخ الصحافة الوطنية الورقية، التي وجدت نفسها وجها لوجه أمام "واقع استثنائي" اقتضى الرهان مبكرا على صيغ وحلول بديلة وتدابير عمل "استثنائية"، حرصا على استمرارية خدماتها الإعلامية. وفي هذا الصدد، يسجل للصحافة الورقية حرصها على "عدم التوقف" رغم الجائحة، وإصرارها على ضمان استمرارية خدماتها الإعلامية، والإبقاء على جسور التواصل قائمة بينها وبين قرائها، بعدما لجأت إلى خيار "المنفى"، بالارتماء الاضطراري في حضن "الرقمنة"، عبر تعويض الطبع بالنشر الإلكتروني للنسخة الكاملة للجريدة الورقية بصيغة "PDF"، توضع بشكل مجاني رهن إشارة شرائح واسعة من القراء "الافتراضيين"؛ ولعلها ضربت العصفور الواحد بأكثر من حجرة، فمن جهة لم توقف أنشطتها على غرار مجموعة من المقاولات التي توقفت بسبب الجائحة، ومن جهة ثانية حرصت على استمرارية خدماتها الإعلامية، ومن جهة ثالثة، وضعت نسخا رقمية لجرائدها بشكل يومي رهن إشارة القراء مجانا، والذين منحوا الإمكانية – في زمن الفيروس التاجي – للاطلاع على معظم الجرائد الورقية، وهي الإمكانية التي لم تكن متاحة قبل "كورونا"، لتساهم بذلك في الاضطلاع بأدوارها "المواطنة" في خدمة المجتمع في هذه الظرفية الاستثنائية، على مستوى الإخبار والتوعية والتحسيس والتصدي للإشاعات والأخبار الزائفة، إلى جانب باقي وسائل الإعلام الأخرى المرئية والمسموعة والإلكترونية. لكن في الآن ذاته نؤكد أن "المنفى الاختياري" أو "الاضطراري" (الرقمنة) وإن شكل محاولة استثنائية في ظرفية استثنائية، أو كإستراحة محارب في انتظار العودة الميمونة للوضع الطبيعي، فهي تجربة تفرض النبش في حفريات تأثيراتها على المقاولات الصحافية، إن على مستوى التكلفة المادية (الأضرار المادية) في ظل تعليق عمليات الطبع والنشر والتوزيع لما يزيد عن الشهرين، أو على مستوى وضعية المستخدمين (صحافيون، تقنيون، فنيون، سائقون، أعوان ...) أو على مستوى طرق العمل البديلة التي راهنت في شموليتها على تقنية "العمل عن بعد"، أو على مستوى فقدان شرائح واسعة من القراء الاعتياديين، الذين ألفوا تصفح الجرائد الورقية في المقاهي والمطاعم والأكشاك ومقرات العمل، أو على مستوى جودة المنتوج أو "المضمون الرقمي" الذي تم تجريده من "بيئته الأصلية". وكلها وضعيات تفرض على ناشري الصحف والجرائد الورقية والصحافيين المهنيين الممارسين في إطار الصحافة الورقية تشخيصا أمثل لهذه التجربة الاستثنائية، واستثمار ما جادت به من دروس وعبر، من أجل الارتقاء بمستوى الممارسة الصحفية الورقية، واستعجال وضع سياسات استشرافية، تستحضر التحديات الآنية والمستقبلية والأزمات الفجائية. وإذا كانت الوزارة الوصية أعطت الضوء الأخضر لناشري الصحف والجرائد الورقية من أجل "العودة من المنفى" واستئناف إصدار ونشر وتوزيع الطبعات الورقية اعتبارا من يوم الثلاثاء 26 ماي الجاري، مع الحرص على التقيد بالتدابير والإجراءات المرتبطة بالصحة والسلامة المحددة من قبل السلطات العمومية المختصة، فنحن نرى أن هذه العودة الميمونة ستكون عصية وشاقة لاعتبارين اثنين، أولهما: التكلفة المادية للتوقيف المؤقت، وثانيهما: ارتباط قرار استئناف الأنشطة الاعتيادية بقرارات أخرى مرتبطة بالأساس بمستقبل "حالة الطوارئ الصحية" وعودة الأنشطة الإدارية والاقتصادية والخدماتية (أكشاك، مكتبات، مقاهي، مطاعم ..)، وعودة منظومة الإعلانات إلى وضعها الطبيعي، بشكل يسمح بخلق دينامية مجتمعية متعددة الزوايا، تسترجع من خلالها المقاولات الصحافية عافيتها كاملة، أو على الأقل ما تبقى لها من "عافية"، في ظل مشهد إعلامي انحنت فيه "سنابل الورقي" عنوة، أمام "رياح الرقمي" و"الإلكتروني". وبالتالي فلن تكون أجواء ما بعد العودة من المنفى إلا "حركات تسخينية" قد تطول وقد تقصر حسب تطورات الحالة الوبائية وما يتربط بها من تدابير وقائية واحترازية، تقتضي التكيف الاضطراري مع طقوس "ما بعد زمن كورونا"، في ظل مرحلة انتقالية تفرض على الحكومة، وتحديدا وزارة الثقافة والشباب والرياضة، تشخيص واقع حال المقاولات الصحافية الورقية والإلكترونية "المهنية" و"الأخلاقية"، واتخاذ ما يلزم من تدابير من أجل دعمها ومواكبتها وتمكينها من شروط التحفيز والتنافسية، اعتبارا لأدوارها الإعلامية متعددة المستويات، وقياسا لوظائفها الاقتصادية كمقاولات توفر العديد من مناصب الشغل. وفي الآن نفسه نرى أن "العافية" لن يتم استرجاعها بمجرد الحصول على دعم استثنائي يخفف من وطأة وتأثير الجائحة، وكسب رهانها يقتضي من المقاولات الصحافية الورقية أساسا استثمار معطيات "تجربة المنفى" التي امتدت لما يزيد عن الشهرين، ورصد إيجابياتها، من أجل تجويد مستوى الممارسة الصحافية الورقية، والتفكير في وضع إستراتيجية مهنية جديدة تقوم على ثنائية "الورقي" و"الإلكتروني"، عبر خلق جرائد أو مواقع إلكترونية موازية، يتم استثمارها للتواصل مع شرائح واسعة من رواد العالم الافتراضي والبحث عن أفق جديد يتيح إمكانية الوصول إلى الإعلانات لمواجهة شبح تراجع نسب المبيعات. وهي مناسبة لنؤكد على الدور المحوري للصحافة المهنية والأخلاقية في مواكبة ما يشهده المغرب من متغيرات، والاضطلاع - في المرحلة القادمة (ما بعد كورونا)-بمسؤولياتها "المواطنة" في الإخبار والتثقيف والتوعية، والارتقاء بمستوى الأذواق والتصدي للإشاعات والأخبار الزائفة، ومحاربة "كوفيدات" التفاهة والسخافة والانحطاط. ولن نترك الفرصة تمر دون توجيه البوصلة بأكملها نحو ما يعتري المشهد الإعلامي من بعض مشاهد العبث والتفاهة وانعدام روح المسؤولية والمصداقية، بعيدا عن قواعد العمل الصحافي الرصين وما يقتضيه من "مهنية" و"أخلاق"، بشكل يضر بالمهنة ويفرغها من سموها وقيمتها وكبريائها وتأثيرها، كسلطة رابعة أو كصاحبة الجلالة، التي لا يمكن تصور دولة أو سياسة أو مجتمع أو ديمقراطية أو حداثة أو حقوق أو حريات بمعزل عنها... ونختم بأن نتمنى "عودة ميمونة" لصحافتنا الورقية، التي لا يمكن إنكارها أو تجاوزها أو إقصاؤها في مشهد "رقمي" كاسح، لأنها "الأصل" والعودة إلى "الأصل .. أصل" ... [email protected]