السلم والسلام والإسلام.. كلمات تتداخل في ديننا الحنيف إلى درجة التلازم والتماثل؛ فبدأ من كونها في مطالع الأسماء الحسنى التي تعرف العبد بربه أنه “الملك القدوس السلام المومن المهيمن“. إلى كونها شعاراً أدبيا للتحية في كل وداع وفراق بقولنا: “السلام عليكم” فالسلام عقيدة والإسلام التزام والسلم ثمرة وغاية؛ ولذا أوصانا ربنا بالدخول في السلم كافة؛ ولهذا الشمول معنيان عظيمان: -الأول: أي ادخلوا جميعا في ثمرة الإسلام ببث السلام للعالم ونشر الأمان بين الناس وخذوا على يد البغاة والظلمة ممن يخلون بالأمن والعدل من صغير وكبير من قريب وبعيد من عدو أو صديق: “فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله…“. -والثاني: أي ادخلوا في الالتزام بجميع شرائع الإسلام ولا تجزئوه عضين تؤمنون بعض الكتاب وتكفرون ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا كجزاء من حرف كلمة الله من أهل الكتاب قبلكم: {إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون}. فلن تسعدوا بثمرات هذا الدين من سلام وسكينة إلا بالتزامه كله وحمايته من أعدائه والمستهترين به من داخله أو من خارجه.. وقد بعث الله نبيه سلاما على العالمين بل رحمةً لا تعرف العنت ولا النضوب؛ فكان مثالاً للأسوة الحسنة في الغضب وفي الرضى؛ عدلاً بلا جفاء؛ ولطفاً بلا ارتخاء؛ فكان جماع السلم عنده قول الحق سبحانه: ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون﴾، ﴿وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون﴾. ولذا كان حريصاً على دفع النقائض كما حرص على درء النقائص؛ ولم يجعل من معالم الإحسان فيه الرضى بالدُّون والهُون؛ بل أرسى دعائم لردع المعتدي ولنصرة المظلوم كما في قوله تعالى: ﴿وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا﴾. وهذا عمل إنساني في الدرجة الأولى؛ فنصرة المظلومين هدف أساسي من أهداف الإسلام وهو من صور السلم فيه؛ لأنه لا سلم بالانتقاء ولا سلم مع الإرهاب والأعداء المعتدين الظالمين، ولا سلم بدون عدل واعتدال وتكافؤ.. وقد شهد التاريخ الإسلامي -بعيدا عن شواذ الصور وكَذبات بعض المؤرخين- بنصاعة مُثله في حماية كل الشعوب ومسالمة كل الأديان إلا من بارزه بالاعتداء وأضمر له السوء وتأبط له الشر والمظاهرةَ لاستضعافه واستئصاله؛ فعاش الجيران نظراء وسموا أهل ذمة لأنها أعلى كناية عن ما يلزم فيه الوفاء والامتثال ويحرم فيه النقض والاختلال؛ فالذمة بمعنى الكلمة الملزمة التي تعلق بالرقبة ولو استدعى الوفاء بها قطعها وموتاً في سبيلها.. فهل رأيتم دينا أو منهجاً يصل إلى درجة الموت في سبيل المعاهد وفاء له واعترافاً بحقه وليس حماية له عصمة لدمه فقط. ولقد أوضح جلالة الملك محمد السادس حفظه الله هذه المُسلَّمة بجلاءٍ في مستهل كلمته بمؤتمر مراكش إذ قال وفقه الله: {فالموضوع الذي ستناقشونه، وهو “حقوق الأقليات الدينية في البلاد الإسلامية” ما كان ليطرح من الناحية المبدئية، بالنظر إلى ما هو معروف من أحكام الإسلام وهديه وتراثه الحضاري في هذا الباب، ولكن الوقائع التي دعت إلى طرحه في هذه الظروف تستدعي من المسلمين أن يوضحوا أنها وقائع غير مستندة إلى أي نصوص مرجعية في الإسلام، وأن يبينوا، إن كان الأمر يحتاج إلى بيان، أن لبعض تلك الوقائع التي تقنعت بالدين سياقات وحيثيات لا تمت إلى الدين بصلة، لذلك نعبر عن ارتياحنا لانعقاد هذا المؤتمر بقصد التعريف بالقيم الصحيحة للأديان والسعي إلى تفعيل هذه القيم من أجل السلم والتضامن لخير البشرية جمعاء} اه. إن الذي نحتاجه اليوم ليس البحث في حقوق الأقليات في بلاد المسلمين؛ فهذا ليس بالمعضلة عند المسلمين لا في ماضيهم ولا حاضرهم؛ ولكن المعضلة الأهم هي في ثلاثة أمور: -1- الأول: هل الأقليات في بلاد المسلمين على ندرتها تحترم الإسلام والمسلمين وتشارك بإيجابية المواطنة أمانة بلا خيانة وبامتثال واستقلال بلا اختلال ولا استغلال؟ -2- والثاني: هل الأقليات المسلمة في كافة بلاد العالم تحظى بالرعاية المستحقة من المضيفين وهل تحظى بالمتابعة من دولنا الإسلامية لرعاياها بالدفاع والترقية وحفظ الكرامة؟؟ بل والمستضعفين من اللاجئين الذين كشفوا الوجه القبيح للنفاق العالمي وللتصالح المبطن بين المستبد والسلطة؛ بل والأقليات السنية في بلاد الأحواز العربية التي تعاني من طغيان طهران الفارسي الرافضي؛ ناهيك عن صورٍ تبلّد شعورنا تجاهها بدافع الاعتياد؛ كما هو الشأن لإخواننا في فلسطين وفي بورما وفي العراق وغيرها والله المستعان… وهذا ما أُراه منصوصاً عليه في كلمة جلالة الملك محمد السادس وفقه الله المذكورة آنفاً إذ قال: {وكلما تأملنا مختلف الأزمات التي تهدد الإنسانية ازددنا اقتناعا بضرورة التعاون بين جميع أهل الأديان وحتميته واستعجاليته وهو التعاون على كلمة سواء قائمة لا على مجرد التسامح والاحترام بل على الالتزام بالحقوق والحريات التي لابد أن يكفلها القانون ويضبطها على صعيد كل بلد، غير أن الأمر لا يكفي فيه مجرد التنصيص على قواعد التعامل بل يقتضي قبل كل شيء، التحلي بالسلوك الحضاري الذي يقصي كل أنواع الإكراه والتعصب والاستعلاء} اه. -3- بل إن الأقليات في بلاد المسلمين ليست بتلك المعضلة التي تؤرق الأنظار وتستدعي التنظير بقدر ما تحتاجه الأغلبيات المقهورة التي تعاني من سطوة الأقليات المتنفذة بالمال والجاه والقوة؛ والأغلبيات التي تعاني الاضمحلال في أوطانها بعد أن عمها تسونامي الوافدين من جنسيات وديانات ولهجات؛ أرجعتها أقلياتٍ في بلدانها؛ وجعلت تاريخها أجنبيا ولسانها أعجمياًّ؛ رغم انتمائها الجغرافي للإسلام وللعروبة .. وهذا الاضمحلال للأغلبية والاستيلاء عليها أشد خطورة من نظريات الأقليات في البلاد المسلمة… إنني أدعوا العالم وأدعوا هذا المنتدى الكريم أن يعقد منتدى للعدل ومنتدى للكرامة؛ قبل أن يعقد منتدى للسلم؛ فإنه لا خوف على السلم إن حفظ العدل وروعيت الكرامة… والحمد لله رب العالمين…